(الصفحة 107)
وعدم الاستقلال لا يلازم عدم الصلاحيّة لها ، كما أ نّه ليس منقصة موجبة للسقوط عن الوقار والأنظار ; لعدم مدخلية الرقيّة في تنقيص الجهات الكماليّة الدنيويّة أو الاُخرويّة ، كما هو ظاهر .
السابع : كونه مجتهداً مطلقاً ، لا خفاء في أنّ المجتهد المتجزّئ ـ بناءً على إمكان التجزّئ في الاجتهاد وجواز حصول مرتبة من ملكة الاستنباط بحيث يقتدر بها على استنباط بعض المسائل كما هو الحقّ ـ يجوز له بل يجب عليه أن يعمل على طبق آرائه ونظراته ، ولا يجوز له الرجوع فيما استنبطه أو فيما يقدر على استنباطه من المسائل ـ على الخلاف المتقدّم(1) ـ إلى الغير ; لعدم وجود ملاك التقليد فيه ; فإنّ مناطه رجوع الجاهل إلى العالم لا العالم إلى مثله ، خصوصاً مع اختلافهما في النظر واعتقاد خطأ الغير واشتباهه .
وأمّا جواز رجوع العامّي إلى المتجزّئ في خصوص ما استنبطه من الأحكام فمحلّ إشكال ، وقد صرّح صاحب العروة(قدس سره) بعدم الجواز(2) ، وهو ظاهر سيّدنا العلاّمة الاُستاذ الماتن دام ظلّه ; فإنّ ظاهر اعتبار كونه مجتهداً هو اعتبار كونه مجتهداً مطلقاً ، ولكنّه لابدّ في هذا الأمر ـ كسائر الأُمور المتقدّمة ـ من إقامة الدليل على ثبوت الردع عن السيرة العقلائيّة في محيط الشريعة بالإضافة إلى هذه الخصوصيّة ، ومع عدم ثبوته يكون مقتضى السيرة عدم الفرق بين المطلق والمتجزّئ ; ضرورة أنّ العقلاء يرجع جاهلهم في شيء إلى العالم بذلك الشيء ، ولا يعتبرون العلم بغيره أصلا ، بل ربما يرجّحون المتجزّئ على غيره فيما إذا كان
- (1) في ص24 ـ 27 .
-
(2) العروة الوثقى : 1/9 مسألة 22 .
(الصفحة 108)
أعلم فيما استنبطه من المطلق ; لممارسته فيه وصرف عمره في الجهات والخصوصيّات الراجعة إليه .
وبالجملة : لا إشكال في عدم الفرق من جهة السيرة بين المطلق والمتجزّئ ، فلابدّ للقائل بالفرق من إقامة دليل على الردع .
فنقول : ما يمكن أن يكون رادعاً أُمور :
الأوّل : آية النفر المتقدّمة(1) الدالّة على اعتبار إنذار «الفقيه» وترتيب الأثر على قوله ورأيه .
وفيه : ـ بعد الغضّ عن عدم دلالة الآية على جواز التقليد بالكيفيّة التي هي محلّ البحث ، كما أسلفنا فيه الكلام مفصّلا(2) ـ :
أوّلا : أنّ غاية مفاد الآية حجّية قول الفقيه ، ولا دلالة لها على حصر الحجيّة فيه حتى تصلح للردع عن السيرة ، ومجرّد إثبات الحجيّة لرأي الفقيه لا ينافي ثبوتها لرأي غيره من المتجزّئ الذي استنبط واحداً أو اثنين من الأحكام الإلهيّة إلاّ إذا استفيد الانحصار ، والآية بعيدة عن إفادته .
وثانياً : أنّ المراد من «الفقيه» المذكور في الآية ليس إلاّ العارف بكثير من المسائل الفقهيّة ، لا خصوص المجتهد المطلق الذي يكون له ملكة استنباط جميع المسائل . وبعبارة أُخرى : النسبة بين عنوان «الفقيه» وعنوان «المجتهد المطلق» عموم وخصوص من وجه ; ضرورة أ نّه ربما لا يكون الفقيه مجتهداً مطلقاً ، كما فيما إذا لم تكن له تلك الملكة ، وربما لا يكون المجتهد المطلق فقيهاً ، كما فيما إذا لم يتصدّ المطلق للاستنباط أصلا ، وإن كانت الملكة حاصلة له .
(الصفحة 109)
ودعوى أنّ الملكة تتوقّف على الاستنباط فكيف يمكن حصولها بدونه؟ مدفوعة بأنّ الاستنباط يتوقّف على الملكة ، فلو كانت الملكة متوقّفة عليه لدار ، من دون فرق في هذه الجهة بين المطلق والمتجزّئ ، فكما أنّ الملكة في الثاني تكون متقدّمة على الاستنباط ، فكذلك في الأوّل ، وعليه : فلا دلالة للآية على اعتبار الاجتهاد المطلق بوجه .
الثاني : آية السؤال المتقدّمة(1) أيضاً ، ودلالتها على وجوب السؤال عن خصوص أهل الذكر ، وإن كانت ظاهرة باعتبار ظهور الوجوب في الوجوب التعييني عند دوران الأمر بينه وبين التخييري ، كما حقّق في محلّه من الاُصول(2) ، إلاّ أ نّه يرد على الاستدلال بها تارة : عدم دلالتها على حجيّة فتوى الفقيه ورأي المجتهد بوجه ، لا بلحاظ سياقها الظاهر في كون المراد بأهل الكتاب هم علماء اليهود والنصارى ، ولا بلحاظ ما ورد في تفسيرها من كون المراد به الأئـمّة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين(3) . واُخرى : عدم ملازمة الأهليّة للذكر للاجتهاد المطلق ; لما بيّنا من أنّ النسبة بين العنوانين عموم من وجه .
الثالث : رواية الاحتجاج المتقدّمة(4) المشتملة على قوله(عليه السلام) : «فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه ، حافظاً لدينه الخ» . وقد مرّ الكلام في سندها وما يتعلّق بالتفسير المنسوب إلى العسكري(عليه السلام)(5). وأمّا دلالتها ، فربما يقال : إنّ دلالتها على
- (1) في ص 77 .
-
(2) اُصول فقه شيعه: 3/420 ـ 434.
-
(3) الكافي : 1 / 210 ، باب أنّ أهل الذكر . . . هم الأئمّة(عليهم السلام) .
-
(4) في ص82 ـ 83 .
-
(5) في ص99 ـ 101 .
(الصفحة 110)
الحصر مورد المناقشة ; لأنّ الرواية ليست بصدد بيان أنّ المقلَّد ـ بالفتح ـ يعتبر أن يكون فقيهاً ، وإنّما هي بصدد بيان الفارق بين علماء اليهود وعلمائنا ، وعوامهم وعوامنا ، وأنّ عوامهم مع أنّهم كانوا يعرفون علماءهم بأنواع الفسق والفجور ، والتفتوا إلى أنّ من فعل ذلك فهو فاسق لا يجوز تقليده واتّباعه ، قد قلّدوهم واتّبعوا آراءهم ، ولذلك ذمّهم الله سبحانه . وأمّا عوامنا فلا يكونون مثلهم إلاّ إذا عرفوا من علمائهم الفسق الظاهر ، ومع ذلك لم يرفعوا يدهم عن تقليدهم ، فهم أيضاً مثل عوام اليهود ، فالرواية بصدد بيان الفارق من هذه الجهة وليست بصدد بيان اعتبار الفقاهة بوجه .
والجواب عن هذا الكلام ما ذكرنا سابقاً(1) من أنّ اشتمال الرواية على بيان قصّة علماء اليهود وعوامهم ، والفرق بين عوامنا وعوامهم لا يلازم عدم كون ذيلها متعرّضاً لبيان ضابطة كلّيّة وقاعدة عامّة لمن يجوز الرجوع إليه وتقليده في المسائل . والظاهر كونه مسوقاً لذلك وأ نّه بصدد بيان القاعدة حتى تكون هي المرجع في الباب ، ومن الواضح أنّ أخذ الفقاهة في الموضوع ظاهر في الخصوصيّة والمدخليّة ، وأنّه لا يجوز تقليد غير الفقيه والرجوع إليه في آرائه .
نعم ، يرد على الاستدلال بها ما ذكرنا في آية النفر من عدم ملازمة الفقاهة للاجتهاد المطلق ، وكون النسبة بين العنوانين عموماً من وجه .
الرابع : مقبولة عمر بن حنظلة المتقدّمة (2)، المشتلمة على قوله(عليه السلام) : ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا
- (1) في ص101 ـ 102 .
-
(2) تقدّمت في ص96 و 105 .
(الصفحة 111)
فليرضوا به حكماً(1) ; فإنّ المصدر المضاف وكذا الجمع المضاف يفيدان العموم ،
فاللازم حصول الملكة المطلقة التي يقتدر بها على استنباط جميع الأحكام من أدلّتها ، ودلالتها على الحصرواضحة بعد كونها بصدد بيان القيود المعتبرة فيمن يجوز أن يرضوا به حكماً.
ولكنّه يرد على الاستدلال بها ـ مع الغضّ عن الكلام في سندها ، وعن عدم دلالتها على حكم المقام; لورودها في باب القضاء الذي لا ملازمة بينه وبين باب الإفتاء ـ : أ نّه لا مجال لحمل الرواية على كون المراد بها هو معرفة جميع الأحكام والنظر في جميع المحلّلات والمحرّمات ; ضرورة امتناع المعرفة الفعليّة والنظر الفعلي في جميعها ، وحمل المعرفة والنظر على قوّة المعرفة وملكة النظر ـ مع أ نّه مناف لظاهر هذين اللفظين ـ مخالف لقوله : «روى حديثنا» ; فإنّه من الواضح أ نّه ليس المراد منه إلاّ الرواية الفعليّة ، لا الصلاحيّة للرواية والقابليّة لها ، كما لا يخفى .
فاللازم ـ بعد عدم كون المراد به هو رواية الحديث ولو واحداً ، والنظر في الحلال والحرام كذلك ـ حمل الرواية على كون المراد هو الذي ينطبق عليه عُرفاً أ نّه راوي أحاديث أهل البيت(عليهم السلام) والناظر في حلالهم وحرامهم، والعارف بأحكامهم ، وهو يصدق بالنظر في جملة معتدّ بها من المسائل ومعرفة شيء كثير من أحكامهم ، وعليه : فلا دلالة لهذه الرواية أيضاً على اعتبار الاجتهاد المطلق أصلا .
ثمّ إنّه ربما يقال بأ نّه يعارض المقبولة في نفس موردها حسنة أبي خديجة
المعروفة المتقدّمة أيضاً ، المشتملة على قول أبي عبدالله جعفر بن محمّد الصادق(عليهما السلام) : إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور ، ولكن انظروا إلى رجل
- (1) الكافي : 1 / 67 قطعة من ح10 ، وعنه وسائل الشيعة : 27 / 137 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب11 قطعة من ح1 .