(الصفحة 179)
الرجوع إلى العالم بها ، والمفروض وجود عالمين متساويين لا يفضّل واحد منهما على الآخر ، وليس الحكم في مثله هو التساقط والرجوع إلى أمر آخر ، فما المانع من الرجوع في تشخيص الأجزاء إلى كليهما ، فيترك السورة استناداً إلى فتوى أحدهما بعدم الجزئيّة ، ويترك الزائدة على الواحدة في التسبيحات الأربع استناداً إلى فتوى الآخر بعدم لزوم الزائد ، ولا وجه لاعتبار أن يكون المجموع محكوماً بالصحّة عند واحد منهما ; فإنّ الصحّة ليست إلاّ عبارة عمّا ذكرنا ، ولا معنى لعدمها بعد ثبوت التخيير في المتساويين ولو مع العلم بالمخالفة بينهما ، فالأقوى بمقتضى ما ذكرنا جواز التبعيض بهذه الكيفيّه بناءً على القولين .
ثمّ إنّ التبعيض بمعنى الرجوع في كلّ واقعة إلى أحدهما ـ كأن يرجع في حكم صلاة الجمعة في جمعة إلى واحد ، وفي حكمها في جمعة اُخرى إلى آخر ـ يرجع
إلى ما تقدّم البحث عنه مفصّلاً من أ نّ التخيير بين المجتهدين المتساويين هل يكون ابتدائيّاً أو استمراريّاً ؟ فعلى الأوّل: لا مجال له . وعلى الثاني: يكون التخيير
مستمرّاً في كلّ جمعة .
وقد مرّ أنّ مقتضى التحقيق هو الثاني(1) .
(الصفحة 180)[وجوب الاحتياط في زمان الفحص]
مسألة9: يجب على العامّي في زمان الفحص عن المجتهد أو الأعلم أن يعمل بالاحتياط. ويكفي في الفرض الثاني الاحتياط في فتوى الذين يحتمل أعلميّتهم; بأن يأخذ بأحوط أقوالهم 1.
1 ـ أمّا وجوب الاحتياط في زمان الفحص عن المجتهد أو الأعلم ، فلِما مرّ في المقدّمة(1) من أ نّه يحكم العقل ـ بعد الالتفات إلى أصل التشريع ، وحصول العلم بثبوت أحكام إلزاميّة كثيرة في الشريعة ، ولزوم رعايتها والتعرّض لامتثالها ; لعدم
كون الناس مهملين في أُمورهم ، مفوّضين إلى اختيارهم ، مضافاً إلى التوعيد الثابت من الشرع قطعاً على ترك التعرّض ـ بلزوم التخلّص عن ترتّب العقوبة وتحصيل المؤمّن من العذاب ، وهو يحصل إمّا بالاجتهاد أو التقليد أو الاحتياط ، وحيث لا يكون مجتهداً كما هو المفروض ، ولم يتحصّل له فتوى المجتهد أو الأعلم ; لأ نّه بعد في زمان الفحص عن الحجّة ولم يصل إليها ، فيتعيّن عليه الاحتياط حتّى يتحقّق له الطريق الآخر ، فيتخيّر بينهما ، كما لا يخفى .
وأمّا الاكتفاء في خصوص الفرض الثاني بالاحتياط ـ في فتوى الذين يحتمل أعلميّتهم بالأخذ بأحوط أقوالهم ـ فللعلم الإجمالي بوجوب الحجّة ; وهي فتوى الأعلم بينهم ، فالأخذ بأحوط أقوالهم يوجب الأخذ بقول الأعلم أيضاً ، فلا يجب عليه الاحتياط المطلق الموافق للواقع قطعاً ، بل يتخيّر بنيه وبين الأخذ بأحوط أقوالهم ، وهو ظاهر .
(الصفحة 181)[جواز تقليد المفضول فيما يعلم توافق فتواه مع فتوى الأفضل]
مسألة10: يجوز تقليد المفضول في المسائل التي توافق فتواه فتوى الأفضل فيها، بل فيما لا يعلم تخالفهما في الفتوى أيضاً 1.
1 ـ قد ذكرنا في مسألة تقليد الأعلم(1) أنّ تعيّن الأعلم للتقليد ووجوب الرجوع إليه إنّما هو فيما إذا علمت المخالفة بينه وبين غيره في الفتوى ، أو احتملت المخالفة . وأمّا مع العلم بالموافقة ، فلا مجال لتعيّنه للتقليد ; لعدم ترتّب ثمرة عمليّة عليه إلاّ على القول بلزوم الاستناد ووجوبه ، كما قد حكي عن بعض الأعاظم ، حيث ذكر أ نّ الحجج لا تكاد تتّصف بالحجّية بوجودها الخارجي ، وإنّما يكون اتّصافها بهذه الصفة فيما إذا استند المكلّف إليها في مقام العمل(2) ; فإنّه على هذا التقدير يلزم على المقلِّد في مقام العمل أن يكون عمله مستنداً إلى فتوى الأعلم ، التي هي الحجّة على ما هو المفروض ، ولا مجال للاستناد إلى غير الأعلم بعد عدم كونه حجّة ، فإذا استند إلى غير الأعلم وقلّده تصير فتوى الأعلم بلا استناد ،
فلا تكون حجّة ، وفتوى غيره لم تكن حجّة من الأوّل على ما هو المفروض من تعيّن تقليد الأعلم ، ولذا احتاط في العروة بعدم تقليد المفضول حتّى في المسألة التي توافق فتواه فتوى الأفضل(3) .
هذا ، ولكن هذا القول ـ وهو القول بلزوم الاستناد إلى الحجّة في مقام الامتثال ـ
- (1) في ص142 ـ 143 ، 158 ـ 160 و 166 .
-
(2) حكاه في التنقيحفي شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 114 عن اُستاذه .
-
(3) العروه الوثقى : 1 / 8 مسألة 18 .
(الصفحة 182)
لم يقم عليه دليل ، والاستناد لا دخالة له في الحجّية والأثر المترتّب عليها من التنجيز والتعذير ; ضرورة أنّ الملاك في التنجيز وبلوغ الحكم الواقعي إلى مرحلة استحقاق العقوبة على مخالفته ، وانقطاع حكم العقل بقبح العقاب من دون بيان ، والمؤاخذة بلا برهان إنّما هو وجود الحجّة واقعاً وكونها في معرض الوصول ، بحيث لو تفحّص عنها لظفر بها ، ولأجل ذلك اشتهر أنّ الاحتمال في الشبهات الحكميّة قبل الفحص لا يكون مجرى أصالة البراءة وشبهها ، وهكذا التعذير ; فإنّ ما يصحّ أن يحتجّ به المكلّف في مقام المخالفة للتكليف الواقعي إنّما هو وجود الحجّة
المعتبرة ونهوضها على خلافه ، بضميمة علم المكلّف به وعدم علمه بمخالفتها للواقع وإن لم يستند إليه في مقام العمل ، ولم تكن مخالفته مستندة إلى نهوضها وناشئة عن قيامها ، كما لا يخفى .
هذا ، مضافاً إلى أنّ ما أفاده بعض الأعاظم بظاهره مستلزم للدور ; لأنّ الاتّصاف بهذه الصفة ـ أي صفة الحجّية ـ في الحجج إذا كان متوقّفاً على استناد المكلّف إليها في مقام العمل ، والمفروض أنّ الاستناد أيضاً متوقّف على الحجيّة ; لأ نّه لا معنى للاستناد قبل تحقّق الاتّصاف وحصول وصف الحجّية ، فالاستناد متأخّر عن الحجّية ، فإذا كانت الحجّية متأخّرة عن الاستناد أيضاً يلزم الدور المحال لا محالة ، فتأمّل .
هذا كلّه بالإضافة إلى المسائل التي يعلم توافق الأفضل والمفضول فيها .
وأمّا فيما لا يعلم توافقهما في الفتوى فقد حكم سيّدنا العلاّمة الاُستاذ الماتن ـ دام ظلّه ـ بجواز الرجوع إلى المفضول فيها أيضاً ، ولكنّك عرفت في مسألة تقليد
(الصفحة 183)
الأعلم(1) أنّ الدليل القائم على تعيّن تقليد الأعلم في صورة العلم بالمخالفة بينه ، وبين
غيره في الفتوى ـ وهي السيرة العقلائيّة الجارية على الرجوع إليه الحاكمة بتعيّنه بضميمة عدم الردع من الشارع ، الكاشف عن الرضا والإمضاء ـ قائم على تعيّنه في صورة الشكّ في الموافقة والمخالفة أيضاً ، فالإنصاف أنّ هذه الصورة ملحقة بصورة العلم بالمخالفة ، لا بصورة العلم بالموافقة ، فتدبّر .
- (1) في ص160 ـ 161 ، 166 .