(الصفحة 210)
كانت بنحو القضيّة الخارجيّة ; بمعنى أنّ كلّ مكلّف كان موجوداً جاز له الرجوع إليه ، فهو لا يفيد بالنسبة إلى الموجودين بعد حياته في الأعصار المتأخّرة ، وإن كانت بنحو القضيّة الحقيقيّة ; بمعنى أنّ كلّ من وجد في الخارج ، وكان مكلّفاً في كلّ زمان كان فتواه حجّة بالإضافة إليه ، فإن أُريد إجراء الاستصحاب التنجيزي فلا وجه له ; لعدم إدراك المتأخّرين زمان حياته ، فلا يقين بالنسبة إليهم ، وإن أُريد الاستصحاب التعليقي فجريانه بهذا النحو ممنوع .
وبعبارة أُخرى : أنّ المراد بالحجّية المستصحبة إن كان هي الحجّية الفعليّة فلا يقين بحدوثها ; لأنّ الفعليّة إنّما تتحقّق بوجود المكلّف العامّي في عصر المجتهد ، والمفروض عدم تحقّقه ، وإن كان هي الحجّية الإنشائيّة ، فهي وإن كانت متيقّنة على الفرض ، إلاّ أنّها ليست بمورد للاستصحاب ; للشكّ في سعة دائرة الحجّية المنشأة وضيقها ، وعدم العلم بأنّها هي الحجّية على خصوص من أدرك المجتهد وهو حيّ ، أو أنّها تعمّ من لم يدركه كذلك ، فلا علم لنا بثبوت الحجّية الإنشائيّة بعد الممات ليمكن استصحابها (1).
ويمكن الجواب عنه بأنّ جعل الأحكام على نحو القضيّة الحقيقيّة ليس مرجعه إلى أنّ لكلّ فرد من أفراد عنوان الموضوع إذا وجد يكون حكماً مجعولا برأسه ، بحيث يكون هناك التكثّر في الجعل حسب تكثّر المصاديق وأفراد الموضوع ، بل لايكون في القضيّة الحقيقيّة إلاّ جعل واحد متعلّق بعنوان واحد ، لكن هذا الجعل الواحد يكون حجّة بحكم العقل ، وعند العقلاء لكلّ من يكون مصداقاً للعنوان ، ومنطبقاً عليه الموضوع ، فقوله تعالى : {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ
- (1) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد والتقليد: 103 ; تهذيب الاُصول: 3 / 193 .
(الصفحة 211)
إِلَيْهِ سَبِيلاً}(1) لايتضمّن إلاّ جعلا واحداً متعلّقاً بعنوان واحد ;وهو «مَن استطاع» ، ولكن هذا الجعل ـ مع وحدته وعدم تكثّره ـ حجّة على كلّ متّصف بهذه الصفة .
فحينئذ لو علمنا بوجوب الحجّ بهذا النحو ، ثمّ شككنا في بقائه من جهة طروّ النسخ ، أو جهة اُخرى موجبة للشكّ في بقاء الحكم ، كما إذا احتملنا في وجوب صلاة الجمعة مثلا ، أن يكون مشروطاً بحضور الإمام(عليه السلام) ، بحيث يرتفع الوجوب بانعدام هذا الشرط وارتفاعه ، فأيّ مانع من جريان الاستصحاب ؟ وفي المقام أيضاً كذلك ، وقد حقّقنا في محلّه أنّ جريان الاستصحابات الحكميّة ممّا لا مانع منه أصلا (2).
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا في هذا المقام ـ أي المقام الأوّل ـ بطلان جميع الوجوه التي استند إليها للقول بجواز التقليد الابتدائي للميّت ، فلا محيص عن الالتزام باشتراط قيد الحياة في التقليد كذلك .
المقام الثاني : في جواز البقاء على تقليد الميّت وعدمه ، وبعبارة اُخرى : في اشتراط الحياة في المفتي بقاءً وعدمه ، والكلام فيه يقع في صورتين ; لأ نّه إمّا أن لاتعلم المخالفة بينه وبين الحيّ ـ الذي كان يجب الرجوع إليه على فرض عدم جواز البقاء على تقليد الميّت ـ في الفتوى والرأي ، وإمّا أن تعلم المخالفة بينهما فيها .
أمّا الصورة الاُولى : فقد استدلّ فيها على جواز البقاء بوجوه :
منها : الاستصحاب (3)، وتقريبه أنّه تارة : يستصحب الحكم الوضعي ; وهي الحجّية الثابتة لفتوى المجتهد الميّت قبل موته . واُخرى : يستصحب الحكم التكليفي ،
- (1) سورة آل عمران : 3 / 97 .
-
(2) سيرى كامل در اصول فقه: 14 / 38 وما بعدها و ص 326 وما بعدها .
-
(3) مفاتيح الاُصول: 624، الفصول الغرويّة : 423 .
(الصفحة 212)
وعلى هذا التقدير تارة: يستصحب الحكم الواقعيّ الثابت لصلاة الجمعة مثلا ، الذي تكون فتوى المجتهد الميّت طريقاً إليه ، وكاشفة عن ثبوته وتحقّقه . واُخرى:يستصحب الحكم الظاهري بناءً على كون الحجّية المجعولة للأمارة مستلزمة لإنشاء أحكام ظاهريّة على طبق مؤدّاها مطلقاً ; سواء كانت موافقة للواقع
أو مخالفة له ، كما نسب إلى المشهور (1).
أقول : أمّا استصحاب الحجّية فلا يرد عليه شيء من الإيرادات المذكورة في الاستصحاب المتقدّم في المقام الأوّل عدا كون الموضوع هو الرأي والنظر ، وهو
لا يكون باقياً بعد الموت بحسب نظر العرف والعقلاء ، حيث يرون الموت موجباً لانعدام الشخص بجميع شؤونه وآثاره ; وذلك لأنّ الحجّية الفعليّة تكون مجرى الاستصحاب في هذا المقام ; لأنّ المفروض وجود المكلّف في عصر المجتهد الميّت ، وثبوت الحجّية لفتواه بالإضافة إليه ، فلا مانع من استصحابها إلاّ على تقدير عدم جريان الاستصحابات الحكميّة ، أو دعوى عدم كون الحجّية مجعولا شرعيّاً ولا موضوعاً لأثر شرعيّ ، وكلاهما خلاف التحقيق .
وأمّا استصحاب الحكم الواقعي ، فيرد عليه : اختلال كلا ركني الاستصحاب ; لعدم اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء . أمّا اليقين بالحدوث ; فلعدم ثبوت اليقين الوجدانيّ ، واليقين التعبّدي ـ الذي هو نتيجة حجّية فتوى الميّت ، وكونها كاشفة عنه وطريقاً إليه أيضاً ـ غير ثابت بعد الموت ; لأنّ المفروض الشكّ في الحجّية بعد الموت ، فلا يقين بالحدوث في حال الشكّ في البقاء .
وتنظير المقام بموارد ثبوت العلم التعبّدي في الأحكام أو الموضوعات
- (1) لاحظ كفاية الاُصول: 547 .
(الصفحة 213)
الخارجيّة ـ كما إذا دلّت الرواية المعتبرة على حكم وشكّ في بقائه من جهة ; كبقاء وجوب صلاة الجمعة بعد ارتفاع الحضور ، أو قامت البيّنة على نجاسة شيء ، ثمّ شكّ في بقائها وزوالها بالتطهير ، حيث يجري الاستصحاب في هذه الموارد ـ في غير محلّه ; فإنّه في تلك الموارد يكون اليقين التعبّدي في حال الشكّ في البقاء محفوظاً ; لعدم الشكّ في بقاء حجّية الرواية واعتبار البيّنة ، وهذا بخلاف المقام .
نعم ، لـو فرض الشكّ في بقاء الحجّية بالإضافة إليهما لا مجال حينئذ لاستصحاب الحكم الذي هو مفادهما ، بل اللازم الرجوع إلى استصحاب الحجّية كما في المقام .
وأمّا الشكّ في البقاء ، فانتفاؤه ظاهر ; لأنّ الحكم الواقعي ـ على تقدير حدوثه وثبوته ـ يكون باقياً قطعاً ; لأ نّه لم يحدث شيء يشكّ معه في البقاء على ما هو المفروض ، فاستصحاب الحكم الواقعي ممّا لا مجال له أصلا .
وأمّا استصحاب الحكم الظاهري ، فيرد عليه ـ مضافاً إلى أنّ استتباع الحجّية المجعولة للأحكام الظاهريّة على طبق مؤدّى الحجّة ومفادها ممنوع ، بل لا يترتّب على جعل الحجّية إلاّ آثارها من المنجّزيّة والمعذّريّة بالإضافة إلى الأحكام الواقعيّة ; لعدم الفرق بين حجّية القطع ، وحجّية الظنون المعتبرة فيما يرجع إلى معنى الحجّية وآثارها أصلا ـ : ما أورده عليه المحقّق الخراساني(قدس سره) في «الكفاية» من أ نّه من المحتمل ، بل المقطوع أنّ الأحكام التقليديّة عند أهل العرف لا تكون أحكاماً لموضوعاتها بقول مطلق ، بحيث عدّ من ارتفاع الحكم عندهم من موضوعه بسبب تبدلّ الرأي ونحوه ، بل إنّما تكون أحكاماً لها بحسب رأيه ، بحيث عدّ من انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه عند التبدّل ، ومجرّد احتمال ذلك يكفي في عدم صحّة
(الصفحة 214)
استصحابها ; لاعتبار إحراز بقاء الموضوع ولو عرفاً(1) .
وهذا الإيراد يمكن وروده على استصحاب الحكم الواقعي أيضاً ; فإنّ العرف يرى الحكم الواقعي منجّزاً ما دام الرأي باقياً ، فإذا زال بالموت ، أو بالتبدّل ،
أو بغيرهما لا يكون منجّزاً عندهم بوجه .
ومنها : إطلاق الأدلّة اللفظيّة الدالّة على التقليد من الآيات والروايات الواردة فيه عموماً أو خصوصاً(2) ; فإنّ مقتضى إطلاقها أ نّه لا فرق في حجّية الإنذار ووجوب الحذر عقيبه ، واعتبار قول أهل الذكر ، وجواز تقليد من كان واجداً للأوصاف المتعدّدة ، وترتيب الأثر على قول مثل زرارة ، ومحمّد بن مسلم ، وزكريّا ابن آدم ، ويونس بن عبدالرحمن(3) ، بين البقاء على الحياة بعد تحقّق الرجوع والتقليد والأخذ والتعلّم ، وبين عدم البقاء عليها . غاية الأمر اعتبار الحياة في الحدوث ; لظهور العناوين في الفعليّة كما عرفت(4) . وأمّا بحسب البقاء فلا دلالة فيها على الاعتبار ، بل مقتضى إطلاقها العدم ، كما هو ظاهر (5).
ومنها : ـ وهو العمدة في المقام ـ السيرة العقلائيّة الجارية على رجوع الجاهل إلى العالم في كلّ فنّ وصنعة ، من دون فرق بين أن يكون العالم ـ الذي رجع إليه ـ باقياً على حياته عند العمل بقوله ، أم لم يكن كذلك ، ومن الواضح عدم تحقّق الردع عن هذه السيرة العمليّة العقلائيّة ، والإجماع الرادع عن السيرة في التقليد الابتدائي غير
- (1) كفاية الاُصول : 547 .
-
(2) سبق ذكرها في ص71 ـ 88 .
-
(3) وسائل الشيعة 27 : 138 ـ 148 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب11 ح4 ، 8 ، 9 ، 14 ـ 23 ، 25 ، 30 ، 33 ـ 35 .
-
(4) في ص197 ـ 202 .
-
(5) الفصول الغرويّة: 423، التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد والتقليد: 109 ـ 110 .