(الصفحة 325)
المسلمين لا ينافي عدم كونه ساتراً لعيوبه ، فلا معنى لجعله طريقاً في قبال الستر للعيوب ، خصوصاً مع كون ظاهر الرواية هو كون الستر للعيوب ، والحضور لجماعة المسلمين معاً طريقاً ودليلا ، لا كلّ واحد من الأمرين ـ : أ نّ ذلك كلّه خلاف ظاهر الرواية ; فإنّك عرفت أنّ السؤال فيها إنّما هو عن معنى العدالة ومفهومها ; لاختلاف المراجع في ذلك العصر في معناها ، وكان غرض السائل السؤال عمّا يُراد منها عند أئـمّة أهل البيت(عليهم السلام) ، والجواب لا ينطبق إلاّ على ذلك كما حقّقناه .
ثمّ إنّ ظاهر هذا التفسير أ نّه جعل قوله(عليه السلام) «ويُعْرَف باجتناب الكبائر» تتمّة للأمارة الأوّلية وجزءاً للمعرِّف والطريق ، وحينئذ يرد عليه : أنّ ظاهره كون الملكة المانعة عن اجتناب الكبيرة ناشئة عن الخوف والعقاب الذي أوعده الله تعالى على ارتكابها ، وحينئذ فلا يبقى فرق بين العدالة ، وبين الأمارة الكاشفة عنها أصلا ، كما لا يخفى .
ومنها : ما أفاده الشيخ الأعظم الأنصاري(قدس سره) في رسالة العدالة في معنى قوله(عليه السلام) : «وتُعرف باجتناب الكبائر» من أنّ الضمير في «تُعرف» إمّا راجع إلى العدالة ; بأن يكون معرّفاً مستقلاًّ ، وإمّا راجع إلى الشخص ; بأن يكون من تتمّة المعرّف الأوّل ، وإمّا أن يكون راجعاً إلى الستر وما عطف عليه ليكون معرِّفاً للمعرَّف ، وقوله(عليه السلام) : «والدليل على ذلك . . .إلخ» معرِّفاً ثالثاً . واستظهر في ذيل كلامه أنّ أظهر الاحتمالات المتقدّمة هو كونه تتمّة للمعرِّف ; بأن يجعل المراد بكفّ البطن والفرج واليد واللسان ، كفّها عن المعاصي الخاصّة التي تتبادر عند إطلاق نسبة المعصية إلى إحدى الجوارح . وحينئذ فيكون قوله(عليه السلام) : «وتعرف باجتناب الكبائر» من قبيل التخصيص بعد التعميم والتقييد بعد الإطلاق ، تنبيهاً على أنّ ترك مطلق المعاصي
(الصفحة 326)
غير معتبر في العدالة(1) .
ويرد عليه : أ نّه لا مجال لجريان الاحتمالات الثلاثة بعد كون قوله(عليه السلام) : «ويُعرف» بصيغة المذكّر كما في الوسائل وغيرها . وعليه : فلابدّ من رجوع الضمير إلى الرجل ، وأن تكون الجملة عطفاً على الجملة الأُولى تتمّة للمعرّف وجزءاً للمعنى والمفهوم . نعم ، المغايرة بين الجملتين ـ بناءً على ما اخترنا ـ إنّما هو بالتخصيص والتعميم من جهتين : من جهة شمول الجملة الأُولى لملكة المروءة ، والاجتناب عن مطلق المعاصي كبيرة كانت أو صغيرة ، واختصاص الثانية بخصوص المعصية الكبيرة .
ومنها : ما أفاده بعض الأعلام في الشرح على العروة ، ويرجع حاصله إلى أنّ الرواية لا دلالة لها بوجه على اعتبار الملكة في العدالة ، بل لا نظر لها إلى بيان حقيقة
العدالة بنفسها أو بلازمها ، وإنّما أوكلته إلى الراوي نفسه ; لوضوح معناها عند كلّ من يفهم اللغة العربيّة ; أعني الاستقامة وعدم الانحراف ، وإنّما سيقت الرواية لبيان كاشفها ومعرّفها ، وقد جعلت الكاشف عنها هو الاشتهار والمعروفيّة والستر وغيرهما ممّا ورد في الحديث ، إذن هي كواشف تعبديّة عن العدالة ، وحيث إنّ معرفة كون المكلّف معروفاً بالعفاف يتوقّف على الصحبة وطول المعاشرة ، فقد جعل(عليه السلام)الاجتناب عن الكبائر طريقاً وكاشفاً عن المعروفيّة بترك المحرّمات والإتيان بالواجبات .
ثمّ إنّ كونه مجتنباً عن الكبائر لـمّا لم يكن أمراً ظاهراً في نفسه ، وكان محتاجاً إلى طول المعاشرة احتاج ذلك أيضاً إلى طريق كاشف عنه ; وهو كون الرجل ساتراً
- (1) رسالة في العدالة للشيخ الأنصاري : 13 ، 15 و16 .
(الصفحة 327)
لجميع عيوبه ، وهذا هو المعبّر عنه بحسن الظاهر ، كما أ نّه جعل الإتيان بالفرائض في المجامع علناً وبمرئى ومنظر من الناس كاشفاً عن أنّ فاعلها مجتنب عن المحرّمات ، بحيث لو لم يتعاهد الفرائض في المجامع لم يحكم بعدالته ، وبعد ذلك لا دلالة في الرواية على اعتبار الملكة في العدالة بوجه ، بل هي بمعنى الاستقامة العمليّة في جادّة الشرع . نعم ، لابدّ وأن تكون مستمرّة وكالطبيعة الثانويّة للانسان حتى يصدق أ نّه مستقيم ; فإنّ الاستقامة في بعض الأوقات دون بعض لا يوجب صدق الاستقامة ، إنتهى ملخّصاً(1) .
وبملاحظة ما ذكرنا في معنى الرواية ينقدح الخلل في هذا الكلام من جهات كثيرة :
من جهة أنّ السؤال في الرواية إنّما هو عن معنى العدالة ومفهومها ، لا عن الأمارة الكاشفة بعد وضوح معناها عند السائل . وعليه : فقوله(عليه السلام) في الجواب : «أن تعرفوه» بيان لحقيقة العدالة وماهيّتها في لسان الشارع .
ومن جهة أنّه على تقدير كون السؤال عن الأمارة ، تكون الأمارة هي نفس عناوين الستر والعفاف وأشباههما ، لا المعروفيّة بهذه العناوين ، وليت شعري أنّه
ما معنى كون الكاشف هو الاشتهار والمعروفيّة والستر وغيرهما ; فإنّ جعل مثل الستر كاشفاً في مقابل الاشتهار والمعروفيّة ممّا لا يتصوّر ; فإنّه إن كان الكاشف هو المعروفيّة ، فلا وجه لكون الستر بنفسه كاشفاً . وإن كان الكاشف هو الستر ،
فلا معنى لكون المعروفيّة كاشفة في مقابل الستر . ثمّ إنّه بعد ما لا تكون الملكة معتبرة في العدالة ـ كما هو مدّعاه ـ لا يظهر وجه لكون مثل الستر والعفاف كاشفاً
- (1) التنقيح في شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 268 ـ 270 .
(الصفحة 328)
عنها ; لعدم المغايرة بين الكاشف والمكشوف عنه أصلا .
ومن جهة دلالة عناوين الستر والعفاف وأشباههما على اعتبار الملكة ، كما عرفت .
ومن جهة أنّ قوله(عليه السلام) : «ويُعرف» تتمّة للمعرّف الأوّل وجزء لمعنى العدالة ومفهومها ، لا أمارة عليها ، بل لا وجه للأماريّة بعد عدم دخالة الملكة في شيء من المعرِّف والمعرَّف ; فإنّه أيّ فرق بين اجتناب الكبيرة ، وبين مثل الستر والعفاف . وإن أُريد بهما المعروفيّة ، فمن الواضح أنّ مجرّد الاجتناب لا دلالة فيه على المعروفيّة أصلا .
ومن جهة أنّ التعاهد للصلوات الخمس لم يجعل في الرواية طريقاً لخصوص الاجتناب عن الكبيرة ، بل هو جزء من الطريق المركّب منه ، ومن كونه ساتراً لجميع عيوبه بالنحو الذي ذكرنا .
ومن غير هذه الجهات الذي لا يكون مخفيّاً على المتأمّل فيما ذكرناه وما أفاده .
في الكبيرة والصغيرة
والكلام في هذا الباب يقع في أمرين :
الأمر الأوّل : صحّة تقسيم المعاصي إلى الكبائر والصغائر ، واختلاف المعاصي من هذه الجهة التي يرجع إلى اتّصاف بعضها بكونها كبيرة مطلقة ، وبعضها الآخر بكونها صغيرة كذلك ، فنقول :
غير خفيّ على الناظر في صحيحة عبدالله بن أبي يعفور المتقدّمة(1) أنّها مشعرة
(الصفحة 329)
بل دالّة على أنّ المعاصي الشرعيّة على قسمين : كبيرة ، وصغيرة . كما أ نّها تشعر بأنّ ضابط الكبيرة هو ما أوعد الله تعالى عليها النار ، بناءً على كون الوصف توضيحيّاً لا احترازيّاً ، كما هو الظاهر .
ويدلّ على ذلك قبل الرواية قوله تعالى : {إِن تَجْتَنِبُوا كَبَآلـِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّـَاتِكُمْ}(1) . وقوله تعالى : {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَـلـِرَ الاِْثْمِ وَالْفَوَ حِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ}(2) . حيث إنّ الآيتين تدلاّن على اتّصاف بعض المنهيّات والآثام بوصف الكبر ، وبعض آخر بخلافه .
نعم ، تمكن المناقشة في الجميع ; بأ نّه لا دلالة لشيء منها على كون المعاصي على قسمين ، بل غاية مفادها أنّ الأُمور التي تعلّق بها النهي ، وينطبق عليها عنوان الإثم على قسمين ، وحيث إنّ النهي على قسمين : تحريميّ ، وتنزيهيّ ، فيمكن أن يكون المراد بالكبيرة خصوص ما تعلّق به النهي التحريمي ، الشامل لجيمع المعاصي في قبال ما تعلّق به النهي التنزيهي ، وإطلاق السيّئة على المكروه لا مانع منه أصلا ، كما أنّ انطباق الإثم عليه أيضاً كذلك ، ولا يكون في الرواية دلالة على أنّ المضاف إليه في قوله(عليه السلام) : «ويُعرف باجتناب الكبائر» هو خصوص المعاصي ، فلعلّ المراد به المنهيّات التي تكون أعمّ من المعاصي .
ولكنّ الظاهر أنّ هذه المناقشة موهونة ، والاحتمال لا يقاوم ظهور الآيتين والرواية في كون المحرّمات والمعاصي على قسمين : كبيرة ، وصغيرة . ويؤيّده ما عرفت من ظهور الرواية في كون الوصف توضيحيّاً لا احترازيّاً ، وأنّها بصدد إفادة
- (1) سورة النساء : 4 / 31 .
-
(2) سورة النجم : 53 / 32 .