(الصفحة 21)
فإذا كان هناك من الأحياء من يكون صالحاً للرجوع إليه وتقليده لا مجال لتعيّن الاجتهادولزوم تحصيل الملكة عليه ، ومع عدمه ـ والفرض أ نّه لا يجوز تقليد الميّت ابتداءً ; لقيام الإجماع(1) عليه كما سيجيء البحث والتكلّم فيه(2) إن شاء الله تعالى ـ يتعيّن عليه الاجتهاد إذا لم يتمكّن من الاحتياط وإحراز الواقع من هذا الطريق ، كما أ نّه مع عدم التمكّن من الاحتياط يتخيّر بين الاجتهاد والتقليد ; لعدم ثبوت حكم العقل بلزوم التعلّم ، بل غرضه التعرّض لامتثال التكاليف المعلومة بالإجمال ورعاية موافقتها ; سواء كان المكلّف عالماً بها تفصيلا أو جاهلا مراجعاً إلى العالم .
فانقدح من ذلك أنّ تعيّن الاجتهاد ولزومه عقلا إنّما هو فيما إذا انسدّ عليه باب التقليد والاحتياط ، ومن الواضح أنّ اللزوم في هذا المورد ليس لزوماً نفسياً ، بل طريقي مرجعه إلى تنجّز التكاليف المعلومة واستحقاق العقوبة على مخالفتها ، هذا ما هو مقتضى حكم العقل .
وأمّا اللزوم الشرعي ، فيدلّ على أصله ما دلّ على وجوب التعلّم من الأخبار التي سيجيء نقلها والتكلّم فيها إن شاء الله تعالى ، وعلى كونه طريقياً لا نفسيّاً ولا مقدميّاً التأمّل في تلك الأخبار واستظهار الطريقية منها ، وعلى عدم كونه عينياً وضوح استلزام تعيّن الاجتهاد وتحصيل ملكة الاستنباط على كلّ مكلّف للعسر والحرجواختلال النظام ، سيّما في هذه الأعصار التي كثرت مقدّمات الاجتهاد ، وكذا الموانع عن تحقّقها،مضافاًإلى أدلّة التقليد الدالّة على جواز رجوع العامّي إلى المجتهد ،
- (1) جامع المقاصد: 3/491 ، شرح الألفية، المطبوع ضمن حياة المحقّق الكركي وآثاره: 7 / 253 ، مسالك الأفهام: 3 / 109; رسائل الشهيد الثاني: 1 / 44; مستمسك العروة الوثقى: 1 / 22 ، وانظر رسالة في الاجتهاد والتقليد للشيخ الأنصاري، ضمن مجموعة رسائل: 58 ، ومطارح الأنظار: 2 / 559 ـ 560 .
-
(2) في ص194 ـ 211 .
(الصفحة 22)
والمستلزمة لعدموجوب تحصيل الملكة على كلّ أحد . هذا بالإضافة إلى عمل نفسه .
وأمّا بالإضافة إلى رجوع غير العامّي إليه ، فاللزوم العقلي منتف قطعاً ; لعدم حكمه بذلك أصلا بعد ما كان الملاك في حكمه هو تخلّص المكلّف بنفسه من تبعة مخالفة تكاليف المولى ، وليس هنا ملاك آخر مقتض للزوم العقلي .
وأمّا اللزوم الشرعي ، فقد يقال بثبوته على وجه النفسي الكفائي التعييني ، نظراً إلى لزوم حفظ الدين وإبقائه والتحرّز عن اضمحلاله واندراسه ; ضرورة أنّ وجوب ذلك غير قابل للإنكار ، ومن المعلوم ـ بعد عدم جواز تقليد الميّت ابتداءً ، وعدم جواز رجوع العامي إلى الأموات ـ أ نّ الاجتهاد وتحصيل ملكة الاستنباط لأجل الوصول إلى القوانين الدينيّة والأحكام الشرعيّة من الطرق الموجبة لبقاء الدين والتحفّظ عن اضمحلاله وانهدامه ، بداهة أ نّه مع عدم وجود من يرجع إليه العامي ـ والمفروض عدم جواز الرجوع إلى الأموات ـ ينسدّ باب الاطّلاع على الأحكام الشرعية وتطبيق العمل عليها ، فاللازم لأجل هذا الغرض المهمّ أن يتصدّى بعض من المكلّفين للوصول إلى هذا المقام والبلوغ إلى هذه المرتبة(1) .
ومقتضى ماذكر عدم كفاية مجرّدالوصولوتحصيل الملكة، بل اللازم بعده استنباط الفعلي واستخراج الأحكام من مداركها وتبليغها إلى المكلّفين ليعملوا على طبقها .
هذا، ولكنّ الدليل المذكورلايجدي لإثبات الوجوب النفسي; لأنّ الواجب النفسي حينئذ هوالتحفّظ على الدينوإبقائه، والاجتهادمقدّمة له ، فلا مجال لدعوى النفسية من هذا الطريق بوجه. نعم ، لو استند في ذلك إلى آية النفر المعروفة لكان لذلك وجه.
ويؤيّده ما ورد في تفسيرها من بعض الروايات ، كرواية عبد المؤمن الأنصاري قال : قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : إنّ قوماً يروون أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال : اختلاف أُمّتي
- (1) دروس في فقه الشيعة: 1 / 26 ـ 29.
(الصفحة 23)
رحمة ، فقال : صدقوا ، فقلت : إن كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب؟ قال : ليس حيث تذهب وذهبوا ، إنّما أراد قول الله ـ عزّ وجلّ ـ : {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَة مِّنْهُمْ طَـآلـِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ وَ لِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ }(1) ، فأمرهم أن ينفروا إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) فيتعلّموا ثمّ يرجعوا إلى قومهم فيعلّموهم ، إنّما أراد اختلافهم من البلدان لا اختلافاً في دين الله ، إنّما الدين واحد ، إنّما الدين واحد(2) .
ويؤيدّه أيضاً قول الرضا(عليه السلام) في حديث ـ على ما رواه الصدوق بإسناده عن الفضل بن شاذان ـ : إنّما اُمروا بالحجّ لعلّة الوفادة إلى الله ـ عزّ وجلّ ـ وطلب الزيادة ، والخروج من كلّ ما اقترف العبد ـ إلى أن قال :ـ مع ما فيه من التفقّه ونقل أخبار الأئمّة(عليهم السلام) إلى كلّ صقع وناحية ، كما قال الله ـ عزّوجلّ ـ : {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَة مِّنْهُمْ طَـآلـِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ}(3) .
وبهاتين الروايتين يدفع التوهّم الذي يمكن أن يتخيّل من عدم دلالة الآية الكريمة على شمول الحكم لكلّ عصر وزمان ، كما هو غير خفيّ .
فانقدح من جميع ما ذكرنا أنّ المكلّف لا يجب عليه تحصيل ملكة الاجتهاد مع وجود المجتهد ; لقيام السيرة وعدم ثبوت الردع ، فهو مخيّر بين التقليد والرجوع إلى الخبرة ، وبين تحصيل ملكة الاجتهاد وصيرورته خبيراً ، ولا مزيّة لأحد الأمرين ولا مرجّح في البين .
- (1) سورة التوبة : 9 / 122.
-
(2) معاني الأخبار : 157 ح1 ، علل الشرائع : 85 ح4 ، وعنهما وسائل الشيعة : 27/140 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب11 ح10 .
-
(3) عيون أخبار الرضا(عليه السلام) : 2 / 119 ، علل الشرائع : 273 ح9 ، وعنهما وسائل الشيعة : 27 / 96 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب8 ح65 .
(الصفحة 24)في جواز التقليد للمجتهد وعدمه
هل يجوز للمجتهد الواجد لملكة الاستنباط أن يرجع إلى مجتهد آخر فيما لم يجتهد فيه ولم يستنبط حكمه من الأدلّة فعلا أم لا؟ تفصيل القول فيه : أ نّه تارة : يلاحظ ذلك بالنظر إلى حكم العقل ، وأُخرى : بالنظر إلى السيرة التي هي العمدة في باب التقليد ، وثالثة : بالنظر إلى الأدلّة السمعية والآيات والروايات الواردة في هذا الباب .
أمّا بالنظر إلى حكم العقل ، فالظاهر أ نّه لا يحكم بالجواز ، حيث لا يحصل له اليقين بفراغ الذمّة مع الاستناد إلى فتوى الغير فيما إذا تمكّن من الاستناد إلى
الحجّة واستنباط الحكم من الأدلّة ، ومع الشك في حصول البراءة يلزمه العقل بالاستنباط الفعلي والاستناد إلى الحجّة ، خصوصاً مع ملاحظة أ نّه لم ينقل القول بالجواز عن أحد من علمائنا الإماميّة ـ رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ـ كما عن
الشيخ(قدس سره) في «رسالة الاجتهاد والتقليد»(1) . نعم ، قد نسب الجواز إلى السيّد
صاحب المناهل(قدس سره) (2) .
ولعلّ دعوى الجواز مستندة إلى أ نّه كما كان المكلّف مخيّراً عقلا في ابتداء الأمر بين تحصيل ملكة الاجتهاد ، وبين الرجوع إلى العالم الخبير ، ولم يكن تقدّم لأحد الأمرين على الآخر ، كذلك هذا التخيير العقلي ثابت بحاله مع تحصيل الملكة وعدم
- (1) رسالة في الاجتهاد والتقليد للشيخ الأنصاري ، ضمن مجموعة رسائل: 53 .
-
(2) المناهل : 699، كتاب القضاء ، المنهل 8 .
(الصفحة 25) تحقّق الاستنباط الفعلي ; لأ نّه بمجرّد حصول القدرة وتحقّق الملكة لا يصدق عليه عنوان العالم الخبير، فلامانع من الرجوع إلى الغير الذي تصدّى للاستنباط واستخرج الحكم من المدارك ; فإنّه أيضاً من رجوع الجاهل إلى العالم ، فلا فرق بين الصورتين.
وأمّا بالنظر إلى السيرة ، فمن الواضح عدم ثبوت السيرة على رجوع من له الملكة إلى المستنبط الفعلي ; سواء كان المراد بالسيرة هي السيرة المتشرّعة الثابتة في باب التقليد ، أم كان المراد بها هي السيرة العقلائية الثابتة في جميع موارد رجوع الجاهل في كلّ فنّ وصنعة إلى العالم به والمطّلع عليها .
أمّا على الأوّل : فواضح; لعدم ثبوت سيرة المتشرّعة في باب التقليد على رجوع الواجد للملكة إلى المستنبط الفعلي ، ولا أقلّ من الشك في الثبوت وعدمه ، وهو يكفي في عدم الجواز .
وأمّا على الثاني : الذي هو العمدة في باب التقليد ; لأ نّه من مصاديق رجوع الجاهل إلى العالم ، والمتشرّعة قد استقرّت سيرتهم على ذلك بما هم عقلاء ، وكون الجهل بالحكم الشرعي أحد مصاديق الجهل . فمن الواضح كما يظهر بمراجعة العقلاء عدم ثبوت سيرتهم على الرجوع في مثل المقام ، فهل يرجع الطبيب غير العارف بالدواء مع التمكّن من العلم به لو صرف ساعة من الزمان أو ساعتين مثلا إلى غيره العارف؟! وهل يكون على ـ تقدير الرجوع ـ معذوراً عند العقلاء لو كان تشخيص الغير الذي رجع إليه مخالفاً للواقع ؟ ولا أقلّ من الشك في ثبوت السيرة العقلائية في مثل المقام ، وهو يكفي في عدم الجواز كما عرفت .
وأمّا الأدلّة السمعيّة ، فالمحكي عن الشيخ الأعظم الأنصاري(قدس سره) في رسالة