(الصفحة 140)
وأمّا بالنظر إلى الأدلّة الاجتهاديّة ، فنقول : إنّ للمسألة صوراً :
إحداها : ما إذا كانت فتوى الأعلم مخالفة لغيره وعلمت المخالفة بين الفتويين .
ثانيتها : ما إذا علمت الموافقة بينهما .
ثالثتها : ما إذا لم تعلم الموافقة والمخالفة بينهما .
وليعلم أنّ محلّ الكلام في جميع الصور إنّما هو ما إذا كان الأعلم مشخّصاً من غيره ، وأمكن الرجوع إليه ، والأخذ بقوله ، وتطبيق العمل على فتواه ; فإنّه
حينئذ وقع الخلاف في تعيّن فتواه للحجّية وعدمه على قولين ، ولابدّ من التعرّض
لما استدلّ به لكلا الطرفين ليظهر ما هو الحقّ في البين ، فنقول :
أمّا الصورة الأُولى : فقد استدلّ للقول بلزوم الأخذ بفتوى الأعلم فيها بوجوه :
الأوّل : دعوى الإجماع عليه ، حيث ادّعاه صريحاً المحقّق الثاني(قدس سره) في محكي حاشية الشرائع(1) . وعن الذريعة لعلم الهدى(قدس سره) أ نّه من المسلّمات عند الشيعة(2) . وعن صاحب المعالم هو قول الأصحاب الذين وصل إلينا كلامهم(3) . وجعله في محكي التمهيد هو الحقّ عندنا(4) . بل لم ينقل الخلاف في ذلك عمّن تقدّم على الشهيد الثاني(رحمه الله) ، فإنّ التخيير والقول به إنّما حدث لجماعة ممّن تأخّر عنه ، وفاقاً للحاجبي(5) والعضدي(6) والقاضي(7) . واختار التخيير أيضاً صاحب
- (1) حاشية شرائع الإسلام ، المطبوع مع حياة المحقّق الكركي وآثاره : 11 / 114 .
-
(2) الذريعة إلى اُصول الشريعة : 2 / 325 ، وحكى عنه في مطارح الأنظار: 2 / 526 .
-
(3) معالم الدين : 246 .
-
(4) تمهيد القواعد : 321 .
-
(5 ـ 7) راجع مختصر المنتهى وشرحه : 2 / 309 ، شرح مختصر الاُصول : 484 ، على ما في هامش كفاية الاُصول: 542 ، المستصفى للغزالي : 2/391 .
(الصفحة 141)
الفصول(رحمه الله) (1) ، وبالجملة : فالظاهر اتّفاق من تقدّم عليه على تعيّن الأعلم للتقليد .
والجواب عن هذه الدعوى واضح ; لعدم صلاحيّة الإجماع المنقول للاستناد ، خصوصاً مع ملاحظة كون المسألة خلافيّة ، بحيث حكي عن «المسالك» أ نّه نسب هذا القول إلى الأشهر(2) ، وهو مشعر بعدم كون القول الآخر متّصفاً بالشذوذ والندرة ، ومع ذلك لا يبقى مجال لاستكشاف موافقة المعصوم(عليه السلام) ، خصوصاً مع قوّة احتمال أن يكون مستند المجمعين هو أحد الوجوه المذكورة لهذا القول ، فالإجماع في مثل هذه المسألة لا أصالة له بوجه ، ولا اعتبار له أصلا .
الثاني : أنّ مشروعيّة التقليد في الأحكام الشرعيّة إنّما ثبتت بالكتاب والسنّة وبغيرهما ، ومن المعلوم أنّ المطلقات الواردة في الكتاب والأخبار لا تشمل المتعارضين ، فإذا سقطت فتوى غير الأعلم عن الحجّية بالمعارضة يتعيّن الرجوع إلى الأعلم ; للعلم بعدم وجوب الاحتياط ، وكذا لو كان الدليل على المشروعيّة دليل الانسداد ; فإنّه لا يمكن أن يستنتج منه جواز تقليد غير الأعلم ; لأنّ النتيجة لا تكون كلّية ،بل هي عبارة عن حجّية فتوى عالم ما ،والقدرالمتيقّن فتوى الأعلم ، وقد استدلّ بهذا الوجه بعض الأعلام في «شرح العروة» على ما في تقريراته(3) .
ويرد عليه ـ مضافاً إلى ما عرفت(4) من عدم امتناع شمول الإطلاقات للمتعارضين في مثل المقام ، ممّا كانت الحجّية ثابتة بنحو البدليّة وصرف الوجود لابنحو الوجود الساري ـ : أ نّه ليت شعري ما الفرق بين المقام وبين تعارض
- (1) الفصول الغرويّة : 423 .
-
(2) مسالك الأفهام : 13 / 343 .
-
(3) التنقيحفي شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 142 .
-
(4) في ص 125 ـ 127 .
(الصفحة 142)
المجتهدين المتساويين في الفضيلة ؟ حيث اختار هناك التساقط ووجوب الرجوع إلى الاحتياط مع إمكانه ، ولم يعتن بما مرّ(1) من قيام الإجماع على عدم وجوب الاحتياط على المكلّف العامّي ، وهنا اختار تعيّن الرجوع إلى الأعلم نظراً إلى العلم بعدم وجوب الاحتياط عليه .
الثالث : ـ وهو العمدة ـ استمرار السيرة العقلائيّة واستقرارها على الرجوع إلى العالم الذي له مزيّة على غيره في العلم والفضيلة (2)، ولتوضيحه لابدّ من ملاحظة خصوصيّات ما هو المفروض في المقام ; ليظهر تعيّن الأعلم لديهم للرجوع إليه والانقياد له ، والأخذ بقوله ، وتطبيق العمل عليه ، فنقول :
لابدّ من فرض المورد فيما إذا كان هناك عالم وأعلم ، واُحرز الاختلاف بينهما في الرأي والاعتقاد والنظر والفتوى ، وأمكن الوصول إلى الأعلم والرجوع إليه والأخذ بقوله ، وكان المورد من الموارد الخطيرة التي لا مجال للمسامحة فيها بوجه ، ولا للإغماض عنها من جهة ، كما إذا كان المريض مشرفاً على الهلاك ، بحيث يكون علاجه مؤثّراً في بقاء حياته ، وعدمه موجباً للاطمئنان بموته ، ففي مثل هذا المورد لا خفاء في استمرار سيرتهم وجريانها على الرجوع إلى الطبيب المعالج الذي يكون أعلم من غيره في معالجة مثل هذا المرض ، بحيث لو رجع واحد منهم إلى غيره ولم يتحقّق العلاج ، فمات المريض بسبب مرضه لا يكون معذوراً عندهم ، وهذا بخلاف ما لو رجع إلى الأعلم فلم يؤثّر علاجه ; فإنّه حينئذ يكون معذوراً بلا إشكال .
وبالجملة : لا مجال للمناقشة في أصل جريان السيرة العقلائيّة ـ التي كانت هي
- (1) في ص 119 .
-
(2) مستمسك العروة الوثقى: 1 / 28 ، دروس في فقه الشيعة : 1 / 79 ، التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد والتقليد: 142 .
(الصفحة 143)
الأساس في باب التقليد ورجوع العامي إلى المجتهد ـ على تعيّن الرجوع إلى الأعلم مع حفظ الخصوصيّات المذكورة المفروضة في محلّ الكلام ومورد النقض والإبرام ، فإذا لم يثبت ردع الشارع عن هذه الطريقة في محيط الشريعة ، فلابدّ من الالتزام بها وإعمالها فيها .
فالإنصاف أنّ هذا الوجه خال عن الإشكال لو لم يتمّ ما استدلّ به على عدم تعيّن تقليد الأعلم من الوجوه التي سيأتي التعرّض لها إن شاء الله تعالى(1) ; ضرورة أ نّه مع تماميّة واحد منها يتحقّق الردع وعدم الإمضاء ، كما لا يخفى .
الرابع : أنّ فتوى المجتهد إنّما اعتبرت من باب الطريقيّة إلى الأحكام الواقعيّة ، ومن المعلوم أنّ فتوى الأعلم أقرب إلى الواقع من فتوى غيره ; لسعة اطّلاعه وكثرة إحاطته بما لا يطّلع عليه غيره ; من النكات والدقائق والمزايا والخصوصيّات ، فلا محيص عن الأخذ به والرجوع إليه دون غيره (2) ، فهذا الوجه مركّب من صغرى وكبرى .
وقد أُجيب عنه بمنع الصغرى والكبرى :
أمّا الصغرى : فلأنّ فتوى غير الأعلم ربما تكون أقرب ; لموافقتها لفتوى من هو أعلم منه من الأموات ، أو من الأحياء غير الواجدين لشرائط جواز الرجوع إليهم من العقل والعدالة وشبههما ، بل ربما تكون موافقة لفتاوي جملة من الأحياء الواجدين لها ، فيكون الظنّ بها أقوى من الظنّ الحاصل من فتوى الأفضل (3) .
ولكنّه دفع هذا الجواب المحقّق الإصفهاني(قدس سره) في رسالته بما حاصله : أنّ الفتوى
- (1) في ص 154 ـ 166 .
-
(2) الذريعة إلى اُصول الشريعة: 2 / 325، معالم الدين: 246 .
-
(3) كفاية الاُصول: 544، نهاية الأفكار: 4، القسم الثاني: 251 .
(الصفحة 144)
إذا كانت حجّة شرعاً أو عقلا لأجل إفادة الظنّ ، وأنّها أقرب إلى الواقع من غيرها فلا محالة ليس لأجل مطلق الظنّ بحكم الله تعالى ، ولذا لا يجوز للعامي العمل بظنّه ، بل لأجل أ نّه خصوص ظنّ حاصل من فتوى من يستند إلى الحجّة القاطعة للعذر ، فالحجّة شرعاً أو عقلا هو الظنّ الحاصل من الفتوى ، لا الظنّ بما أفتى به المجتهد وإن لم يحصل من فتوى المجتهد .
وعليه : فالفرق بين الأقربيّة الداخليّة والخارجيّة في كمال المتانة ، مضافاً إلى أنّ مطابقة فتوى المفضول لفتوى الأفضل من الأموات وإن كانت تفيد ظنّاً أقوى من الحاصل من فتوى الأفضل ، إلاّ أ نّه لا حجّيّة لفتوى الميّت حتى يكون الظنّ الحاصل من مطابقة المفضول له حجّة أقوى ، فمطابقته له كمطابقته لسائر الأمارات غير المعتبرة ، كما أنّ مطابقة فتوى المفضول لفتاوي جملة من الأحياء لا تفيد ظنّاً أقوى ; إذ المطابقة لتوافق مداركهم وتقارب أفهامهم وأنظارهم ، فالمدرك واحد والأنظار المتعدّدة في قوّة نظر واحد ، ولا يكشف التوافق عن أقوائيّة مدركهم ، وإلاّ لزم الخلف ; لفرض أقوائيّة نظر الأفضل من غيره .
ومنه يظهر بطلان قياس المقام بالخبرين المتعارضين ، حيث إنّ تعدّد الحكاية في واحد منهما يوجب ترجيحه ; لعدم كونها بمنزلة حكاية واحدة(1) .
ويمكن الإيراد عليه بأنّ غرض المجيب مجرّد إنكار الأقربيّة مطلقاً ، بمعنى أنّ فتوى الأعلم لا تكون أقرب في جميع الموارد ، وليس الغرض إثبات أقربيّة غير الأعلم في بعض الموارد بنحو يعتمد عليه ويحتجّ به ، فإثبات عدم حجّية الأقربية الحاصلة ـ بالإضافة إلى فتوى المفضول ـ لا مدخل له فيما هو المهمّ .
- (1) بحوث في الاُصول ، الاجتهاد والتقليد : 53 ـ 54 .