(الصفحة 303)[معنى العدالة ومفهومها]
مسألة28: العدالة عبارة عن ملكة راسخة باعثة على ملازمة التقوى ; مِن ترك المحرّمات وفِعل الواجبات.
مسألة29: تزول صفة العدالة حكماً بارتكاب الكبائر أو الإصرار على الصغائر، بل بارتكاب الصغائر على الأحوط، وتعود بالتوبة إذا كانت الملكة المذكورة باقية 1
1 ـ الكلام في هاتين المسألتين يقع في مقامين :
المقام الأوّل : معنى العدالة ومفهومها ، وهي لغة بمعنى الاستواء أو الاستقامة
أو هما معاً ، وقد اختلف الأصحاب ـ رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ـ في بيان المراد من هذه اللفظة الواردة في كلام الشارع والمتشرّعة على أقوال يرجع ظاهرها
إلى خمسة :
أحدها : ما هو المشهور بين العلاّمة(1) ومن تأخّر عنه(2) ، بل نسب إلى المشهور بقول مطلق ، بل إلى العلماء أو الفقهاء أو الموافق والمخالف (3)، من أنّها كيفيّة نفسانيّة راسخة في النفس ، باعثة على ملازمة التقوى ، أو عليها مع المروءة ، وقد وقع الاختلاف بين أصحاب هذا القول من جهة التعبير بلفظ الكيفيّة ، أو الملكة ، أو
- (1) إرشاد الأذهان : 2 / 156 ، مختلف الشيعة : 8 / 501 .
-
(2) ذكرى الشيعة: 4/101 ، التنقيح الرائع: 4 / 289 ، جامع المقاصد : 2 / 372 ، الروضة البهية : 1 / 378 ـ 379 .
-
(3) مجمع الفائدة والبرهان : 2 / 351 و ج 12 / 311 ، مفتاح الكرامة: 3 / 80 ، مصابيح الظلام في شرح مفاتيح الشرائع: 1 / 428 .
(الصفحة 304)
الحالة ، أو الهيئة ، أو أشباه ذلك ، ولكنّ المراد واحد ; وهو الأمر النفسانيّ الباعث على ذلك .
ثانيها : أنّ العدالة عبارة عن مجرّد الاجتناب عن المعاصي ، أو خصوص الكبيرة منها ، وهو الظاهر من محكيّ السرائر ، حيث قال : حدّ العدل هو الذي لا يُخِلّ بواجب ، ولا يرتكب قبيحاً(1) . وعن المحدّث المجلسي(2) والمحقّق السبزواري(قدس سرهما)(3)نسبة هذا القول إلى الأشهر ، ومرجعه إلى أنّ العدالة عبارة عن الاستقامة العمليّة في جادّة الشريعة في أفعاله وتروكه ، من دون اعتبار كون ذلك ناشئاً عن الملكة والحالة النفسانيّة .
والظاهر أنّ المراد بهذا القول هو القول الأوّل ; فإنّ ظاهر عدم الإخلال بالواجب ـ خصوصاً مع التعبير عنه بصيغة المضارع ـ هو أن لا يكون من شأنه الإخلال بالواجب وارتكاب القبيح ، وهو لا يكاد ينطبق إلاّ على الملكة والحالة النفسانيّة ، وبعبارة اُخرى : ليس المراد بعدم الإخلال إلاّ عدمه مطلقاً ولو في الاستقبال ، وهذا لا يكاد يحرز مع عدم الملكة أصلا .
ويؤيّده ما عرفت من أ نّه نسب هذا القول المحدّث المجلسي والمحقّق السبزواري(قدس سرهما) إلى الأشهر ، مع أ نّه لا ريب في أنّ التفسير بالملكة أشهر ، فيدلّ ذلك على أنّ مرادهما من الاجتناب عن المعاصي ، وعدم الإخلال بالواجب ; هو ما يكون ناشئاً عن الملكة ، كما هو ظاهر .
ثالثها : أنّه عبارة عن الاستقامة الفعليّة العمليّة منضمّة إلى الملكة النفسانيّة ،
- (1) السرائر : 1 / 280 .
-
(2) بحار الأنوار : 88 / 25 .
-
(3) كفاية الفقه، المشتهر بـ«كفاية الأحكام» : 1 / 138 .
(الصفحة 305)
وهذا المعنى وإن كان بظاهره يغاير المعنى الأوّل ; فإنّ الملكة التي فُسِّرت بها العدالة ـ بناءً على المعنى الأوّل ـ لا تُنافي حصول المعصية الكبيرة ، كما أنّ الاجتناب عن المعاصي يمكن أن يتحقّق من دون ملكة ، إلاّ أ نّه بعد ملاحظة أنّ مراد القائل بالمعنى الأوّل ليس مجرّد حصول الملكة ولو لم يتحقّق الاجتناب عن المعاصي فعلا ; للإجماع على أنّ فعل الكبيرة قادح في العدالة .
فاللازم أن يُقال بأنّ مراده هي الملكة والاجتناب الفعلي ، فلا مغايرة بين التفسيرين ، ولا تنافي بين المعنيين إلاّ في مجرّد أنّ مرجع الوجه الأوّل إلى أنّ العدالة عبارة عن الملكة الباعثة على الاجتناب العملي ، ومرجع الوجه الأخير إلى أنّها عبارة عن العمل الخارجي ، والاجتناب الفعلي الناشىء عن الحالة النفسانيّة ، وهذا المقدار من الفرق لا يترتّب عليه ثمرة أصلا .
رابعها : الإسلام وعدم ظهور الفسق ، وهو المحكي عن ابن الجنيد(1) ، والمفيد في كتاب الإشراف(2) ، والشيخ في كتابي المبسوط(3) والخلاف(4) مدّعياً عليه الإجماع ، وحكي هذا المعنى عن أبي حنيفة من العامّة(5) .
خامسها : حسن الظاهر ، ومرجعه إلى كونه في الظاهر يعدّ رجلا صالحاً مطيعاً
- (1) حكى عنه في مختلف الشيعة : 2 / 513 .
-
(2) لم نعثر عليه في كتاب الإشراف ، المطبوع في ضمن المجلّد التاسع من سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد . نعم حكى عنه في مفتاح الكرامة : 3 / 80 ، وجواهر الكلام : 13 / 280 ، والشيخ الأنصاري في رسالته في العدالة .
-
(3) المبسوط : 8 / 217 .
-
(4) الخلاف : 6 / 217 ـ 218 مسألة 10 .
-
(5) المغني لابن قدامة : 12 / 30 ، الشرح الكبير : 12 / 40 ، المبسوط للسرخسي : 16 / 132 ، الخلاف : 6/301 مسألة 50 .
(الصفحة 306)
للأوامر والنواهي الشرعيّة ، نسب هذا القول إلى جماعة ، بل إلى أكثر القدماء(1) . والظاهر أنّ هذين المعنيين ليسا قولين في العدالة وتفسيرين لها ; لأنّها من الأوصاف الواقعيّة والفضائل النفس الأمريّة ، ومجرّد ظهور الإسلام مع عدم ظهور الفسق أو حسن الظاهر لا يوجب أن يكون الشخص متّصفاً بهذه الصفة واقعاً ; فإنّه يمكن أن يكون في الواقع فاسقاً . غاية الأمر أ نّه لم يظهر فسقه ، بل كان ظاهره حسناً .
وبعبارة اُخرى : مقتضى ذلك أن تكون العدالة من الأُمور التي يكون وجودها الواقعي عين وجودها الذهني ، وهذا لا يلائم مع كون ضدّها ـ وهو الفسق ـ من الأُمور الواقعيّة التي لا دخل للذهن فيها ، ولا مدخليّة للعلم في تحقّقها.
والدليل عليه ـ مضافاً إلى الإجماع ـ : إضافة كلمة الظهور إلى الفسق في التفسير الرابع ، وعليه : فمن كان في علم الله مرتكباً للكبائر مع عدم ظهور ذلك لأحد يلزم أن يكون عادلا واقعاً وفاسقاً واقعاً . وكذا لو علمنا بأنّ زيداً مع اتّصافه بحسن الظاهر سابقاً كان في ذلك الزمان مرتكباً للكبائر ، يلزم أن يكون في ذلك الزمان عادلا واقعاً لاتّصافه بحسن الظاهر ، وفاسقاً كذلك لأجل الارتكاب للكبيرة ، وبطلان هذا أوضح من أن يخفى .
فاللازم أن يقال بأنّ هذين المعنيين طريقان للعدالة ، والمقصود أنّ ما يترتّب عليه الأثر من الأحكام المترتّبة على العدالة هو هذا المعنى ، الذي يكون كاشفاً عن العدالة شرعاً .
والدليل عليه ـ مضافاً إلى ما ذكرناه ـ : أنّ الشيخ(قدس سره) في الخلاف بعد ما تمسّك لمذهبه في قِبال الشافعي وأبي حنيفة وغيرهما ; وهو عدم وجوب البحث عن
- (1) جواهر الكلام : 13 / 290 ، رسالة في العدالة للشيخ الأنصاري : 8 .
(الصفحة 307)
الشاهد الذي عرف إسلامه ولم يعرف جرحه ، بإجماع الفرقة وأخبارهم ، قال : وأيضاً الأصل في الإسلام العدالة ، والفسق طار عليه يحتاج إلى دليل . وأيضاً نحن نعلم أ نّه ما كان البحث في أيّام النبي(صلى الله عليه وآله) ولا أيّام الصحابة ولا أيّام التابعين ، وإنّما هو شيء أحدثه شريك بن عبدالله القاضي الخ(1) . فإنّ تمسّكه بالأصل ، وكذا بعدم ثبوت البحث في تلك الأيّام المختلفة المتعاقبة ، ظاهر في أ نّه ليس مراده من ذلك تفسير حقيقة العدالة وبيان معناها ، بل المراد بيان ما يكفي في حكم الحاكم بشهادة الشاهدين ، وأنّ الملاك في ذلك مجرّد معروفيّة إسلامهما وعدم معروفيّة جرحهما ، كما لا يخفى .
فانقدح من جميع ذلك أنّ العدالة لا يكاد يكون لها إلاّ معنى واحد وحقيقة فاردة ; وهي المشتملة على الملكة والحالة النفسانيّة التي هي من المراتب التالية للعصمة . غاية الأمر أنّ العصمة عبارة عن الملكة التي تحصل للنفوس الشريفة ويمتنع معها صدور المعصية عادة . وأمّا ملكة العدالة ، فلا يمتنع معها صدورها كذلك ، ولكن يتعسّر ويصعب .
ثمّ إن بعض الأعلام ذكر في شرحه على العروة كلاماً في معنى العدالة محصّله : أنّه لم تثبت للعدالة حقيقة شرعيّة ولا متشرّعيّة ، وإنّما هي بمعناها اللغوي ; أعني الاستقامة وعدم الجور والانحراف ، وهي قد تستند إلى الأُمور المحسوسة ، فيقال : هذا الجدار عدل . وقد تستند إلى الأُمور غير المحسوسة ، فيُراد منها الاستقامة المعنويّة ، فيقال : عقيدة فلان مستقيمة . وقد تستند إلى الذوات ، فيقال : زيد عادل ، وهذا هو المراد من العدالة المطلقة ، ومعناها حينئذ هي الاستقامة العمليّة
- (1) الخلاف : 6 / 218 مسألة 10 .