(الصفحة 44)
وقد اُورد على الاستدلال بالروايتين بوجوه أُخَر من الإيراد أيضاً ، لكنّها غير مجدية أو خالية عن الخدشة ، فراجعها .
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا أ نّه لم يقم دليل على تأخّر رتبة الامتثال الإجمالي عن التفصيلي ، بل الظاهر حكم العقل بكونهما في رتبة واحدة .
في حكم صورة الشك
نقول : إنّ الشك المتصوّر تارة: في المسألة الفقهيّة ، وأنّ قصد الوجه مثلا مع فرض عدم إمكان رعايته في الامتثال الإجمالي هل يكون معتبراً في صحّة العبادة وتحقّق الطاعة أم لا؟ وأُخرى: في المسألة الأُصوليّة ، وهي تساوي مرتبتي الامتثالين أو تأخّر الإجمالي عن التفصيلي ، وثالثة: في صغرى المسألة الأُصولية ; مثل الشك في أنّ قصد الوجه المعتبر في العبادة هل يمكن رعايته في الامتثال الإجمالي، أم لا يمكن إلاّ في الامتثال التفصيلي؟
أمّا الشكّ في المسألة الفقهيّة : فمع عدم وجود إطلاق رافع له ، أو عدم جواز التمسّك بالإطلاق يرجع إلى أصالة البرائة لو كان الترديد بين الأقلّ والأكثر في متعلّق التكليف ، وإلى أصالة الاشتغال لو كان الترديد بينهما في الأسباب والمحصّلات على اختلاف فروضه وصوره ، والمحكي عن الشيخ الأعظم(قدس سره) أ نّه ذهب إلى عدم دخل قصد الوجه في الإطاعة بنظر العقلاء ، فيرجع في دفعه إلى إطلاقات أدلّة الإطاعة ، فتأمّل(1) .
وأمّا الشكّ في المسألة الأُصوليّة : فالذي صرّح به في تقريرات المحقّق النائيني(قدس سره)
- (1) فرائد الاُصول : 1/417 ، رسالة في الاجتهاد والتقليد للشيخ الأنصاري ، ضمن مجموعة رسائل : 49 .
(الصفحة 45)
أ نّه يرجع فيه إلى أصالة الاشتغال ; لدوران الأمر فيه بين التعيين والتخيير ، نظراً إلى أنّ الاكتفاء بالامتثال الإجمالي مع القدرة على التفصيلي منه مشكوك لدى العقل ; فيدور الأمر بين تعيّن الثاني والتخيير بينه وبين الأوّل ، والحكم فيه هو الرجوع إلى أصالة الاشتغال(1) .
واُجيب عنه تارة : كما في المستمسك بأنّ مرجع الشك في المقام إلى الشكّ في اعتبار العلم بالأمر في تحقّق الإطاعة ، فيكون من قبيل الدوران بين الأقلّ والأكثر لا من قبيل الدروان بين التعيين والتخيير . نعم ، يتمّ ذلك بناءً على أنّ الباعث على العمل الاحتمال ; لتباين نحوي الامتثال ; إذ في أحدهما يكون الباعث الأمر، وفي الآخر الاحتمال ، فالشك في اعتبار الامتثال التفصيلي يكون من التردّد بين التعيين والتخيير(2) وأُخرى : كما في شرح بعض الأعلام بأنّ مرجع المقام إلى الشك في اعتبار أمر زائد في عبادية العبادة ; وهو لزوم الانبعاث عن بعث المولى مع الإمكان دون احتماله ، وفي مثله تجري البراءة على المختار(3) .
أقول : وفي الكلّ نظر :
أمّا ما أفاده المحقّق النائيني(قدس سره) ، ففيه : أ نّك عرفت أ نّه بعد اشتمال الامتثال الإجمالي على جميع الخصوصيّات المعتبرة في العبادة شرطاً وشطراً ، وعدم كون التكرار مستلزماً للإخلال بشيء من تلك الخصوصيّات لا يعقل أن لا يدرك العقل الاجتزاء والاكتفاء به ، وأن يبقى شاكّاً متردّداً بعد كون أجزاء المأتي به المطابق للواقع أمراً بديهيّاً لا يجري فيه الارتياب واحتمال الخلاف .
- (1) فوائد الاُصول : 3 / 73 .
-
(2) مستمسك العروة الوثقى : 1 / 8 ـ 9 .
-
(3) دروس في فقه الشيعة: 1/31 .
(الصفحة 46)
وأمّا ما أفاده الشارحان ، فيرد عليه ـ مضافاً إلى أنّ الشكّ في اعتبار العلم بالأمر في تحقّق الطاعة ، أو في اعتبار أمر زائد في عباديّة العبادة مرجعه إلى أنّ متعلّق التكليف هو عنوان الطاعة والعبادة بوصف أنّها عبادة ، والشكّ في مدخليّة شيء في هذا العنوان يكون المرجع فيه أصالة الاشتغال ; لعدم كون الترديد حينئذ بين الأقلّ والأكثر في متعلّق التكليف ، بل في السبب المحصّل للعنوان المأمور به كما هو غير خفيّ ـ : أ نّ هذا خروج عمّا هو المفروض من الشكّ في المسألة الأُصولية ; لأنّ المفروض هو صورة اشتمال الامتثال الإجمالي على جميع ما له دخل في صحّة العبادة واتّصاف المأتيّ به بكونه مطابقاً لما هو المأمور به ، ففرض الشكّ في اعتبار شيء آخر في تحقّق الطاعة أو في اتّصاف العبادة بالعبادية خارج عن محلّ الكلام ، فتدبّر جيّداً .
وأمّا الشكّ في صغرى المسألة الأُصوليّة : فالظاهر أنّ المرجع فيه هو أصالة الاشتغال ; للشكّ في تحقّق ما هو الدخيل في المأمور به قطعاً مع الاقتصار على الامتثال الإجمالي ; لأنّ المفروض الشكّ في إمكان رعاية مثل قصد الوجه المعتبر فرضاً في الاحتياط ، والمرجع في مثل هذا الشكّ أصالة الاشتغال بلا إشكال .
هذا تمام الكلام في الصورة الأُولى ; وهو الاكتفاء بالامتثال الإجمالي مع التمكّن من الامتثال التفصيلي .
وأمّا الصورة الثانية : أي صورة عدم التمكّن من الامتثال التفصيلي ، فالمصرّح بعدم جواز الاحتياط فيها هو الحلّي(قدس سره) على ما حكي عنه سابقاً(1) ; من حكمه بعدم جواز تكرار الصلاة في الثوبين المشتبهين بالنجاسة ، وأنّه لابدّ من أن يصلّي عارياً ،
(الصفحة 47)
والحقّ أ نّه لا مجال بعد الحكم بالجواز في الصورة الأُولى للمناقشة في هذه الصورة أصلا ، فجواز الاحتياط في كلتا الصورتين بمعنى الاجتزاء والاكتفاء به في مقام الامتثال ، أو ترتّب الأثر المقصود واضح لا ينبغي أن يخفى .
بقي في باب الاحتياط أُمور ينبغي أو يجب التنبيه عليها :
الأوّل : فصّل الشيخ الأعظم الأنصاري(قدس سره) في العبادات بين الشبهات البدوية والمقرونة بالعلم الإجمالي بالاكتفاء في الأُولى بمجرّد قصد احتمال الأمر ; لأ نّه هو الذي يمكن في حقّه ، وبعدم الاكتفاء به في الثانية ، بل اللازم قصد امتثال الأمر المعلوم بالإجمال على كلّ تقدير .
قال : ولازمه أن يكون المكلّف حال الإتيان بأحد المحتملين قاصداً للإتيان بالآخر ، إذ مع عدم ذلك لا يتحقّق قصد امتثال الأمر المعلوم بالإجمال على كلّ تقدير ، بل يكون قصد امتثال الأمر على تقدير تعلّقه بالمأتيّ به ، وهذا لا يكفي في تحقّق الامتثال مع العلم بالأمر(1) .
واعترض عليه المحقّق النائيني ـ على ما في التقريرات ـ بأنّ العلم بالأمر لا يوجب فرقاً في كيفيّة النيّة ، فإنّ الطاعة في كلّ من المحتملين ليست إلاّ احتمالية كالشبهة البدوية ، إذ المكلّف لا يمكنه أزيد من قصد امتثال الأمر الاحتمالي عند الإتيان بكلّ من المحتملين ، وليس المحتملان بمنزلة فعل واحد مرتبط الأجزاء حتى يقال : العلم بتعلّق التكليف بالفعل الواحد يقتضي قصد امتثال الأمر المعلوم ، فلو أتى المكلّف بأحد المحتملين من دون قصد الإتيان بالآخر يحصل الامتثال على
- (1) فرائد الاُصول: 2/303 ـ 304، لكن ليس فيها بهذه العبارة، بل هذه العبارة بعينها محكيّة عنه(قدس سره) في فوائد الاُصول: 4/136 وتهذيب الاُصول: 2/373 ـ 374 .
(الصفحة 48)
تقدير تعلّق الأمر بالمأتيّ به ، وإن كان متجرّياً في عدم قصده الامتثال على كلّ تقدير(1) .
وأجاب عن هذا الاعتراض سيّدنا العلاّمة الاُستاذ الماتن ـ دام ظلّه العالي ـ بأنّ الفرق بين الصورتين من حيث الداعي واضح جدّاً ; لأنّ الداعي في الأُولى ليس إلاّ احتمال الأمر ، وفي الثانية له داعيان : داع إلى أصل الإتيان وهو الأمر المعلوم ، وداع إلى الإتيان بالمحتمل لأجل احتمال انطباق المعلوم عليه ، والانبعاث في كلّ من المحتملين إنّما هو عن هذين الداعيين . غاية الأمر أنّ الدّاعي الثاني ناشئ من الداعي الأوّل ، فالداعي الأوّل هو الأمر المعلوم تعلّقه بما ينطبق على أحد المحتملين لا احتمال الأمر . غاية الأمر أ نّه ينشأ من هذا الداعي إرادة الإتيان بكلّ من المحتملين ; لتوقّف الإتيان بالمأمور به عليه(2) .
وحينئذ فقد يكون المكلّف بمثابة ينبعث من الأمر المعلوم بحيث يحصل له الداعي إلى الإتيان بالمحتملين معاً ; لأ نّه لا يرضى إلاّ بالموافقة القطعيّة التي لا تحصل إلاّ بالإتيان بهما ، وقد يكون بحيث ينبعث من الأمر المعلوم بمقدار لا يحصل له إلاّ الداعي إلى الإتيان بأحد المحتملين ; لأ نّه يخاف من المخالفة القطعية الحاصلة بترك كلا المحتملين معاً ، وحينئذ فلو أتى بأحدهما وصادف الواقع يكون ممتثلا ; لأنّ الداعي له هو قصد الامتثال بالنسبة إلى الأمر المعلوم ، لا لأجل ما أفاده المحقّق النائيني من كفاية الإتيان باحتمال الأمر .
واستضعف ـ دام ظلّه ـ ما أفاده الشيخ(رحمه الله) بعدم الدليل على الجزم في النيّة ، بل
- (1) فوائد الاُصول : 4 / 136 ـ 137 .
-
(2) تهذيب الاُصول : 2 / 375 .