(الصفحة 128)
الدليل في المقام إنّما هو الإجماع والسيرة وهما دليلان لبيان ، لا يبقى مجال لاستظهار أنّ الموضوع هل يكون على النحو الأوّل أو الثاني؟
وهذا بخلاف تعارض الخبرين ، حيث استظهروا أنّ الموضوع للحكم بالتخيير فيهما «من جاءه حديثان مختلفان» وهو باق بعد الأخذ بأحدهما قطعاً ، وأمّا المقام فأمر الموضوع دائر فيه بين ما هو مقطوع البقاء وما هو مقطوع الارتفاع ، وفي مثله لا مجال للاستصحاب لا في الحكم ; لعدم إحراز بقاء موضوعه ، ولا في موضوعه بوصف الموضوعيّة ; لرجوعه إلى استحصاب الحكم ، ولا فيه بذاته ; لعدم الشكّ فيه ; لدورانه بين المقطوعين .
الجهة الثانية : أنّ هذا الدليل أخصّ من المدّعى ; لأنّ الاستصحاب على تقدير تماميّته إنّما يجري فيما إذا كانت الحالة السابقة هو التخيير ، ولا يجري فيما إذا كان المجتهد الأوّل في زمان الأخذ بفتواه أعلم ، فأراد الرجوع إلى الغير الذي كان دونه في الفضل ، ثمّ بلغ مرتبة الأوّل بحيث صارا متساويين ; فإنّه حينئذ ليس للتخيير حالة سابقة حتى يستصحب ، كما هو واضح .
الجهة الثالثة : أنّ هذا الاستصحاب من الاستصحابات الحكميّة التي بيّنا في محلّه أنّها غير جارية ; للابتلاء بالمعارض دائماً .
الجهة الرابعة : أ نّه لو سلّمنا جريان الاستصحاب في الأحكام أيضاً ، لم يكن مجال للاستصحاب في المقام ; لابتلائه بالمعارض ، وهو استصحاب الحجّية الفعليّة للفتوى المأخوذ بها ; وذلك لأنّ المعنى المعقول من الحجّية التخييريّة هو أن يكون أمر الحجّية قد أوكل إلى اختيار المكلّف ; بأن يتمكّن من أن يجعل ما ليس بحجّة حجّة بأخذه فتوى أحد المتساويين .
وهذا المعنى لا يكون مورداً للاستصحاب ; لأنّ فتوى أحد المتساويين إذا
(الصفحة 129)
اتّصفت بالحجّيّة الفعليّة من جهة أخذ المكلّف بها ، وشككنا في جواز الأخذ بفتوى المجتهد الآخر ، يجري فيها استصحابان متعارضان : أحدهما : استصحاب جواز الأخذ بفتوى المجتهد الآخر ; لأ نّه مسبوق بالجواز على الفرض ، ثانيهما :استصحاب حجّية ما اتّصف بالحجّية الفعليّة بالأخذ به ، فاستصحاب بقاء التخيير معارض باستصحاب بقاء الحجّية الفعلية فيما أُخذ به .
وماعن الشيخ الأنصاري(قدس سره) من حكومة استصحاب التخيير على الاستصحاب الآخر(1) فممّا لا يمكن المساعدة عليه ; لعدم كون الحجّية الفعلية من الآثار الشرعيّة المترتّبة على بقاء الحجّية التخييريّة ، بل من الآثار العقليّة التي لا تترتّب على الاستصحاب بوجه .
ثمّ قال : والصحيح أنّ استصحاب الحجّية التخييريّة غير جار في نفسه ; لأ نّه بمعنى استصحاب الحجيّة الشأنية ; أعني الحجّية على تقدير الأخذ بها ، وهو من الاستصحاب التعليقي ، ولا نقول به حتّى إذا قلنا بجريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة في موارد الأحكام التخييريّة ، ومع عدم جريان الاستصحاب إذا شككنا في حجّية فتوى المجتهد الذي يريد العدول إليه ، لا مناص من الحكم بعدم حجّيتها ; لأنّ الشكّ في الحجّية يساوق القطع بعدمها(2) .
أقول : ويرد على الجهة الأُولى :
أوّلا : ما أفاده المحقّق الاصفهاني(قدس سره) ما ملخّصه : أ نّه لابدّ من ملاحظة موضوع أدلّة التقليد اللفظيّة وغيرها . أمّا موضوع قضيّة الفطرة والجبلّة فهو الجاهل ، ومن
- (1) رسالة في الاجتهاد والتقليد للشيخ الأنصاري ، ضمن مجموعة رسائل : 87 .
-
(2) التنقيحفي شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 120 ـ 124 .
(الصفحة 130)
المعلوم أ نّه لم يرتفع جهله حقيقة بالرجوع إلى العالم ، بل هو على حاله ، وإنّما صار منقاداً له فيما يراه ، وكذا موضوع السيرة العقلائيّة ، وأمّا آية النفر(1) فهي تدلّ على حجّية الفتوى إذا كان التفقّه موقوفاً على إعمال النظر ، ومن الواضح أنّ مقابل الفقيه بهذا المعنى هو من ليس له قوّة إعمال النظر .
وأمّا آية السؤال(2) ، فموضوع وجوب السؤال وإن كان هو الجاهل في قبال العالم بالحكم الفعلي ; لِما مرّ منّا من أنّ ظاهرها السؤال لكي يعلموا بالجواب لا بأمر زائد عليه ، وبعد حصول العلم الشرعي بسبب الجواب لا موضوع لوجوب السؤال ، ومقتضاه عدم جواز العدول ; لعدم دليل على تقليد الغير بعد تقليد الأوّل ، إلاّ أنّ دقيق النظر يقتضي خلافه ; لأنّ موضوع وجوب السؤال وإن كان هو الجاهل بذلك المعنى ، لكن موضوع وجوب التقليد عملا كان أو التزاماً هو العالم بعد السؤال ، ولذا لو سأل شخصين من أهل الفتوى كان له العمل بفتوى أيّ واحد منهما ، وهذا الموضوع باق بعد العمل ، وإن لم يكن موضوع السؤال كذلك .
وأمّا مثل قوله(عليه السلام) : «فللعوام أن يقلِّدوه»(3) ، فمن الواضح أنّ العامّي في قبال ما فرضه مرجعاً وهو الفقيه ، فحاله حال آية النفر إشكالا وجواباً . وأمّا عنوان المتخيّر ، ومن ليس له طريق إلى مقصده ، ومن لم يختر ، ومن لم يأخذ بشيء ،
فكلّها عناوين ـ انتزاعية باجتهاد منّا في تنقيح موضوع الحكم بالتخيير ببعض المناسبات ـ لا دخل لها بما أُخذ شرعاً في موضوع الدليل(4) .
- (1) سورة التوبة : 9 / 122 .
-
(2) سورة الأنبياء : 21 / 7 .
-
(3) تقدّم في ص83 .
-
(4) بحوث في الاُصول ، الاجتهاد والتقليد : 153 ـ 154 .
(الصفحة 131)
وثانياً : أ نّه لو سلّم عدم إحراز الموضوع بالإضافة إلى دليل التخيير الذي هو الإجماع والسيرة ، فذلك لا يمنع عن جريان الاستصحاب ; وذلك لأ نّه لو أُريد إجراء الاستصحاب في الحكم الكلّي الثابت بمقتضى الدليل ، فعدم إحراز الموضوع قادح في جريانه : وأمّا بعد انطباق الحكم الكلّي على مورد لأجل تحقّق موضوعه في ذلك المورد ، فإذا شكّ في بقائه فيه فلا مانع من إجراء الاستصحاب في خصوص المورد الذي ثبت فيه الحكم .
مثلا إذا دلّ الدليل على أنّ الماء المتغيّر أحد أوصافه بالنجاسة نجس ، وشكّ في بقاء النجاسة في الماء الخارجي الذي زال تغيّره من قبل نفسه ، وارتفع فيه الوصف العرضي الحاصل من قبل النجاسة ; فإن كان المراد استصحاب الحكم الكلّي الثابت لعنوان «الماء المتغيّر» إذا شكّ في بقائه من جهة ، فهذا لا يستقيم إلاّ مع حفظ الموضوع وبقاء عنوان «الماء المتغيّر» ، وأمّا إذا كان المراد انطباق هذا العنوان على الماء الخارجي الموجود في حوض مخصوص ، وصار ذلك الماء متّصفاً بالنجاسة ; لصيرورته مصداقاً لذلك العنوان ، فإذا شكّ في بقاء نجاسته لأجل زوال التغيّر من قبل نفسه ، واحتمال دخالة التغيّر فيه بقاءً ـ كدخالته حدوثاً ـ فأيّ مانع من جريان الاستصحاب بالإضافة إلى هذا الماء الخاصّ ؟
ولا وجه لدعوى عدم إحراز بقاء الموضوع بعد كون الموضوع للنجاسة هو نفس الماء الباقي بعد زوال التغيّر قطعاً ، وفي المقام أيضاً لا مانع من جريان استصحاب التخيير بالإضافة إلى شخص المقلّد ، الذي كان الحكم بالاضافة إليه بمقتضى دليل التخيير ـ وهو الإجماع والسيرة ـ هو التخيير ، وشكّ في بقائه من جهة احتمال كون التخيير بدويّاً لا استمراريّاً ، فبمعونة الاستصحاب يثبت الاستمرار ويجوز له الرجوع إلى المجتهد الآخر وإن كان قد رجع إلى المجتهد الأوّل ، كما لا يخفى .
(الصفحة 132)
وعلى الجهة الثانية : أنّها وإن كانت واردة على إطلاق عبارة مثل «العروة»(1) ، إلاّ أ نّه لا وجه لورودها فيما هو المهمّ ـ المفروض في المقام ـ من تساوي المجتهدين ابتداءً واستدامة .
وعلى الجهة الثالثة : أنّ الاستصحابات الحكميّة أيضاً جارية بمقتضى دليل الاستصحاب ، والتحقيق في محلّه .
وعلى الجهة الرابعة : عدم ابتلاء استصحاب التخيير بالمعارض ، لا لأجل عدم كون المعارض في رتبته وكونه محكوماً بالإضافة إليه ، كما ادّعاه الشيخ المحقّق الأنصاري(قدس سره) (2) ، بل لأجل أ نّه ليس هنا إلاّ استصحاب واحد ; وهو استصحاب الحجّية الثابتة بنحو البدليّة وصرف الوجود ; ضرورة أ نّه مع الرجوع إلى أحد المجتهدين لا تتبدّل عن البدليّة ولا تتّصف بالفعليّة ، فإذا قال المولى : «أكرم رجلا» فالواجب بمقتضى أمر المولى هو إكرام فرد من طبيعة الرجل بنحو البدليّة ، فإذا أكرم زيداً مثلا لا يصير إكرام زيد واجباً فعليّاً ، بل هو على ما كان من الوجوب البدلي ، وفي المقام كان الثابت مجرّد الحجّية البدلية ، والآن نشكّ في بقائها فتستصحب ، وليس هنا استصحاب آخر حتى يكون معارضاً له أو محكوماً بالإضافة إليه ، كما هو ظاهر .
ثمّ على تقدير وجود كلا الاستصحابين ، لا مناص عن الالتزام بما أفاده الشيخ(قدس سره) من حكومة استصحاب التخيير على استصحاب الحجّية الفعليّة ; لخصوص الفتوى المأخوذ بها ، وما أورده عليه : من أنّ عدم الحجّية الفعلية ليس
- (1) العروة الوثقى : 1 / 7 مسألة 11 .
-
(2) رسالة في الاجتهاد والتقليد للشيخ الأنصاري ، ضمن مجموعة رسائل : 87 .