(الصفحة 186)
وعليه : فلا وجه لما ذكر من ثبوت الرأي للأعلم ; فإنّه لا رأي له أصلا ، بل يمضي على طبق الاحتمال ، ويجري على ما هو مقتضى حكم العقل من الاحتياط .
وبعبارة واضحة : ما يجري فيه التقليد إنّما هو النظر والرأي بالإضافة إلى الحكم الإلهي ، والمفروض عدم ثبوته بالنسبة إلى الأعلم ، وعدم صلاحيّة الدليل للاستناد لا يصيّره ذا فتوى وصاحب النظر والرأي فيما يجري فيه التقليد ; لِما ذكرنا من أنّ بطلان الاستناد لا يوجب بطلان الحكم والفتوى ، وإلاّ لا يبقى مجال للاحتياط ، وعليه : فيبقى ما اشتهر من جواز الرجوع إلى غير الأعلم في الاحتياطات المطلقة على إطلاقه ، ولا يتحقّق فرق بين الموارد أصلا .
ثمّ إنّه لا خفاء فيما إذا جاز الرجوع إلى الغير في وجوب رعاية الأعلم فالأعلم ; لعين الدليل القائم على تعيّن تقليد الأعلم ، كما هو ظاهر .
(الصفحة 187)[وجوب العدول إلى مجتهد آخر في موارد]
مسألة12: إذا قلّد من ليس له أهليّة الفتوى ، ثمّ التفت وجب عليه العدول. وكذا إذا قلّد غير الأعلم وجب العدول إلى الأعلم على الأحوط. وكذا إذا قلّد الأعلم ثمّ صار غيره أعلم منه على الأحوط في المسائل التي يعلم تفصيلا مخالفتهما فيها في الفرضين 1.
1ـ أمّا وجوب العدول في الفرض الأوّل ، فلانكشاف عدم الأهليّة للفتوى ، وعدم كون تقليده تقليداً صحيحاً وإن كان معذوراً لو استند في تقليده إلى طريق عقليّ أو شرعيّ، كالعلم أو قيام البيّنة، ولكنّه ليس بعدول واقعاً; لعدم صحّة تقليده بوجه.
وأمّا وجوب العدول إلى الأعلم بنحو الاحتياط اللزومي في الفرض الثاني ، فهو مبنيّ على عدم الجزم بلزوم تقليد الأعلم ، وكون تعيّنه من باب الاحتياط ، كما هو مختار الماتن ـ دام ظلّه ـ فيما تقدّم(1) ، ولكنّه يرد عليه ـ مضافاً إلى أنّ المختار تعيّن تقليد الأعلم بنحو الجزم والفتوى ، وعليه : فيتعيّن العدول ـ : أ نّك عرفت(2) أنّ لازم مختاره في مسألة تقليد الأعلم ، وفي مسألة العدول هو جواز العدول
لا وجوبه ; لأنّ كلتا المسألتين مبنيّتان عنده على أصالة التعيين العقليّة ، ولا مرجّح لأحديهما على الأُخرى ، فيتخيّر بينهما .
ومنه يظهر الكلام في الفرض الثالث ، ويختصّ هذا الفرض بجريان استصحاب حجّية فتوى المجتهد الأوّل ، وهو يمنع عن حكم العقل بأصالة التعيين . نعم ، لا مجال
- (1، 2) في ص 116 مسألة 4 و 138 مسألة 5 .
(الصفحة 188)
للاستصحاب على المختار من قيام الدليل على تعيّن تقليد الأعلم .
ثمّ إنّ تخصيص المسائل التي يجب العدول فيها احتياطاً ، بخصوص ما علم تفصيلا مخالفة المجتهدين فيه ، مبنيّ على مختاره ـ دام ظله ـ من اختصاص تعيّن الرجوع إلى الأعلم بصورة العلم بالمخالفة . وأمّا بناءً على المختار لا يبقى فرق بينها وبين صورة الشك فيها ، فيجب العدول في هذه الصورة أيضاً .
(الصفحة 189)[جواز تقليد الميّت ابتداءً وبقاءً وعدمه]
مسألة13: لا يجوز تقليد الميّت ابتداءً. نعم، يجوز البقاء على تقليده بعد تحقّقه بالعمل ببعض المسائل مطلقاً، ولو في المسائل التي لم يعمل بها على الظاهر، ويجوز الرجوع إلى الحيّ الأعلم ، والرجوع أحوط، ولا يجوز بعد ذلك الرجوع إلى فتوى الميّت ثانياً على الأحوط، ولا إلى حيّ آخر كذلك إلاّ إلى
أعلم منه; فإنّه يجب على الأحوط، ويعتبر أن يكون البقاء بتقليد الحيّ، فلو بقي على تقليد الميّت من دون الرجوع إلى الحيّ الذي يفتي بجواز ذلك كان كمن عمل من غير تقليد 1.
1 ـ قد وقع الاختلاف بينهم في جواز تقليد الميّت وعدمه ، وبعبارة اُخرى : في اشتراط الحياة في المفتي ، ومن يرجع إليه ويستند على آرائه ونظراته في مقام العمل ، والأقوال بينهم بحسب بادئ النظر خمسة :
الأوّل : ما هو المعروف بين أصحابنا الإماميّة من اشتراط الحياة في المفتي مطلقاً ، وعدم جواز تقليد الميّت ابتداءً ولا استدامة(1) .
الثاني : ما هو خيرة الأخباريّين من أصحابنا من عدم الاشتراط مطلقاً ، وأنّه يجوز تقليد الميّت كذلك(2) ، كما هو المنسوب إلى العامّة ، بل المجمع عليه بينهم ، حيث إنّهم يقلّدون أشخاصاً معيّنين من أموات علمائهم (3)، وحكي عن المحقّق القمّي(قدس سره)
الموافقة للأخباريّين في موضعين من جامع الشتات ، حيث إنّه سئل في أحدهما عن
- (1) الفصول الغرويّة : 419 ، مطارح الأنظار : 2 / 560 و 620 ، مفاتيح الاُصول : 618 .
-
(2) الفوائد المدنيّة : 149، مفاتيح الشرائع: 2 / 52 ، وقد حكي عنهما في مطارح الأنظار : 2 / 563 .
-
(3) المستصفى من علم الاُصول : 2 / 407، البحر المحيط: 8 / 384 .
(الصفحة 190)
جواز الرجوع إلى فتوى ابن أبي عقيل ، فأجاب بما حاصله : أ نّ الأقوى عندنا جواز تقليد الميّت بحسب الابتداء ، فلا مانع من الرجوع إليه . وقال في ثانيهما : إنّ
الأحواط الرجوع إلى الحيّ(1) .
والظاهر أنّ الاحتياط في هذا الكلام هو الاحتياط المستحب دون الواجب .
الثالث : التفصيل بين البدوي والاستمراري ، كما اختاره الماتن ـ دام ظلّه ـ وكثير من متأخّري المتأخِّرين(2) ، وحكاه شارح الوافية عن بعض معاصريه(3) .
الرابع : التفصيل بين وجود المجتهد الحيّ ، فلا يجوز تقليد الميّت مطلقاً ، وبين عدمه فيجوز ، حكاه فخر المحقّقين عن والده العلاّمة(قدس سرهما)(4) ، وحكي عن الأردبيلي(5) وبعض آخر(6) أيضاً .
الخامس : ما ذهب إليه الفاضل التوني ـ على ما حكي عنه ـ من الجواز فيما إذا كان المفتي ممّن علم من حاله ، أ نّه لا يفتي إلاّ بمنطوقات الأدلّة ، كالصدوقين ومن شابههما من القدماء ، وعدم الجواز فيما إذا كان ممّن يعمل بالأفراد الخفيّة للعمومات، واللوازم غير الجليّة للملزومات ، وفي هذه الصورة لا يجوز تقليده ولو كان حيّاً(7) .
والظاهر أنّ هذا ليس تفصيلا في المسألة وما هو محلّ النزاع ; فإنّ مورد البحث
- (1) راجع جامع الشتات : 4 / 469 و477 .
-
(2) الفصول الغرويّة : 422 ، مفاتيح الاُصول : 624 ، نهاية الأفكار : 4 ، القسم الثاني : 258 ـ 260 .
-
(3) حكى عنه في مطارح الأنظار 2: 620 .
-
(4) إرشاد المسترشدين وهداية الطالبين في اُصول الفقه (مخطوط) ورقة 183 على ما في هامش حاشية الشرائع للمحقّق الكركي ، المطبوع ضمن حياته وآثاره : 11/115 .
-
(5) مجمع الفائدة والبرهان : 7 / 547.
-
(6) منية المريد : 167 ، باختصار ، معالم الدين : 248 .
-
(7) الوافية : 307 .