(الصفحة 130)
المعلوم أ نّه لم يرتفع جهله حقيقة بالرجوع إلى العالم ، بل هو على حاله ، وإنّما صار منقاداً له فيما يراه ، وكذا موضوع السيرة العقلائيّة ، وأمّا آية النفر(1) فهي تدلّ على حجّية الفتوى إذا كان التفقّه موقوفاً على إعمال النظر ، ومن الواضح أنّ مقابل الفقيه بهذا المعنى هو من ليس له قوّة إعمال النظر .
وأمّا آية السؤال(2) ، فموضوع وجوب السؤال وإن كان هو الجاهل في قبال العالم بالحكم الفعلي ; لِما مرّ منّا من أنّ ظاهرها السؤال لكي يعلموا بالجواب لا بأمر زائد عليه ، وبعد حصول العلم الشرعي بسبب الجواب لا موضوع لوجوب السؤال ، ومقتضاه عدم جواز العدول ; لعدم دليل على تقليد الغير بعد تقليد الأوّل ، إلاّ أنّ دقيق النظر يقتضي خلافه ; لأنّ موضوع وجوب السؤال وإن كان هو الجاهل بذلك المعنى ، لكن موضوع وجوب التقليد عملا كان أو التزاماً هو العالم بعد السؤال ، ولذا لو سأل شخصين من أهل الفتوى كان له العمل بفتوى أيّ واحد منهما ، وهذا الموضوع باق بعد العمل ، وإن لم يكن موضوع السؤال كذلك .
وأمّا مثل قوله(عليه السلام) : «فللعوام أن يقلِّدوه»(3) ، فمن الواضح أنّ العامّي في قبال ما فرضه مرجعاً وهو الفقيه ، فحاله حال آية النفر إشكالا وجواباً . وأمّا عنوان المتخيّر ، ومن ليس له طريق إلى مقصده ، ومن لم يختر ، ومن لم يأخذ بشيء ،
فكلّها عناوين ـ انتزاعية باجتهاد منّا في تنقيح موضوع الحكم بالتخيير ببعض المناسبات ـ لا دخل لها بما أُخذ شرعاً في موضوع الدليل(4) .
- (1) سورة التوبة : 9 / 122 .
-
(2) سورة الأنبياء : 21 / 7 .
-
(3) تقدّم في ص83 .
-
(4) بحوث في الاُصول ، الاجتهاد والتقليد : 153 ـ 154 .
(الصفحة 131)
وثانياً : أ نّه لو سلّم عدم إحراز الموضوع بالإضافة إلى دليل التخيير الذي هو الإجماع والسيرة ، فذلك لا يمنع عن جريان الاستصحاب ; وذلك لأ نّه لو أُريد إجراء الاستصحاب في الحكم الكلّي الثابت بمقتضى الدليل ، فعدم إحراز الموضوع قادح في جريانه : وأمّا بعد انطباق الحكم الكلّي على مورد لأجل تحقّق موضوعه في ذلك المورد ، فإذا شكّ في بقائه فيه فلا مانع من إجراء الاستصحاب في خصوص المورد الذي ثبت فيه الحكم .
مثلا إذا دلّ الدليل على أنّ الماء المتغيّر أحد أوصافه بالنجاسة نجس ، وشكّ في بقاء النجاسة في الماء الخارجي الذي زال تغيّره من قبل نفسه ، وارتفع فيه الوصف العرضي الحاصل من قبل النجاسة ; فإن كان المراد استصحاب الحكم الكلّي الثابت لعنوان «الماء المتغيّر» إذا شكّ في بقائه من جهة ، فهذا لا يستقيم إلاّ مع حفظ الموضوع وبقاء عنوان «الماء المتغيّر» ، وأمّا إذا كان المراد انطباق هذا العنوان على الماء الخارجي الموجود في حوض مخصوص ، وصار ذلك الماء متّصفاً بالنجاسة ; لصيرورته مصداقاً لذلك العنوان ، فإذا شكّ في بقاء نجاسته لأجل زوال التغيّر من قبل نفسه ، واحتمال دخالة التغيّر فيه بقاءً ـ كدخالته حدوثاً ـ فأيّ مانع من جريان الاستصحاب بالإضافة إلى هذا الماء الخاصّ ؟
ولا وجه لدعوى عدم إحراز بقاء الموضوع بعد كون الموضوع للنجاسة هو نفس الماء الباقي بعد زوال التغيّر قطعاً ، وفي المقام أيضاً لا مانع من جريان استصحاب التخيير بالإضافة إلى شخص المقلّد ، الذي كان الحكم بالاضافة إليه بمقتضى دليل التخيير ـ وهو الإجماع والسيرة ـ هو التخيير ، وشكّ في بقائه من جهة احتمال كون التخيير بدويّاً لا استمراريّاً ، فبمعونة الاستصحاب يثبت الاستمرار ويجوز له الرجوع إلى المجتهد الآخر وإن كان قد رجع إلى المجتهد الأوّل ، كما لا يخفى .
(الصفحة 132)
وعلى الجهة الثانية : أنّها وإن كانت واردة على إطلاق عبارة مثل «العروة»(1) ، إلاّ أ نّه لا وجه لورودها فيما هو المهمّ ـ المفروض في المقام ـ من تساوي المجتهدين ابتداءً واستدامة .
وعلى الجهة الثالثة : أنّ الاستصحابات الحكميّة أيضاً جارية بمقتضى دليل الاستصحاب ، والتحقيق في محلّه .
وعلى الجهة الرابعة : عدم ابتلاء استصحاب التخيير بالمعارض ، لا لأجل عدم كون المعارض في رتبته وكونه محكوماً بالإضافة إليه ، كما ادّعاه الشيخ المحقّق الأنصاري(قدس سره) (2) ، بل لأجل أ نّه ليس هنا إلاّ استصحاب واحد ; وهو استصحاب الحجّية الثابتة بنحو البدليّة وصرف الوجود ; ضرورة أ نّه مع الرجوع إلى أحد المجتهدين لا تتبدّل عن البدليّة ولا تتّصف بالفعليّة ، فإذا قال المولى : «أكرم رجلا» فالواجب بمقتضى أمر المولى هو إكرام فرد من طبيعة الرجل بنحو البدليّة ، فإذا أكرم زيداً مثلا لا يصير إكرام زيد واجباً فعليّاً ، بل هو على ما كان من الوجوب البدلي ، وفي المقام كان الثابت مجرّد الحجّية البدلية ، والآن نشكّ في بقائها فتستصحب ، وليس هنا استصحاب آخر حتى يكون معارضاً له أو محكوماً بالإضافة إليه ، كما هو ظاهر .
ثمّ على تقدير وجود كلا الاستصحابين ، لا مناص عن الالتزام بما أفاده الشيخ(قدس سره) من حكومة استصحاب التخيير على استصحاب الحجّية الفعليّة ; لخصوص الفتوى المأخوذ بها ، وما أورده عليه : من أنّ عدم الحجّية الفعلية ليس
- (1) العروة الوثقى : 1 / 7 مسألة 11 .
-
(2) رسالة في الاجتهاد والتقليد للشيخ الأنصاري ، ضمن مجموعة رسائل : 87 .
(الصفحة 133)
من الآثار الشرعيّة المترتّبة على بقاء الحجّية التخييرية ، بل هو من الآثار العقلية التي لا تترتّب على الاستصحاب بوجه مخدوش ; بأنّ عدم ترتّب الآثار العقلية إنّما هو فيما إذا كان المستصحب من الموضوعات الخارجيّة التي لها أحكام شرعيّة ولوازم عقلية أو عادية .
وأمّا إذا كان المستصحب نفس المجعول الشرعي والأثر المضاف إلى الشارع ، فلا محالة يترتّب على استصحابه جميع الآثار ; لتحقّق موضوعها بتمامها ، فيترتّب على استصحاب وجوب صلاة الجمعة مثلا وجوب الإطاعة والموافقة ، الذي هو حكم عقليّ .
وفي المقام يكون التخيير المستصحب حكماً شرعيّاً ، قد دلّ عليه الدليل
من الإجماع أو السيرة كما هو المفروض ، فيترتّب عليه الآثار مطلقاً ولو كانت
عقلية ، ومن جملتها عدم الحجّيّة الفعليّة لخصوص الفتوى المأخوذ بها ،
كما لا يخفى .
فانقدح من جميع ما ذكرنا الجواب عن الجهات الأربع وتماميّة استصحاب التخيير بالنحو الذي ذكرنا ، ومقتضاه جواز العدول ، وقد مرّ أ نّه هو العمدة في الباب(1) ، والمهمّ للقائل بالجواز .
وأمّا أدلّة القول بعدم جواز العدول :
فمنها : الاستصحاب ، وتقريبه أ نّه تارة: تستصحب الحجّية الفعليّة الثابتة
في حقّ المقلّد بالأخذ بفتوى المجتهد الذي عدل عنه ، وأُخرى : يستصحب
الحكم الواقعي الذي استكشف من فتواه ، حيث تكون طريقاً إليه وكاشفة عنه ،
(الصفحة 134)
وثالثة : يستصحب الحكم الظاهري المجعول عقيب كلّ أمارة وطريق .
ومنها : فتوى الفقيه .
والجواب : أمّا عن استصحاب الحجّية فما عرفت من أ نّه ليس هنا إلاّ الحجّية الثابتة بنحو البدليّة ، واستصحابها ينتج جواز العدول وعدم تعيّن فتوى المجتهد الأوّل ، وأمّا الاستصحابان الآخران فسيأتي الجواب عنهما مفصّلا ـ إن شاء الله تعالى ـ في مسألة البقاء على تقليد الميّت(1) ، فانتظر .
ومنها : أنّ جواز العدول يستلزم العلم بالمخالفة القطعيّة العمليّة في بعض المواضع ، كما إذا أفتى أحد المجتهدين بوجوب القصر على من سافر أربعة فراسخ ولم يرد الرجوع ليومه ، والآخر بوجوب التمام فيه ، فقلّد المكلّف أحدهما فقصّر ، ثمّ عدل إلى الآخر فأتمّ ; فإنّه يستلزم العلم بتحقّق المخالفة وبطلان صلواته المقصورة أو غيرها إجمالا ، بل لو وقع ذلك في الصلاتين المترتّبتين ـ كما في الظهرين مثلا ـ يعلم تفصيلا ببطلان الثانية ، إمّا لبطلانها من جهة نفسها ، وإمّا لبطلانها من جهة بطلان الأُولى وعدم ترتّب الثانية عليها .
والجواب :
أمّا أوّلا : فبالنقض بموارد وجوب العدول ، كما إذا فرضنا أنّ المجتهد الثاني يكون أعلم ، أو أنّ الأوّل خرج عن صلاحيّة التقليد بموت ، أو جنون ، أو فسق مثلا .
وأمّا ثانياً : فبعدم انطباق الدليل على المدّعى ; فإنّ المدّعى عدم جواز العدول وتعيّن المجتهد الأوّل ، واتّصاف فتواه بوصف الحجّية فقط ، والدليل يدلّ على عدم جواز الاقتصار على مجرّد ترتيب الأثر على كلتا الفتويين ; للزوم المخالفة العمليّة