(الصفحة 355)
التوبة التي هي معصية(1) .
ويرد عليه : أنّ التكليف بالتوبة إنّما هو في خصوص المعصية الكبيرة ،
أو الصغيرة غير المكفّرة باجتناب الكبائر. وأمّا الذنب الصغير المكفّر باجتنابها ، فلا يحتاج إلى التوبة أصلا ، فهذا الدليل فاسد .
فينقدح من جميع ما ذكرنا صحّة ما حكي(2) عن الشهيدين(3) والمقدّس الأردبيلي(4) ـ قدّس الله أسرارهم ـ من أنّهم بعد تقسيم الإصرار إلى فعليّ وحكميّ ، وأنّ الفعليّ هو الدوام على نوع واحد من الصغائر بلا توبة ، أو الإكثار من جنسها كذلك ، قالوا : والحكميّ هو العزم على فعل تلك الصغيرة بعد الفراغ منها ، إذاً فالظاهر عدم تحقّق الإصرار بمجرّد الارتكاب وعدم الندم وإن كان متوجّهاً
إلى صدوره ملتفتاً إلى إتيانه .
[اعتبار الاجتناب عن خصوص الكبائر في تحقّق العدالة]
الأمر الثاني : في أنّ المعتبر في العدالة هل هو اجتناب خصوص الكبائر
الشاملة للإصرار على الصغائر ، أو الأعمّ منه ومن اجتناب الصغائر أيضاً؟ والعمدة في مستند القول الأوّل صحيحة عبدالله بن أبي يعفور المتقدّمة(5) ، بناءً
على ما استظهرنا منها(6) من أ نّ قوله(عليه السلام) : «ويُعْرَف باجتناب الكبائر» عطف على
قوله(عليه السلام) : «أن تعرفوه بالستر والعفاف» .
- (1 ، 2) مفتاح الكرامة : 3 / 88 .
-
(3) القواعد والفوائد : 1 / 227 ، قاعدة 68 ، الروضة البهيّة : 3 / 130 .
-
(4) مجمع الفائدة والبرهان : 12 / 320 .
-
(5) في ص313 .
-
(6) في ص 319.
(الصفحة 356)
وعليه : فيكون من تتمّة المعرّف للعدالة أو تخصيصاً بعد التعميم ،
ويصير حاصل المراد أنّ العدالة هي ملكة الستر والعفاف الرادعة عن
ارتكاب شيء من القبائح العرفيّة غير اللائقة بحاله ، وملكة الاجتناب
عن خصوص المعاصي الكبيرة التي أوعد الله عليها النار ، ولازمه حينئذ أنّ
ارتكاب شيء من المعاصي الصغيرة عند عدم الإصرار عليه لا يكون بقادح في
العدالة .
ودعوى أ نّه كيف لا يكون ارتكاب المعصية قادحاً في العدالة ؟ مدفوعة بأنّها مجرّد استبعاد لا يقاوم الظهور اللفظي بعد كون ارتكابها مكفّرة باجتناب الكبائر المفروض في المقام .
نعم ، لو قيل بأنّ قوله(عليه السلام) : «ويُعرف باجتناب الكبائر» ليس من أجزاء المعرّف للعدالة ، بل أمارة شرعيّة عليها ـ كما استظهره بعض الأعاظم من المعاصرين على ما عرفت من كلامه(1) ـ فلا دليل حينئذ على كون العدالة هي الملكة الرادعة عن ارتكاب خصوص الكبائر ، بل مقتضى قوله(عليه السلام) : «أن تعرفوه بالستر والعفاف إلخ» أ نّ العدالة هي ملكة الستر والعفاف الباعثة على كفّ البطن والفرج واليد واللسان عن كلّ ذنب ; سواء كان من الكبائر أو من الصغائر .
غاية الأمر أنّ الأمارة الشرعيّة على ذلك إنّما هو الاجتناب العملي عن خصوص الكبائر ، ومن المعلوم أنّ الرجوع إلى الأمارة إنّما هو مع عدم العلم بخلافها الذي يتحقّق بارتكاب صغيرة من الصغائر .
هذا ، وقد عرفت(2) أنّ هذا المعنى بعيد عن سياق الرواية مخالف لقوله(عليه السلام) :
(الصفحة 357)
«يُعْرَف» بصيغة المذكّر .
نعم ، يمكن أن يورد على ما ذكرنا بأنّ اعتبار الاجتناب عن خصوص المعاصي الكبيرة ينافي قول الإمام(عليه السلام) في ذيل الرواية : «والدلالة على ذلك كلّه أن يكون ساتراً لجميع عيوبه» ; فإنّ مقتضاه أن يكون ساتراً للذنوب الصغيرة أيضاً ، بداهة أنّها أيضاً من العيوب ، ومقتضى هذا القول أن يكون ساتراً لجميعها .
ولكنّ الجواب عنه ـ مضافاً إلى إمكان دعوى كون المراد من العيوب هي خصوص الكبائر منها ، بقرينة قوله(عليه السلام) في الصدر : «ويُعرف باجتناب الكبائر» في مقام تعريف العدالة وبيان معناها ـ : أ نّه لا مانع من الالتزام بكون المراد بالعيوب هنا جميعها ، نظراً إلى أنّ الأمارة الشرعيّة على العدالة هي أن يكون الشخص ساتراً لعيوبه بأجمعها ، ولا منافاة بين أن يكون المعتبر في حقيقة العدالة وماهيّتها خصوص الاجتناب عن الكبيرة ، وبين أن يكون الدليل الشرعي عليها هو الستر لجميع المعاصي ; فإنّ الرجوع إلى الأمارة إنّما هو مع الشكّ وعدم العلم .
ضرورة أ نّه لا مجال للأمارة مع العلم بالواقع ، ففي صورة الشكّ في تحقّق العدالة وحصول الاجتناب عن الكبيرة تكون الأمارة الشرعيّة هو الستر لجميع عيوبه وإخفاء جمع المعاصي وآثامه ، كما أ نّه لا محيص عن الالتزام بذلك بعد ملاحظة ما ذكرنا من عدم كون ترك الواجبات معدوداً من الكبائر ; لما عرفت(1) من تعدادها ، وعدم كون ترك شيء من الواجبات منها ، بضميمة ما في ذيل الصحيحة من اعتبار المواظبة على الصلوات الخمس والحضور في جماعة المسلمين ; فإنّ ترك الصلاة حينئذ لا يكون من الكبائر ، فكيف جعلت المواظبة عليها أمارة شرعيّة على تحقّق
(الصفحة 358)
العدالة التي تتقوّم بالاجتناب عن خصوص الكبائر فقط ؟ فإنّ الجمع بين الأمرين إنّما يتحقّق بأ نّه لا يلزم أن يكون المعتبر في الأمارة على شيء أن لا يتعدّى عن الخصوصيّات الدخيلة فيه ، خصوصاً إذا كانت أمارة شرعيّة تعبّدية .
اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ المواظبة على الصلوات الخمس وحفظ مواقيتها لا يتوقّف على الحضور في جماعة المسلمين دائماً ، بل يكفي الحضور فيها نوعاً ، وحينئذ لامانع من جعل ذلك أمارة شرعيّة ; لأنّ ترك الصلاة أيضاً بناءً على ذلك يكون الإصرار عليه قادحاً في تحقّق العدالة لفرض كونه صغيرة ، إلاّ أن يستبعد كون ترك الصلاة من جملة المعاصي غير الكبيرة ; لكنّه لا يقاوم هذا الاستبعاد مع الروايات الكثيرة المتقّدمة الواردة في تعداد الكبائر(1) ، ولم يقع فيها التعرّض لكون ترك الصلاة منها ، كما عرفت(2) مدلول الروايات إجمالا .
فالإنصاف أ نّه لم يظهر من ذيل الرواية ما ينافي صدرها ، الظاهر في اعتبار الاجتناب عن خصوص المعاصي الكبيرة في تحقّق العدالة واقعاً .
ثمّ إنّ المحقّق الهمداني(قدس سره) ذكر في هذا المقام كلاماً محصّله : أنّ الذي يقوى في النظر أنّ صدور الصغيرة أيضاً إذا كان عن عمد والتفات تفصيليّ إلى حرمتها كالكبيرة مناف للعدالة ، ولكنّ الذنوب التي ليست في أنظار أهل الشرع كبيرة قد يتسامحون في أمرها ، فكثيراً ما لا يلتفتون إلى حرمتها حال الارتكاب ، أو يلتفتون إليها ولكن يكتفون في ارتكابها بأعذار عرفيّة مسامحة ، كترك الأمر بالمعروف ، أو النهي عن المنكر ، أو الخروج عن مجلس الغيبة ونحوها حياءً ، مع كونهم كارهين لذلك في نفوسهم ، فالظاهر عدم كون مثل ذلك منافياً لاتّصافه بالفعل عرفاً بكونه من أهل
(الصفحة 359)
الستر والعفاف والخير والصلاح .
وهذا بخلاف مثل الزنا واللواط ونظائرهما ممّا يرونها كبيرة ; فإنّها غير قابلة عندهم للمسامحة ، فهذا هو الفارق بين ما يراه العرف صغيرة وكبيرة ، فإن ثبت بدليل شرعيّ أنّ بعض الأشياء التي يتسامح فيها أهل العرف ولا يرونها كبيرة ، كالغيبة مثلا حاله حال الزنا ، والسرقة لدى الشارع في كونها كبيرة ، كشف ذلك عن خطأ العرف في مسامحتهم ، وأنّ هذا أيضاً كالزنا مناف للعدالة مطلقاً ، فالذي يعتبر في تحقّق وصف العدالة أن يكون الشخص من حيث هو لو خلّي ونفسه كافّاً نفسه عن مطلق ما يراه معصية ، ومجتنباً بالفعل عن كلّ ما هو كبيرة شرعاً أو في أنظار أهل العرف(1) .
والجواب عن ذلك أ نّه ـ بعد دلالة الصحيحة المتقدّمة على أنّ الذي تتقوّم به العدالة هو الاجتناب عن خصوص المعاصي الكبيرة ، كما استظهرنا منها . وبعد ورود الروايات الكثيرة في تعداد الكبائر ـ لا مجال لتوهّم كون ارتكاب الصغيرة أيضاً قادحاً في العدالة ، وإن كان حال الارتكاب ملتفتاً إلى حرمتها ولم يكن هناك عذر موجب للتسامح أصلا ، كما لا يخفى .
هذا ، مع أ نّه لم يعلم حقيقة مرامه(قدس سره) ، وأ نّه هل هو بصدد التفصيل بين ما يراه العرف صغيرة ، وبين ما يراه كبيرة . أو بصدد التفصيل بين ما يكون هناك عذر موجب للتسامح ، وبين ما لا يكون كذلك . أو بصدد التفصيل بين ما إذا كان حال الارتكاب متوجّهاً إلى حرمتها ، وبين ما إذا لم يكن . أو في مقام الفرق بين الشرع والعرف؟ والظاهر بطلان التفصيل بجميع احتمالاته الأربعة ، والتفصيل الصحيح
- (1) كتاب الصلاة من مصباح الفقيه : 675 .