(الصفحة 69)
أحدها : بناء العقلاء على رجوع الجاهل في كلّ صنعة إلى العالم بها ، ولا إشكال في أصل ثبوت هذا البناء وتحقّق هذه السيرة المستمرّة العمليّة ، إنّما الإشكال في أنّ بناء العقلاء على شيء لا يكون بمجرّده دليلا على ذلك الشيء ، وجريانه في محيط الشرع ما لم يكن مورداً لإمضاء الشارع وتصويبه المستكشف نوعاً من عدم الردع عنه ، مع أ نّه قد يقال في المقام : إنّ بناء العقلاء على رجوع الجاهل بالأحكام الشرعيّة إلى المجتهد المستنبط والعارف بها ، وبعبارة أُخرى : بناء العقلاء على التقليد الاصطلاحي أمر حادث بعد الغيبة الكبرى ، ولم يكن ثابتاً في زمان النبيّ والائمّة ـ صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين ـ بوجه حتى يكون عدم الردع عنه كاشفاً عن كونه مرضيّاً للشارع ، كما هو الشأن في جميع الأُمور التي كان بناء العقلاء عليها حادثاً في الأزمنة المتأخّرة ; فإنّه لا يكون عدم ردعه دليلا على إمضائه ; لعدم ثبوته في زمانه كما هو واضح .
وأنت خبير بما في هذا الإشكال من النظر والمنع :
أمّا أوّلا : فلأنّ أصل بناء العقلاء على رجوع الجاهل إلى العالم العارف في أُمورهم الدنيويّة لا يكون أمراً حادثاً في الزمان المتأخّر ; فإنّ العقلاء بما هم عقلاء لا يزال يرجع عوامهم إلى علمائهم في كلّ فنّ وصنعة ، بحيث صار هذا مرتكزاً لهم ومبنى جميع اُمورهم ، فإذا لم يردع الشارع عن إعمال هذه الطريقة ، ولم يمنع عن إجرائها في محيط الشريعة يكشف ذلك عن إمضائه وتبعيّته عن هذه السيرة ، ولا حاجة في دلالة عدم الردع على الإمضاء على إجرائها أوّلا في محيط الشرع ومصادفته مع عدم الردع .
ألا ترى أ نّه لو قيل : إنّ ظاهر الكتاب حجّة لثبوت بناء العقلاء على العمل بظواهر كلمات المتكلّمين في فهم مقاصدهم وكشف مراداتهم ، والشارع لم يردع عن
(الصفحة 70)
إعمال هذه الطريقة في الشريعة ، ليس مرجعه إلى أنّ عدم الردع قد استكشف من تحقّق العمل بظاهر الكتاب خارجاً وهو لم يردع عنه ، بل معناه أ نّه لو كانت هذه الطريقة غير مرضيّة للشارع في ألفاظ الكتاب مثلا ، لكان عليه الردع وتنبيه العقلاء المتديّنين الذين كان مقتضى بنائهم التمسّك بظاهر الكلام ، فمع عدم التنبيه يستكشف رضاه بذلك .
وأمّا ثانياً : فلأنّ الظاهر ثبوت التقليد والاجتهاد بهذا النحو في زمن الأئمّة(عليهم السلام) ، وعلى ذلك تدلّ روايات كثيرة بين ما يكون مفاده جواز الاجتهاد والاستنباط ، وبين ما يدلّ على إرجاع العوام من الناس إلى الخواصّ من الأصحاب .
فمن الطائفة الاُولى: ماحكي عن مستطرفات السرائرنقلامن كتاب(1) هشام ابن سالم، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: إنّماعليناأن نلقي إليكم الاُصول ، وعليكم أن تفرّعوا(2) .
ومنها : ما رواه داود بن فرقد قال : سمعت أبا عبدالله(عليه السلام) يقول : أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا ، إنّ الكلمة لتنصرف على وجوه ، فلو شاء إنسان لصرف كلامه كيف شاء ولا يكذب(3) .
ومنها : غير ذلك من الأخبار التي يأتي بعضها في ذكر الروايات الدالّة على جواز التقليد(4) .
ويستفاد من هذا القبيل أنّ شأن الرواة عنهم(عليهم السلام) ليس مجرّد النقل والإخبار عن القول أو الفعل أو التقرير ، بل كان فيهم الفقهاء المتصدّون للتفريع على الأُصول
- (1) كذافي الوسائل،لكنّ الظاهرأنّه اشتباه،إذ رواه في مستطرفات السرائر:من جامع البزنطي عن هشام بن سالم.
-
(2) مستطرفات السرائر:57ح20، وعنهوسائل الشيعة:27/61، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب6 ح51.
-
(3) معاني الأخبار : 1 ح1 ، وعنه وسائل الشيعة : 27 / 117 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب9 ح27 .
-
(4) في ص82 ـ 88 .
(الصفحة 71)
المتلقّاة عنهم ، وردّ المتشابهات إلى المحكمات; وهو حقيقة الاجتهاد والاستنباط .
وأمّا ثالثاً : فلأنّه على تقدير عدم ثبوت التقليد والاجتهاد في زمانهم(عليهم السلام)نقول : إنّ عدم الردع عن هذه الطريقة المستحدثة كاشف عن رضا الشارع بذلك .
توضيحه : أ نّه لم يكن بناء الشارع في تبليغ الأحكام وهداية الأنام إلاّ على التوسّل بالطرق العقلائية والأُمور العادية ، ولم يكن بناؤه في هذا المقام على الرجوع إلى علمه بالمغيباتوتبليغ الأحكام حسب ما يعطيه ذلك العلم، وحينئذفليس دعوانا أنّ الشارع كان عليه أن يردع عن هذه الطريقة الفعليّة لو كانت غير مرضيّة له راجعة إلى أ نّه لأجل كونه عالماً بالمغيبات لابدّ له من الردع أو الإمضاء بالنسبة إلى الأُمور المستقبلة والمتأخّرة عن زمانه ، وإذا لم يردع يكشف ذلك عن رضاه ، بل نقول :
إنّ هذه المسألة وهي مسألة الاجتهاد والاستنباط والرجوع إلى العالم بهذا النحو المعمول ممّا يقتضي طبع الأمر حدوثه في هذه الأزمنة ، بحيث لم يكن حدوثها مخفيّاً على العارفين بمسألة الإمامة وجهات ختم الوصاية ، وأ نّه يغيب الثاني عشر (عجل الله فرجه الشريف) من شموس الهداية مدّة طويلة عن أعين الناس وأنظار العامّة ، بحيث لا يكاد يمكن لهم الرجوع إليه والاستضاءة من نور الولاية ، وفي ذلك الزمان لابدّ للناس من الرجوع إلى علماء الأُمّة وأخذ الأحكام والفتاوى من فقهاء الشريعة ، ومع وضوح هذا الأمر بحسب اقتضاء الطبع وانجراره إلى ذلك يكون عدم الردع كاشفاً قطعيّاً عن إمضاء الشارع وتنفيذه لهذه الطريقة .
فانقدح من جميع ذلك أنّ التمسّك ببناء العقلاء واستمرار سيرتهم على جواز التقليد والرجوع إلى الفقيه تامّ لا ينبغي الارتياب فيه .
ثانيها : بعض الآيات التي يستفاد منها ذلك :
منها : آية النفر المعروفة ، قال الله تبارك وتعالى : {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا
(الصفحة 72)
كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَة مِّنْهُمْ طَـآلـِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ وَ لِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}(1) .
والاستدلال بهذه الآية على حجّية فتوى المجتهد وجواز رجوع العامّي إليه يتوقّف :
أوّلا : على دلالة الآية على وجوب النفر ; بأن كان مسوقاً لإفادة الوجوب وناظراً إلى جعل هذا الحكم الإلزامي ، واللزوم مستفاد من كلمة «لولا» التحضيضيّة .
وثانياً : على كون المراد من التفقّه خصوص التفقّه الاصطلاحي ، الذي مرجعه إلى استنباط الأحكام الفرعيّة العمليّة ، لا الأعمّ منه ومن التفقّه فى أُصول الدين وتعلّم الأُمور الاعتقاديّة ، وعلى لزوم التفقّه من جهة كونه غاية للنفر الواجب ، وغاية الواجب واجبة .
وثالثاً : على كون الإنذار من سنخ ما يتفقّه فيه ، وبعبارة أُخرى : صدق الإنذار على مجرّد الفتوى بالوجوب أو الحرمة ، نظراً إلى أنّ الحكم بأحدهما يستلزم التوعيد باستحقاق العقوبة على المخالفة ، وعليه : فيصدق على المجتهد عنوان المنذِر ـ بالكسر ـ لهذه الجهة .
ورابعاً : على كون المراد بالحذر هو الحذر العملي الذي مرجعه إلى العمل على طبق قول المجتهد وعلى وجوب التحذّر ، إمّا لأجل استعمال كلمة «لعلّ» الدالّة على محبوبيّة التحذّر الملازمة للوجوب شرعاً واللزوم عقلا ، أمّا الأوّل : فلعدم الفصل ، وأمّا الثاني : فلأنّ العقل يحكم باللزوم مع وجوب المقتضي ، وعدم المحبوبيّة مع
- (1) سورة التوبة : 9 / 122 .
(الصفحة 73)
العدم . وإمّا لأجل كونه غاية للإنذار الواجب ، وغاية الواجب واجبة كما مرّ .
وخامساً : على ثبوت الإطلاق لوجوب التحذّر ; بأن يكون مفادها وجوب العمل على طبق قول المنذر مطلقاً; سواء أفاد قوله العلم أم لا . فإذا تمّت هذه المقدّمات يصحّ الاستدلال بالآية الشريفة على حجّية فتوى المجتهد ولزوم العمل على طبقه ، مع أنّ جلّها لولا كلّها مخدوش بل ممنوع .
أمّا المقدّمة الاُولى : فيمكن الخدشة فيها ; بأن يقال : إنّ الآية لا تكون مسوقة لإفادة وجوب النفر على طائفة من كلّ فرقة ، بل غرضها الردع عن النفر العمومي ; بأن يكون قوله تعالى : {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَآفَّةً} إخباراً في مقام الإنشاء ، ويؤيّده ما ورد من أنّ القوم كانوا ينفرون كافّة للجهاد ، وبقي رسول الله(صلى الله عليه وآله) وحده ، فورد النهي عن النفر العمومي ، والأمر بنفر طائفة للجهاد(1) . ويؤيّده أيضاً ما قيل : من أنّ كلمة «النفر» في القرآن المجيد لم تستعمل في سائر الموارد إلاّ في الجهاد .
هذا ، ولكنّ الإنصاف أنّ هذه المقدّمة تامّة وظاهر الآية يساعدها ، كما لا يخفى .
وأمّا المقدّمة الثانية : فممنوعة ; لعدم الدليل على اختصاص التفقّه وانحصاره بالفرعيّات ، بل الظاهر أ نّه أعمّ منه ومن التفقّه في الأُصول ، ومن المعلوم أنّ وجوب القبول تعبّداً لا يجري فى هذا القسم من التفقّه ، فتصير هذه قرينة على عدم كون الآية بصدد إيجاب القبول كذلك ، إلاّ أن يقال بأنّ إطلاق الآية يقتضي وجوب القبول تعبّداً مطلقاً ، خرج منه الأُصول وبقي الفروع .
- (1) مجمع البيان : 5 / 131 .