(الصفحة 120)
الخامس : عموم الأخبار العلاجيّة(1) ـ الواردة في الخبرين المتعارضين ، الدالّة على ثبوت التخيير في المتكافئين ، وفيما إذا لم يكن مرجّح في البين ـ وشمولها للمجتهدين المتساويين :
إمّا لأجل كون المقام من مصاديق موضوعها ; لأنّ مرجع الفتوى إلى الرواية . غاية الأمر أنّها رواية منقولة بالمعنى كما صرّح به المحدّث الجزائري(قدس سره) في عبارته التي سيأتي نقلها(2) .
وإمّا بدعوى إلغاء الخصوصيّة، نظراً إلى أنّ الفتوى وإن كانت مغايرة للرواية ، إلاّ أ نّه لا خصوصيّة للخبرين المتعارضين في الحكم بالتخيير ، بل يشمل تعارض مطلق الحجّتين المتكافئتين ولو لم تكونا خبرين، فتدلّ على ثبوت التخيير في المقام أيضاً(3).
والجواب عن هذا الوجه : أنّ دعوى كون الفتوى من مصاديق الرواية ـ غاية الأمر أ نّها رواية منقولة بالمعنى ـ ممنوعة جدّاً ، كما ستعرف في البحث عن جواز تقليد الميّت(4) ، كما أنّ دعوى إلغاء الخصوصيّة أيضاً كذلك ; لوضوح الفرق بين الفتوى والرواية ، فكيف يمكن تعميم الحكم بالتخيير الثابت فيها ، خصوصاً مع
كون الحكم في موطنه على خلاف القاعدة العقليّة ، المقتضية للتساقط في مورد التعارض وعدم وجود المرجّح ؟
- (1) وسائل الشيعة : 27 / 106 ـ 124 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب9 .
-
(2) في ص192 ـ 193 .
-
(3) درر الفوائد للشيخ عبدالكريم الحائري : 2 / 714 ـ 715 .
-
(4) في ص192 ـ 193 .
(الصفحة 121)
مضافاً إلى أنّ لازم ذلك إعمال المرجّحات في ذلك الباب في المقام أيضاً ، فترجّح الفتوى المخالفة للعامّة مثلا على الفتوى الموافقة لهم ، وغير ذلك من المرجّحات ، ومن الواضح عدم ثبوت ذلك في باب الفتاوى والآراء ، فهذا الوجه غير صحيح .
السادس : خصوص موثّقة سماعة ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر ، كلاهما يرويه : أحدهما يأمر بأخذه ، والآخر ينهاه عنه ، كيف يصنع؟ قال : يرجئه حتى يلقى من يخبره ، فهو في سعة
حتى يلقاه(1) .
بتقريب أنّ مورد السؤال ليس الاختلاف في مجرّد نقل الرواية ، بل الاختلاف في الفتوى والنظر الناشىء من الاختلاف في الرواية ; فإنّ التعبير بالأمر والنهي إنّما يناسب مقام الإفتاء ولا يلائم مع نقل الرواية ; فإنّ الراوي بما هو راو ليس له الأمر والنهي ، فمورد الموثّقة اختلاف الفتوى والنظر ، وسياق السؤال يعطي عدم ثبوت مزيّة في البين واشتراك الرجلين في الجهات الموجبة للرجوع إليهما ، كما لا يخفى ، فالحكم بالسعة في الجواب المساوق للتخيير وارد في المقام (2).
والجواب : أنّ مورد السؤال وإن كان ما ذكر ، إلاّ أنّ الجواب لا دلالة فيه على التخيير بوجه ، بل مرجعه إلى لزوم التأخير إلى أن يلقي من يخبره ، وعدم ثبوت ضيق واستحقاق عقوبة عليه بالنسبة إلى التأخير حتى يلقاه ، فدلالته على عدم الاعتناء بكلا الرجلين وعدم الأخذ بشيء من النظرين وعدم ترتيب الأثر على الأمر والنهي أقرب من دلالته على التخيير ، والإنصاف أ نّه لا يستفاد من هذه
- (1) الكافي : 1 / 66 ح7 ، وعنه وسائل الشيعة : 27 / 108 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب9 ح5 .
-
(2) درر الفوائد للشيخ عبد الكريم الحائري : 2 / 714 ـ 715 .
(الصفحة 122)
الرواية حكم المقام نفياً وإثباتاً .
وقد تحصّل ممّا ذكرنا أنّ الحكم بالتخيير في المجتهدين المتساويين ـ نظراً إلى الإجماع وثبوت السيرة ـ ممّا لا مجال للمناقشة فيه أصلا .
نعم ، يبقى الكلام في معنى الحجّية التخييريّة ، فنقول :
ذكر بعض الأعلام في شرح العروة ـ على ما في تقريراته ـ أنّ الحجّيّة التخييريّة ممّا لا يعقل في مقام الثبوت ، ومحصّل ما أفاده في وجهه أ نّه يحتمل فيها وجوه أربعة :
أحدها : جعل الحجّية التخييريّة ; بمعنى جعل الحجّية على هذا وذاك ; وهو مسلتزم للجمع بين الضدّين أو النقيضين ; لأنّ مرجعه إلى أنّ الشارع قد اعتبر المكلّف عالماً بالحرمة وعالماً بعدمها ، أو عالماً بحرمة شيء وعالماً بوجوبه ، ولأجله لا تشمل أدلّة الحجّيّة لشيء من الفتويين .
ثانيها : جعلها بمعنى جعل الحجّيّة على الجامع بين الفتويين ; وهو عنوان أحدهما الذي هو عنوان انتزاعيّ ، وهو أيضاً غير معقول في المقام وإن كان متصوّراً في غيره ، ولأجله التزمنا في الواجبات التخييريّة بأنّ التكليف فيها إنّما تعلّق بعنوان أحدهما ، وأنّ الفعل المأتيّ به في الخارج فرد للواجب ومصداق له ، لا أ نّه الواجب بنفسه .
وجه عدم المعقوليّة في خصوص المقام ; أنّ مرجعه إلى ما ذكرنا من اعتبار المكلّف عالماً بالنقيضين أو الضدّين ، وهو غير متصوّر . مضافاً إلى أ نّه لو سلّم التصوّر في مقام الثبوت فلا ينبغي الترديد في عدم إمكانها بحسب الإثبات ; لأنّ الأدلّة لا تساعدها بوجه ; لأنّ مقتضاها حجّيّة فتوى كلّ فقيه متعيّنة لا حجّيّة إحدى الفتاوى .
(الصفحة 123)
ثالثها : جعلها بمعنى جعل الحجّيّة على كلّ منهما مشروطاً بعدم الأخذ بالآخر ، ليكون كلّ منهما حجّة تعيينيّة مشروطة بعدم الأخذ بالآخر ، وهو أيضاً كسابقه ; فإنّ مثل ذلك وإن كان متصوّراً في باب التكاليف ; لأ نّه من الترتّب من الجانبين ، وهو يلازم في الجواز مع الترتّب من جانب واحد ، إلاّ أنّ ذلك في الحجّيّة غير معقول ; لأنّ لازمه اتّصاف كلّ منهما بالحجّيّة الفعليّة إذا ترك المكلّف الأخذ بهما معاً ; لحصول شرط حجّيّة كلّ واحدة منهما ، وجعل الحجّيّة على كلتيهما مستلزم للمحال كما ذكر .
رابعها : جعلها بمعنى جعلها على كلّ منهما مشروطاً بالأخذ به ، وهذا أمر معقول بحسب مقام الثبوت ، ولا يترتّب عليه المحذور المتقدّم ، إلاّ أنّه لا دليل عليه في مرحلة الإثبات ; لأنّ ما دلّ على حجّية فتوى الفقيه لا يكون مقيّداً بالأخذ بها ، وعليه : فمقتضى إطلاقها وشمولها لكلتيهما هو الجمع بين النقيضين أو الضدّين كما عرفت(1) ، انتهى ملخّصاً .
ويرد عليه ـ مضافاً إلى عدم انطباق الدليل على المدّعى ; لأنّ المدّعى هو عدم معقوليّة الحجّية التخييريّة في مقام الثبوت بوجه ، والدليل المشتمل على بيان الاحتمالات يدلّ على ثبوت المعقوليّة في هذا المقام على بعض الوجوه والاحتمالات ; وهو الاحتمال الرابع كما صّرح به ـ :
أوّلا : أنّ عدم مساعدة الأدلّة بحسب مقام الإثبات مع تسليم التصوّر في مقام الثبوت ، إنّما يتمّ لو كان الدليل على الحجّية التخييريّة هي الإطلاقات الواردة في أصل مسألة التقليد الدالّة على حجّية الفتوى ، وجواز الرجوع إلى المفتي . وأمّا
- (1) التنقيحفي شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 168 ـ 170 .
(الصفحة 124)
لو كان الدليل هو الإجماع القائم في خصوص المقام على التخيير ، أو السيرة العمليّة الجارية عليه في مثل المقام ، فلا مجال لهذه الدعوى أصلا ، وقد عرفت تماميّتهما ، وأنّ المستند للقول بالتخيير إنّما هو الإجماع والسيرة لا الإطلاقات .
وثانياً : أنّه يمكن أن يقال بالفرق بين حال التعارض في مثل المقام ، وبين حاله في مثل الخبرين ، نظراً إلى أنّ الطبيعة في حجيّة خبر الثقة إنّما أُخذت بنحو الوجود الساري ; لأنّ كلّ فرد من أفراد طبيعة الخبر مشمول لدليل الحجّيّة تعييناً ، ويجب على المجتهد الأخذ به وتصديق مخبره وترتيب الأثر عليه ، ولأجله لا يعقل أن يكون كلّ من المتعارضين فيه حجّة كذلك ، فلا مناص إلاّ القول بعدم شمول دليل الحجّية وإطلاقه لحال التعارض .
وأمّا في المقام ، فحجّية قول الفقيه إنّما أُخذت بنحو البدليّة ; ضرورة أ نّه لا يعقل أن يجعل قول كلّ فقيه حجّة بنحو الطبيعة السارية والوجوب التعييني حتى يكون المكلّف في كلّ واقعة مأموراً بأخذ قول جميع الفقهاء وترتيب الأثر عليه ، بل من الواضح أ نّه إذا أخذ بقول واحد منهم فقد أطاع ، وحينئذ فلا مانع من دعوى إطلاق دليل الحجّية وشموله لحال التعارض بخلاف الخبرين المتعارضين ، حيث لا يعقل شمول الإطلاق لهما لما عرفت .
فانقدح من ذلك أوّلا : معنى الحجّيّة التخييريّة في المقام ، وأنّ مرجعها ليس إلى جعل الحجّية بنحو يكون مشروطاً بالأخذ به ، بل إلى الحجّية البدليّة المساوقة لجواز الأخذ بكلّ من الفتويين . وثانياً : عدم اقتضاء شمول الإطلاق لأن يقع فيه قيد «الأخذ» وشبهه ، كما لا يخفى .
إذا عرفت ما ذكرنا يقع الكلام في أصل المسألة ; وهي مسألة العدول ، فنقول :
بعد ما ظهر لك ثبوت التخيير للعامّي ابتداءً تصل النوبة إلى البحث عن أنّ