(الصفحة 176)
الأمر الثالث : إذا رجع إلى غير الأعلم ، فتارة : يفتي بعدم وجوب تقليد الأعلم ، وأُخرى: يفتي بوجوبه .
ففي الصورة الأُولى: إن كان مستند الرجوع إلى غير الأعلم هو حكم عقله بالتساوي وإداركه عدم ثبوت المزيّة للأعلم بوجه ، فيجوز له تقليده في سائر المسائل وتطبيق العمل على فتاويه فيها ، وإن كان الرجوع مع احتمال تعيّن الأعلم وثبوت المزيّة له فلا يجوز له تقليده فيها ، والأخذ بفتاويه في المسائل الفرعيّة ; لِما عرفت من أ نّه مع احتمال تعيّن الأعلم يكون مقتضى أصالة التعيين العقليّة ـ الجارية في دوران الأمر بين التعيين والتخيير في باب الحجّية ـ هو الأخذ بقوله والاستناد إلى فتاويه وتطبيق العمل عليها .
وفي الصورة الثانية : يجب الرجوع إلى فتاوي الأعلم والأخذ بقوله ; سواء كان ذلك مع احتمال تعيّن الأعلم أم كان بدونه . أمّا إذا كان بدونه ; فلأنّ فتوى المجتهد غير الأعلم ـ التي حكم العقل بحجّيتها وعدم ثبوت المزيّة لفتوى الأعلم ـ هي وجوب الرجوع إلى الأعلم والأخذ بقوله . نعم ، بناءً على جواز العدول ، يمكن له أن يرجع إلى مجتهد آخر لا يفتي بوجوب الرجوع إلى الأعلم .
وأمّا إذا كان مع احتمال تعيّن الأعلم ; فلأنّ وجوب الرجوع إلى الأعلم ليس حينئذ لأجل فتوى غير الأعلم به ، بل لأجل مطابقته للاحتياط اللازم عقلا عند الدوران المذكور ، فالأخذ بقوله ليس لأجل حجّية قول غير الأعلم ، بل لأجل المطابقة المذكورة ، فتأمّل .
(الصفحة 177)[جواز التبعيض في التقليد]
مسألة8: إذا كان المجتهدان متساويين في العلم يتخيّر العامّي في الرجوع إلى أيّهما،كمايجوز له التبعيض في المسائل بأخذبعضهامن أحدهماوبعضها من الآخر 1.
1 ـ أمّا التخيير في التقليد فيما إذا كان هناك مجتهدان متساويان في العلم ولم يكن لأحدهما مزيّة على الآخر مثل الأورعيّة ، فقد تقدّم البحث عنه في المسألة الرابعة(1) بما لا مزيد عليه ، وذكرنا هناك أنّ الحجّية التخييريّة مع كونها معقولة في مقام الثبوت ـ بالمعنى الذي ذكرنا ـ قام الدليل عليها من النصّ والإجماع والسيرة في مقام الإثبات ، من دون فرق بين ما إذا كانت المخالفة بينهما مشكوكة أو معلومة ، فلا حاجة إلى إعادة هذا البحث .
وأمّا جواز التبعيض في المسائل والرجوع إلى أحدهما في بعضها ، وإلى الآخر في البعض الآخر ، فلا ينبغي الإشكال فيه ; لفرض حجّية كلا الرأيين ، وجواز الرجوع إلى كلا المجتهدين ، وليس الدليل على التخيير منحصراً بالإجماع حتّى يناقش في شموله لصورة التبعيض ; بدعوى أنّ القدر المتيقّن منه التخيير في الرجوع بالإضافة إلى جميع المسائل لا التبعيض . هذا إذا كانت المسائل مختلفة لا ترتبط بأجزاء عمل واحد أو شرائطه .
وأمّا إذا كانت مرتبطة بها ، كما إذا قلّد أحدهما في عدم وجوب السورة في الصلاة ، والآخر في الاكتفاء بالتسبيحات الأربع مرّة واحدة ، وصلّى بهذه الكيفيّة المركّبة من عدم السورة والتسبيحات مرّة واحدة ، فهل يجوز التبعيض حينئذ ،
(الصفحة 178)
وتكون صلاته صحيحة أم لا؟
ربما يقال بأ نّه إذا قلنا باختصاص جواز التخيير بين المجتهدين المتساويين بما
إذا لم تعلم المخالفة بينهما في الفتوى ، فالتبعيض بهذه الكيفيّة أيضاً جائز ، وأمّا
إذا عمّمنا الجواز لصورة العلم بالمخالفة ، فلا يجوز التبعيض بالإضافة إلى مركّب واحد ; لأنّ صحّة كلّ جزء من الأجزاء الارتباطيّة مقيّدة بما إذا أتى بالجزء الآخر صحيحاً ، فمع بطلان جزء منها تبطل الأجزاء بأسرها ، فإذا أتى بالصلاة مع الكيفيّة المذكورة واحتمل بعد ذلك بطلان ما أتى به ; لعلمه بمخالفة كلا المجتهدين ، فلا
محالة يشكّ في صحّة صلاته وفسادها، ولابدّ من أن يستند في ذلك إلى الحجّة
المعتبرة ، والمفروض عدمها ; لبطلان الصلاة عند كلا المجتهدين وإن اختلفا في مستند الحكم بالبطلان .
ويرد عليه :
أوّلا : أنّ تجويز التبعيض بهذه الكيفيّة أيضاً بناءً على الاختصاص غير
واضح ; لأنّ مجرّد عدم العلم بالمخالفة بينهما في الفتوى وإن كان موجباً لجواز الرجوع إلى كلّ واحد من المجتهدين ، إلاّ أنّ صحّة الصلاة لابدّ وأن تكون مستندة إلى الحجّة المعتبرة القائمة عليها ، والمفروض عدم إحرازها . غاية الأمر أنّ الفرق بينه وبين القول بالتعميم أ نّه بناءً على الثاني يكون بطلان الصلاة عند كليهما معلوماً للمقلّد. وأمّابناءً على الأوّل، فلم يحرز حكم واحد منهما بالصحّة وإن لم يعلم
الحكم بالبطلان أيضاً ، ومجرّد ذلك لا يكفي ، بل لابدّ من إحراز الحكم بالصحّة ، كما
هو ظاهر .
وثانياً : أنّ معنى صحّة العمل المركّب ليس إلاّ اشتماله على الأجزاء المعتبرة فيه والجهات المرعيّة وجوداً أو عدماً ، فإذا فرضنا أ نّه لا طريق له إلى تشخيصها غير
(الصفحة 179)
الرجوع إلى العالم بها ، والمفروض وجود عالمين متساويين لا يفضّل واحد منهما على الآخر ، وليس الحكم في مثله هو التساقط والرجوع إلى أمر آخر ، فما المانع من الرجوع في تشخيص الأجزاء إلى كليهما ، فيترك السورة استناداً إلى فتوى أحدهما بعدم الجزئيّة ، ويترك الزائدة على الواحدة في التسبيحات الأربع استناداً إلى فتوى الآخر بعدم لزوم الزائد ، ولا وجه لاعتبار أن يكون المجموع محكوماً بالصحّة عند واحد منهما ; فإنّ الصحّة ليست إلاّ عبارة عمّا ذكرنا ، ولا معنى لعدمها بعد ثبوت التخيير في المتساويين ولو مع العلم بالمخالفة بينهما ، فالأقوى بمقتضى ما ذكرنا جواز التبعيض بهذه الكيفيّه بناءً على القولين .
ثمّ إنّ التبعيض بمعنى الرجوع في كلّ واقعة إلى أحدهما ـ كأن يرجع في حكم صلاة الجمعة في جمعة إلى واحد ، وفي حكمها في جمعة اُخرى إلى آخر ـ يرجع
إلى ما تقدّم البحث عنه مفصّلاً من أ نّ التخيير بين المجتهدين المتساويين هل يكون ابتدائيّاً أو استمراريّاً ؟ فعلى الأوّل: لا مجال له . وعلى الثاني: يكون التخيير
مستمرّاً في كلّ جمعة .
وقد مرّ أنّ مقتضى التحقيق هو الثاني(1) .
(الصفحة 180)[وجوب الاحتياط في زمان الفحص]
مسألة9: يجب على العامّي في زمان الفحص عن المجتهد أو الأعلم أن يعمل بالاحتياط. ويكفي في الفرض الثاني الاحتياط في فتوى الذين يحتمل أعلميّتهم; بأن يأخذ بأحوط أقوالهم 1.
1 ـ أمّا وجوب الاحتياط في زمان الفحص عن المجتهد أو الأعلم ، فلِما مرّ في المقدّمة(1) من أ نّه يحكم العقل ـ بعد الالتفات إلى أصل التشريع ، وحصول العلم بثبوت أحكام إلزاميّة كثيرة في الشريعة ، ولزوم رعايتها والتعرّض لامتثالها ; لعدم
كون الناس مهملين في أُمورهم ، مفوّضين إلى اختيارهم ، مضافاً إلى التوعيد الثابت من الشرع قطعاً على ترك التعرّض ـ بلزوم التخلّص عن ترتّب العقوبة وتحصيل المؤمّن من العذاب ، وهو يحصل إمّا بالاجتهاد أو التقليد أو الاحتياط ، وحيث لا يكون مجتهداً كما هو المفروض ، ولم يتحصّل له فتوى المجتهد أو الأعلم ; لأ نّه بعد في زمان الفحص عن الحجّة ولم يصل إليها ، فيتعيّن عليه الاحتياط حتّى يتحقّق له الطريق الآخر ، فيتخيّر بينهما ، كما لا يخفى .
وأمّا الاكتفاء في خصوص الفرض الثاني بالاحتياط ـ في فتوى الذين يحتمل أعلميّتهم بالأخذ بأحوط أقوالهم ـ فللعلم الإجمالي بوجوب الحجّة ; وهي فتوى الأعلم بينهم ، فالأخذ بأحوط أقوالهم يوجب الأخذ بقول الأعلم أيضاً ، فلا يجب عليه الاحتياط المطلق الموافق للواقع قطعاً ، بل يتخيّر بنيه وبين الأخذ بأحوط أقوالهم ، وهو ظاهر .