(الصفحة 182)
لم يقم عليه دليل ، والاستناد لا دخالة له في الحجّية والأثر المترتّب عليها من التنجيز والتعذير ; ضرورة أنّ الملاك في التنجيز وبلوغ الحكم الواقعي إلى مرحلة استحقاق العقوبة على مخالفته ، وانقطاع حكم العقل بقبح العقاب من دون بيان ، والمؤاخذة بلا برهان إنّما هو وجود الحجّة واقعاً وكونها في معرض الوصول ، بحيث لو تفحّص عنها لظفر بها ، ولأجل ذلك اشتهر أنّ الاحتمال في الشبهات الحكميّة قبل الفحص لا يكون مجرى أصالة البراءة وشبهها ، وهكذا التعذير ; فإنّ ما يصحّ أن يحتجّ به المكلّف في مقام المخالفة للتكليف الواقعي إنّما هو وجود الحجّة
المعتبرة ونهوضها على خلافه ، بضميمة علم المكلّف به وعدم علمه بمخالفتها للواقع وإن لم يستند إليه في مقام العمل ، ولم تكن مخالفته مستندة إلى نهوضها وناشئة عن قيامها ، كما لا يخفى .
هذا ، مضافاً إلى أنّ ما أفاده بعض الأعاظم بظاهره مستلزم للدور ; لأنّ الاتّصاف بهذه الصفة ـ أي صفة الحجّية ـ في الحجج إذا كان متوقّفاً على استناد المكلّف إليها في مقام العمل ، والمفروض أنّ الاستناد أيضاً متوقّف على الحجيّة ; لأ نّه لا معنى للاستناد قبل تحقّق الاتّصاف وحصول وصف الحجّية ، فالاستناد متأخّر عن الحجّية ، فإذا كانت الحجّية متأخّرة عن الاستناد أيضاً يلزم الدور المحال لا محالة ، فتأمّل .
هذا كلّه بالإضافة إلى المسائل التي يعلم توافق الأفضل والمفضول فيها .
وأمّا فيما لا يعلم توافقهما في الفتوى فقد حكم سيّدنا العلاّمة الاُستاذ الماتن ـ دام ظلّه ـ بجواز الرجوع إلى المفضول فيها أيضاً ، ولكنّك عرفت في مسألة تقليد
(الصفحة 183)
الأعلم(1) أنّ الدليل القائم على تعيّن تقليد الأعلم في صورة العلم بالمخالفة بينه ، وبين
غيره في الفتوى ـ وهي السيرة العقلائيّة الجارية على الرجوع إليه الحاكمة بتعيّنه بضميمة عدم الردع من الشارع ، الكاشف عن الرضا والإمضاء ـ قائم على تعيّنه في صورة الشكّ في الموافقة والمخالفة أيضاً ، فالإنصاف أنّ هذه الصورة ملحقة بصورة العلم بالمخالفة ، لا بصورة العلم بالموافقة ، فتدبّر .
- (1) في ص160 ـ 161 ، 166 .
(الصفحة 184)[إذا لم يكن للأعلم فتوى في مسألة]
مسألة11: إذا لم يكن للأعلم فتوى في مسألة من المسائل يجوز الرجوع في تلك المسألة إلى غيره ; مع رعاية الأعلم فالأعلم على الأحوط 1
1 ـ والدليل على جواز الأخذ من غير الأعلم مع عدم ثبوت الفتوى له ، أنّ مبنى التقليد هو رجوع الجاهل إلى العالم كما مرّ مراراً(1) ، ومبنى تعيّن الرجوع إلى الأعلم أ نّه إذا قيس رأيه مع رأي غيره ، ولوحظت فتواه مع فتوى غيره ، يكون هو الحجّة ; لقيام ما مرّ من الدليل عليه(2) ، ومن الواضح أنّ تحقّق كلا الملاكين إنّما هو فيما إذا كان للأعلم رأي ونظر . وأمّا مع عدم الرأي ـ لِما يأتي من الجهة الموجبة للعدم ـ فلا وجه لأخذ الفتوى منه ; لعدم ثبوت الفتوى له أصلا ، كما أ نّه لا مانع
من الرجوع إلى غيره الذي يصدق عليه عنوان الفقيه وأهل الذكر وأشباههما ; لعدم الترجيح حينئذ بعد عدم ثبوت الفتوى وعدم تحقّق النظر .
ثمّ إنّ عدم ثبوت الفتوى للأعلم إن كان لأجل عدم وروده في المسألة ،
وعدم استنباط حكمها من جهة عدم كونها مورداً لابتلائه، أو احتياطه فيها على تقدير الابتلاء، فهذا لا ريب في جواز الرجوع إلى الغير فيه ; لكونه بالإضافة
إلى هذه المسألة لا يتّصف إلاّ بالجهل ، ولا يعدّ الرجوع إليه من رجوع الجاهل
إلى العالم أصلا .
كما أ نّه لو كان عدم ثبوت الفتوى لا لأجل عدم الورود فيها رأساً ، بل لأجل
- (1) في ص68 ـ 71 ، 92 ، 98 ، 103 .
-
(2) في ص138 ـ 166 .
(الصفحة 185)
احتياجها إلى مزيد تتبّع وتفحّص ، أو تحقيق وتأمّل ، كما ربما يتّفق بالإضافة إلى بعض المسائل ، فلا ريب أيضاً في جواز الرجوع فيه إلى الغير ما دام لم يتحقّق منه التتبّع أو التأمّل ; لعدم اتّصافه بكونه عالماً قبل ذلك .
وأمّا لو كان عدم الفتوى مستنداً إلى عدم تماميّة أدلّة الطرفين ، أو الأطراف في المسألة ، أو ثبوت التعارض والتكافؤ فيها ، بحيث لا محيص من الرجوع إلى الاحتياط بمقتضى حكم العقل ، كما إذا رأى تعارض الأدلّة وعدم ثبوت الترجيح بينها ، فيما إذا سافر إلى أربعة فراسخ غير قاصد للرجوع في يومه ، بحيث لا مجال عنده إلاّ للاحتياط على ما هو مقتضى حكم العقل في موارد العلم الإجمالي بثبوت التكليف ، وعدم دليل على جواز الأخذ بأحد الطرفين أو الأطراف ولو على سبيل التخيير ، فالظاهر عدم جواز الرجوع حينئذ إلى الغير الذي تكون فتواه تعيّن أحدهما ، أو أحدها ، أو التخيير .
وذلك لأنّ مستند رأي غير الأعلم حينئذ يكون باطلا بنظر الأعلم مخدوشاً عنده ، غير قابل للاستناد إليه والحكم على طبقه ، وهذا أمرٌ يكون للأعلم فيه النظر والرأي ، حيث إ نّه يرى ذلك ، فلا مجال حينئذ للحكم بجواز الرجوع إلى غيره .
وقد انقدح ممّا ذكرنا أنّ ما اشتهر من جواز الرجوع إلى غير الأعلم في الاحتياطات الوجوبيّة المطلقة للأعلم ليس بتمام على إطلاقه ، بل إنّما يجوز ذلك في خصوص ما إذا كان منشأ الاحتياط الوجوبي عنده عدم تماميّة الاستنباط عنده وعدم كماله لديه ، لا ما إذا كان المنشأ عدم تماميّة الأدلّة أيضاً .
اللهمّ إلاّ أن يقال بأنّ عدم تماميّة الدليل عند الأعلم لا يوجب بطلان الحكم وفتوى الغير عنده ; ضرورة أنّه مع ثبوت البطلان لا يبقى مجال للاحتياط ، بل يوجب عدم صلاحيّته للاستناد ، مع احتمال كون الحكم الواقعي مطابقاً لمدلوله ،
(الصفحة 186)
وعليه : فلا وجه لما ذكر من ثبوت الرأي للأعلم ; فإنّه لا رأي له أصلا ، بل يمضي على طبق الاحتمال ، ويجري على ما هو مقتضى حكم العقل من الاحتياط .
وبعبارة واضحة : ما يجري فيه التقليد إنّما هو النظر والرأي بالإضافة إلى الحكم الإلهي ، والمفروض عدم ثبوته بالنسبة إلى الأعلم ، وعدم صلاحيّة الدليل للاستناد لا يصيّره ذا فتوى وصاحب النظر والرأي فيما يجري فيه التقليد ; لِما ذكرنا من أنّ بطلان الاستناد لا يوجب بطلان الحكم والفتوى ، وإلاّ لا يبقى مجال للاحتياط ، وعليه : فيبقى ما اشتهر من جواز الرجوع إلى غير الأعلم في الاحتياطات المطلقة على إطلاقه ، ولا يتحقّق فرق بين الموارد أصلا .
ثمّ إنّه لا خفاء فيما إذا جاز الرجوع إلى الغير في وجوب رعاية الأعلم فالأعلم ; لعين الدليل القائم على تعيّن تقليد الأعلم ، كما هو ظاهر .