(الصفحة 11)
وجوب تعلّم الأحكام نفسياً ، وأُخرى: بلحاظ المصالح الواقعية الباعثة على جعل الأحكام .
فعلى الأوّل: لا يتصوّر ذلك في الاحتياط ; لأ نّه عنوان لنفس العمل ، بل في التقليد بناءً على المختار فيه من أ نّه العمل عن استناد .
وعلى الثاني : لا يتصوّر في الاجتهاد ; لأ نّه طريق لمعرفة الأحكام ، ولا يتمّ في الاحتياط ; لعدم الدليل على وجوبه شرعاً .
وإن كان المراد به هو الوجوب الطريقي ـ أعني الإيجاب بداعي التنجيز أو التعذير ـ فإن أُريد به وجوب تعلّم الأحكام فهو لا يتصوّر في الاحتياط ، بل في التقليد على المختار . وإن أُريد به الوجوب بلحاظ التحفّظ على الملاكات الواقعيّة فلا يصحّ في شيء من الأُمور الثلاثة ; لعدم كونها طريقاً إلى الواقع ، وإنّما الطرق هي الأمارات والأُصول بالإضافة إلى المجتهد ، وفتوى المجتهد بالنسبة إلى المقلِّد .
وإن كان المراد به هو الوجوب الغيري ، فلا يتصوّر له معنى في المقام ; لأنّ شيئاً من الأُمور الثلاثة لا يكون مقدّمة وجوديّة لواجب نفسي حتى يتّصف بالوجوب الغيري من قبله(1)، انتهى .
ويرد عليه ـ مضافاً إلى أ نّه لا يلزم في الواجبات الشرعيّة أن يكون الأمر الذي بلحاظه تعلّق الوجوب بها معلوماً لنا حتى يتردّد في المقام في أنّ الوجوب المتعلّق بأحد هذه الاُمور الثلاثة على سبيل التخيير لا محالة ، بناءً على كونه شرعيّاً كما هو المفروض ، هل هو بلحاظ كذا أو كذا؟ بل البحث إنّما هو في إمكان ذلك شرعاً واستحالته ، ونحن لا نرى وجهاً لعدم الإمكان ; فإنّه لو دلّ دليل شرعيّ كآية أو
- (1) دروس في فقه الشيعة: 1/17 ـ 18 .
(الصفحة 12)
رواية مثلا على وجوبها كذلك ، فأيّ مانع يمنع عنه ويوجب التصرّف في دلالته أو سنده مثلا ـ : أنّه ناشئ من عدم حمل العبارة على ما هو مقصود الماتن(قدس سره) ; فإنّ الظاهر أنّ متعلّق الوجوب في جميع الأُمور الثلاثة إنّما هو العمل ; يعني أنّ المكلّف يجب عليه في مقام العمل إمّا أن يعمل على طبق اجتهاده أو تقليده ، أو يراعي الاحتياط في هذا المقام .
وعليه : فالتفكيك بين هذه الأُمور من جهة كون الاحتياط عنواناً لنفس العمل ـ وكذا التقليد على مختاره ، والاجتهاد طريق لمعرفة الأحكام ولا يكون عنواناً لنفس العمل ـ ممّا لا وجه له من جهة ما هو المقصود من العبارة ، بل لا محيص عن الحمل على العمل .
ضرورة أنّ العقل الحاكم بالوجوب لا يحكم بكفاية الاجتهاد بمجرّده ; لعدم تأثيره كذلك في امتثال التكاليف المعلومة بالإجمال ، بل المؤثّر إنّما هو العمل على طبق الاجتهاد ، فلا مناص من حمل العبارة على العمل ، وإن كان الجمود على الظاهر يأباه كما هو ظاهر .
ثمّ التمسّك في مقام الاستدلال على إثبات الاستحالة وعدم الإمكان بعدم وجوب الاحتياط شرعاً فيه ما لا يخفى من الغرابة ، كما أنّ دعوى استلزام الوجوب الشرعي للتسلسل ـ نظراً إلى أ نّه على تقدير كون الوجوب شرعيّاً لابدّ وأن يكون المكلّف في هذا التكليف أيضاً غير خال عن إحدى الحالات الثلاث ، بخلاف ما إذا كان الوجوب عقلياً ـ واضحة الدفع ; ضرورة أنّ اللابدّية المذكورة لا توجب الانتهاء إلى التسلسل ، فأيّ مانع من أن تجري هذه الحالات الثلاث في هذا التكليف أيضاً ، كما هو ظاهر .
وقد انقدح ممّا ذكرنا أ نّه لا مانع من تعلّق الوجوب الشرعي بهذه الأُمور
(الصفحة 13)
الثلاثة . نعم ، لا ينبغي الإشكال في أنّه على تقدير الوقوع يكون كسائر الأحكام الشرعيّة ، فلابدّ من أن يكون الوصول إليه إمّا بطريق الاجتهاد، أو التقليد، أو الاحتياط ، فتدبّر .
الجهة الثانية : أنّه بناءً على كون المراد بالوجوب هو الوجوب العقلي ـ الذي مرجعه كما عرفت(1) إلى إدراك العقل لزوم طيّ أحد هذه الطرق في مقام التخلّص عن عقوبة المولى والفرار عنها كما هو الظاهر ; لعدم الدليل شرعاً على ذلك ، أو لاستحالة الوجوب الشرعي على الخلاف المتقدّم ـ هل هنا طريق رابع ، أو أنّ الطرق منحصرة بهذه الاُمور الثلاثة؟ لا ينبغي الإشكال في عدم الانحصار . ضرورة أنّ المكلّف لو حصل له العلم بالتكليف وبخصوصيّاته من أيّ طريق حصل يكون حجّة عليه ، ويلزم عقلا متابعته واقتفاء أثره ، ولأجل ذلك لا يكون المعصوم(عليه السلام) خارجاً عن هذا الحكم العقلي ، وإلاّ فعلى ما هو ظاهر العبارة يكون خروج المعصوم(عليه السلام) ممّا لا ينبغي الارتياب فيه .
وبالجملة : فمع حصول العلم الوجداني الذي هو أقوى الطرق لا وجه للزوم سلوك طريق آخر . نعم ، هنا كلام في أنّ حجّيّة العلم هل يمكن أن تنالها يد الجعل إثباتاً أو نفياً أم لا؟ والتحقيق في محلّه . كما أ نّه وقع الكلام أيضاً في إمكان عدم اجتزاء الشارع بالعلم الحاصل من طريق خاصّ كالجفر والرمل وأمثالهما وعدمه ، والتحقيق أيضاً في محلّه .
هذا ، ويمكن أن يقال بثبوت طريق خامس ; وهو الاكتفاء بالامتثال
الاحتمالي في بعض الموارد ; وهو ما لا يكون للمكلّف أيّة حجّة ولا يمكن له
(الصفحة 14)
الاحتياط ، فتدبّر .
الجهة الثالثة : هل هذه الأُمور الثلاثة التي يتطرّق بها في مقام التخلّص عن تبعة مخالفة تكليف المولى طوليّة مترتّبة ، أو أ نّه في رتبة واحدة؟ ربما يُقال بتقدّم الأخير ـ أعني الاحتياط ـ على الأوّلين ; نظراً إلى أنّ الاحتياط طريق عقليّ يترتّب عليه الأثر المترقّب قطعاً ، وأمّا عدلاه فيحتاج إلى الجعل الشرعي وحكم الشارع بحجّية منشأ الاستنباط وكونه معتبراً عنده كما في الاجتهاد ، والتقليد يتفرّع عليه ، ضرورة أنّ المقلَّد ـ بالفتح ـ لا يكون عالماً بالأحكام الإلهية بالعلم الوجداني إلاّ نادراً ، وعليه : فمرتبة الاحتياط متقدّمة عليهما .
كما أ نّه ربما يقال بتقدّم مرتبة الأوّلين على الاحتياط ، نظراً إلى أنّ جواز الاحتياط حيث يكون محلّ الخلاف فلابدّ من أن يكون المكلّف مجتهداً فيه أو مقلّداً ، ففي الحقيقة الواجب على المكلّف إمّا الاجتهاد وإمّا التقليد ، وعلى التقديرين فإن أدّى نظره أو نظر مقلَّده إلى جواز الاحتياط يجوز ، وإلاّ فلا .
والظاهر فساد كلا القولين :
أمّا الأوّل : فلأنّ الاحتياج إلى حكم الشارع في باب الاجتهاد إنّما هو لتحقّق موضوع الاجتهاد وصغريه . وأمّا الاكتفاء في مقام الامتثال بموافقة الطريق الذي حكم الشارع بجواز التطرّق به ، وعدم المنع من انسلاكه ، فهو حكم عقليّ يترتّب على الحجيّة الشرعيّة ، والكلام إنّما هو في هذا الحكم لا في تحقّق الموضوع . وكذلك التقليد المتفرّع على هذا النحو من الاجتهاد ; فإنّ الاجتزاء به من باب رجوع الجاهل في كلّ فنّ وصنعة إلى العالم به لا يكاد يكون الحاكم به إلاّ العقل ، كما هو غير خفيّ .
وأمّا الثاني : فقد ذكر المحقّق الاصفهاني(قدس سره) في رسالة الاجتهاد والتقليد أنّ كون
(الصفحة 15)
المسألة خلافية نظرية لا يقتضي جريان التقليد فيه ، قال : ألا ترى أنّ أصل التقليد خلافيّ جوازاً ومنعاً ، ومع ذلك لا يقتضي أن يكون تقليدياً ، وكذلك تقليد الأعلم خلافيّ ومع ذلك ليس بتقليديّ ، إلى غير ذلك من النظريات والخلافيات ، بل كونه تقليدياً يتبع أن يكون على طبق المورد حكم مماثل يمكن أن يكون العامي متعبّداً به ومنشأً لحركته على طبقه ، فلو لم يكن هناك حكم مماثل ، أو كان ولكن لم يمكن منشئيّته لحركة العامّي للزوم المحال ، فلا محالة لا يكون تقليدياً .
ثمّ قال ما ملخّصه : إنّ للاحتياط حيثيّتين :
إحداهما : الحيثيّة العارضة للاحتياط بعنوانه من وجوب شرعيّ حقيقي أو طريقي ، أو حرمة نفسية بملاحظة انطباق عنوان مبغوض عليه .
ثانيتهما : الحيثية المخرجة للاحتياط عن كونه احتياطاً ; لأنّ الشارع لو تصرّف في مورده بنفي أو إثبات تعيّن أحد الطرفين شرعاً ، فلا مورد للاحتياط عقلا .
أمّا بلحاظ الحيثيّة الأُولى ، فالمسألة تقليديّة بلحاظ العارض لا المعروض ، فترتّب الأثر المترقّب من العمل الاحتياطي غير منوط بالتقليد ، وإن كان كونه فاعلا للواجب أو تاركاً للحرام قابلا للاستناد إلى فتوى المجتهد .
وأمّا بلحاظ الحيثيّة الثانية ، فالمسألة تقليدية من حيث نفس عنوان الاحتياط ; لعدم تمكّن العامي من استنباط تمحّض المورد للاحتياط إلاّ بالرجوع إلى المجتهد ، ولذا ذكرنا أنّ إجراء الأُصول العقلية منوط بنظر المجتهد .
ثمّ قال : والتحقيق أ نّ حرمة الاحتياط نفسيّاً وعدمها ليست مهمّة في مقام حصر طريق الامتثال في الاجتهاد والتقليد وعدمه ، بل المهم ترتّب الأثر المترقّب من المعاملة والعبادة على الاحتياط، وحيث إنّ فرض الاحتياط حقيقة هو فرض ترتّب أثر الواقع، فلا محالة يؤول البحث إلى البحث عن تحقّق العبادة ـ كالمعاملة ـ