(الصفحة 165)
ولاينحصر بالأدلّة اللُّبيّة ; لِما عرفت(1) من الوجوه المتقدّمة المتعدّدة الدالّة على تعيّن تقليد الأعلم ، مع العلم بالاختلاف، فراجع .
وأمّا ما أُفيد أخيراً من إحراز الفرديّة بمعونة الأصل الموضوعي ، فيرد عليه : عدم تماميّته في المقام ; لأنّ إجراء استصحاب عدم المخالفة نظير استصحاب عدم القرشيّة قد حقّقنا في الاُصول عدم تماميّته ; لعدم وجود الحالة السابقة ، وإجراؤه بنحو الاستصحاب النعتي أيضاً غير تامّ ; لأنّ عدم الاختلاف في الفتوى قبل الاجتهاد أو الاستنباط إنّما هو بنحو السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع ، ومجرّد ثبوت الشخصين لايصحّح النعتيّة بوجه ، بل لابدّ من ملاحظة وجود موضوع الاختلاف وهو الفتوى والنظر والرأي والاعتقاد ، وليس له حالة سابقة كما هو ظاهر . هذا ، وقد عرفت(2) الجواب عن أصل الاستدلال ; وهو منع الإطلاق كما مرّ .
الثاني : أنّ الأئمة(عليهم السلام) قد أرجعوا عوامّ الشيعة إلى خواصّ أصحابهم ; كزرارة ، ومحمّد بن مسلم ، ويونس بن عبدالرحمن ، وزكريا بن آدم ، وأضرابهم ، وهم على تقدير كونهم متساويين في الفضيلة ، فلا أقلّ من أنّ بينهم الإمام(عليه السلام) الذي لايحتمل فيه الخطأ والاشتباه أصلا ، فالوجه في الإرجاع إنّما هو عدم معلوميّة الاختلاف بينهم وبينه(عليه السلام) .
وحينئذ نقول : إذا جاز تقليد غير الأعلم مع وجود الأعلم الذي لا يجري فيه احتمال الخطأ عند عدم العلم بالاختلاف ، فجوازه مع وجود الأعلم الذي يجري فيه هذا الاحتمال في هذه الصورة بطريق أولى (3).
- (1) في ص 140 ـ 153 .
-
(2) في ص 154 .
-
(3) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد والتقليد: 162.
(الصفحة 166)
والجواب عنه ما مرّ سابقاً(1) من أنّ الظاهر أنّ الإرجاع إنّما هو لأجل عدم الاختلاف بينهم وبينه لعدم الواسطة ، لا لأجل عدم العلم بالاختلاف ، مضافاً إلى أنّ الوصول إلى الإمام(عليه السلام) لم يكن ميسوراً غالباً ; لوجود موانع كثيرة وروادع متنوّعة ، وقد صرّح ببعضها في بعض روايات الإرجاع ، كرواية الإرجاع إلى زكريا بن آدم ، حيث يقول الراوي : شقّتي بعيدة ولست أصل إليك في كلّ وقت(2) . فلا مجال للاستدلال بهذه الروايات على حكم المقام .
الثالث : التمسّك بالسيرة العقلائيّة مع عدم العلم بالاختلاف (3).
والجواب ما مرّ سابقاً(4) من أنّ السيرة قد استقرّت على الرجوع إلى الأعلم ولو مع الشكّ في المخالفة . غاية الأمر فيما إذا كانت الخصوصيّات التي ذكرناها محفوظة . فالإنصاف أ نّه لا فرق في تعيّن تقليد الأعلم بين صورة العلم بالمخالفة وصورة الشكّ فيها أصلا ، وأنّ الدليل على التعيّن في المقامين واحد . هذا تمام الكلام
في المقام الأوّل .
المقام الثاني : في وجوب الفحص عن الأعلم ، والدليل على الوجوب هو الدليل على وجوب الفحص عن المجتهد ; لأ نّه إذا لم يرد المكلّف العامّي العمل على طبق الاحتياط الذي به يحصل القطع بالامتثال وتحقّق الفراغ عن عهدة التكاليف
- (1) في ص 154 ـ 155 .
-
(2) اختيار معرفة الرجال ، المعروف بـ «رجال الكشّي» : 595 ح1112 ، وعنه وسائل الشيعة : 27 / 146 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب11 ح27 .
-
(3) رسالة في تقليد الأعلم للمحقّق الرشتي: 71; التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد والتقليد: 162ـ163.
-
(4) في ص161 .
(الصفحة 167)
المعلومة بالإجمال ، المنجّزة عليه بسبب هذا العلم ، وأراد الاستناد إلى الحجّة وتطبيق العمل عليها ، فلابدّ له من الفحص عنها ليظفر بها ، وكما أنّ فتوى المجتهد حجّة عليه مع الانفراد فيجب الفحص عنها ، كذلك فتوى الأعلم حجّة عليه تعييناً ، بناءً على تعيّن تقليده كما اخترناه ، فيجب الفحص عنها ، كما أنّ المجتهد يجب عليه الفحص عن الحجّة إذا لم يرد الاحتياط ، وممّا ذكرنا ظهر أنّ وجوب الفحص وجوب عقليّ إرشاديّ ، والغرض منه عدم وقوع المكلّف في معرض احتمال المخالفة المستتبعة للعقوبة ، كما هو واضح .
المقام الثالث : فيما إذا تساوى المجتهدان في العلم ، أو لم يعلم الأعلم منهما .
أمّا صورة إحراز التساوي ، فقد مرّ(1) البحث عنها مفصّلا في المسألة الرابعة المتعرّضة لبحث العدول .
وأمّا صورة عدم العلم بالأعلم منهما ; بمعنى وجود الأعلم يقيناً بينهما وجريان احتمال الأعلميّة في كلّ منهما ، فالحكم فيها لا محالة هو التخيير ; لثبوت الحجّيّة لكلتا الفتويين وعدم مزيّة في البين ; لجريان احتمال الأعلميّة في كلا المجتهدين ; لكنّه فيما إذ لم يكن المورد من موارد إمكان الاحتياط ، إمّا لأجل عدم إمكانه بنفسه ،
وإمّا لأجل عدم سعة الوقت للجمع بين الفتويين ، وأمّا إذا كان المورد من موارد إمكان الاحتياط فسيأتي البحث عنه في المسألة السادسة ، ولا فرق بين أن تكون المخالفة بينهما معلومة أو مشكوكة .
نعم ، لو كان هناك احتمال التساوي أيضاً يتحقّق فرق ، من جهة أ نّه ـ مع عدم هذا الاحتمال ـ لا مجال لجريان استصحاب عدم الأعلميّة بوجه ; لأجل المعارضة
(الصفحة 168)
والمخالفة للعلم الإجمالي بوجود الأعلم في البين ، ومعه لا مانع من جريانه من هذه الحيثيّة ; لعدم وجود العلم الإجمالي ، إلاّ أ نّه لا يترتّب عليه ثمرة ; لأنّ الحكم بالتساوي الذي هو حكم العقل إنّما يكون موضوعه مجرّد جريان احتمال الأعلميّة في كلا المجتهدين ، فلا حاجة إلى إثبات التساوي بالاستصحاب ، وهذا نظير حكم العقل بلزوم الإتيان بالواجب الذي شكّ في الإتيان به وتحقّق الفراغ عن عهدته ; فإنّ مجرّد الشكّ يكفي في حكم العقل بالاشتغال ، ولا حاجة إلى إثبات عدم الإتيان بالاستصحاب ، كما هو غير خفيّ .
المقام الرابع : فيما إذا كان المجتهدان متساويين في العلم ، ولكنّه كان أحدهما المعيّن أورع أو أعدل ، وقد حكم في المتن بأنّ الأولى الأحوط اختياره ، ومرجعه إلى عدم تعيّنه ; لعدم كون الاحتياط بنحو الوجوب ، ولكنّه ربما يقال بأ نّه يجب على المكلّف العامّي اختياره ، وأنّ الأورعيّة مرجّحة مثل الأعلميّة ، بل يظهر من العروة(1) قيام الدليل على مرجّحيّة الأورعيّة ، واقتضاء حكم العقل بالاحتياط مرجّحيّة الأعلميّة ، وعليه : فتكون الأورعيّة أقوى من الأعلميّة ، وكيف كان ،
فما يمكن أن يستدلّ به على مرجّحية الأورعيّة اُمور :
أحدها : المقبولة وما يشابهها من الروايات الواردة في باب القضاء ، الدالّة على الترجيح بالأورعيّة ، ففي المقبولة : الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما
في الحديث وأورعهما(2) .
والجواب : ما عرفت من ورودها في باب القضاء وفصل الخصومة(3) ، ولم يقم
- (1) العروة الوثقى : 1 / 7 مسألة 13 .
-
(2) تقدّمت في ص 146 .
-
(3) في ص147 ـ 151 .
(الصفحة 169)
دليل على أنّ كلّ ما هو مرجّح هناك فهو مرجّح في باب التقليد والفتوى ، ولا مجال لإلغاء الخصوصيّة بعد كون غرض الشارع في ذلك المقام هو فصل الخصومة وقطعها ، بحيث لا يبقى نزاع بين المؤمنين الذين هم إخوة ويد واحدة ، ولا مجال فيه للتوقّف أو التخيير أو أشباههما ، وهذا بخلاف باب التقليد الذي مناطه رجوع الجاهل إلى العالم ، وأخذ العامي بالحجّة فراراً عن الاحتياط اللازم بحكم العقل ، وهذا لا ينافي التخيير بوجه .
مع أنّ ظاهر المقبولة كون الأوصاف الأربعة مرجّحة في حال الاجتماع ، لا كون كلّ واحد مرجّحاً مستقلاًّ ، فالاستدلال بمثل ذلك ممّا ليس له مجال .
ثانيها : دعوى الإجماع على أنّ العامي لا يجب عليه الاحتياط ، بل يجوز له أن يستند في أعماله مطلقاً إلى فتوى من يجوز تقليده من المجتهدين (1).
وقد اُورد عليها بأنّ الإجماع المدّعى إن قلنا بأ نّه تامّ في نفسه فلا مناص من أن تكون الأورعيّة مرجّحة في المقام ; لأنّ العامي مكلّف بالرجوع إلى أحد المجتهدين المتساويين في الفضيلة ، فإذا كان أحدهما أورع ـ كما هو الفرض ـ دار الأمر بين أن تكون فتوى كلّ منهما حجّة تخييريّة وأن تكون فتوى الأورع حجّة تعيينيّة ، وقد مرّ أنّ الأمر في الحجّية إذا دار بين التعيين والتخيير يجب الأخذ بما يحتمل تعيّنه ، وإن قلنا بأ نّه غير تامّ ـ كما هو كذلك ـ فلا مجال لمرجّحيّة الأورعيّة أصلا (2).
ويمكن الجواب عن هذا الإيراد بأنّ الإجماع على تقدير تماميّته لا يقتضي مرجّحيّة الأورعيّة ، بل المقتضي لها ـ كما ذكر ـ إنّما هو حكم العقل بوجوب الأخذ
- (1) رسالة في الاجتهاد والتقليد للشيخ الأنصاري، ضمن مجموعة رسائل: 48 ـ 49، مستمسك العروة الوثقى: 1 / 21.
-
(2) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد والتقليد: 175 .