(الصفحة 219)
الميّت ولا الحيّ ، ومعه يتعيّن على المكلّف الاحتياط فيما إذا تمكّن منه ، ومع عدم التمكّن ; إمّا لدوران الأمر بين المحذورين ; وإمّا لعدم سعة الوقت للاحتياط ، كما إذا أفتى أحد المجتهدين بوجوب القصر في مورد ، وأفتى الآخر بوجوب التمام فيه ،
ولم يسع الوقت للجمع بين القصر والإتمام ، فالفتويان أيضاً ساقطتان عن الحجّية ، والوظيفة هو الامتثال الاحتمالي ; وهو العمل على طبق إحداهما مخيّراً ; لأنّ المكّلف إذا لم يتمكّن من الامتثال الجزمي والعلمي الإجمالي في مورد ، يتنزّل العقل
إلى الامتثال الاحتمالي ، كما لا يخفى .
أقول : هذا مبنيّ على عدم كون الحكم في المجتهدين المتساويين في الفضيلة ـ إذا كانا حيّين ـ هو التخيير من حيث التقليد ، أو على اختصاص الدليل على التخيير بما إذا كانا كذلك، فلا يشمل مثل المقام. وأمّا لو قلنا بأنّ الحكم هناك هو التخيير ، وعدم اختصاصه بتلك الصورة ، وشمول دليل التخيير من الإجماع أو السيرة
أو غيرهما لمثل المقام، فلا مجال للرجوع إلى الاحتياط والحكم بوجوب الامتثال العلمي الإجمالي أوّلا ، والتنزّل إلى الامتثال الاحتمالي ثانياً ، خصوصاً مع ملاحظة ما ادّعي من الإجماع على عدم وجوب الاحتياط على المكلّف العامّي، كما مرّ البحث عنه مفصّلا(1).
ثمّ إن عدم العلم بأعلميّة أحدهما يجتمع مع احتمالها في خصوص واحد منهما ، مع أنّك عرفت (2) أ نّه إذا كان واحد منهما على نحو التعيين محتمل الأعلميّة ، يكون مقتضى أصالة التعيين العقليّة الأخذ به .
- (1) في ص119 .
-
(2) في ص138 ـ 139 ، 158 ، 171 ـ 172 .
(الصفحة 220)
بقي في هذه المسألة ـ وهي المسألة الثالثة عشرة ـ فروع لابدّ من التعرّض لها :
أحدها : أ نّه يجوز الرجوع عن تقليد الميّت إلى الحيّ الأعلم ، وذكر في المتن أ نّ الرجوع أحوط ، وتخصيصه جواز الرجوع بما إذا كان المجتهد الحيّ أعلم ، إنّما هو مبنيّ على حكمه بعدم جواز العدول إلى المساوي احتياطاً ، كما أنّ احتياطه بالرجوع إلى الحيّ الأعلم مبنيّ على عدم تعيّن الأعلم للتقليد ، وأنّ لزوم تقليده إنّما هو من باب حكم العقل بالاحتياط في موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير في باب الحجّية .
وقد تقدّم (1) أ نّ مقتضى التحقيق جواز العدول إلى المساوي ، فيجوز
له الرجوع عن الميّت إلى الحيّ المساوي ، وتقدّم أيضاً تعيّن الأعلم للتقليد لقيام الدليل عليه(2) . وعليه : فيجب العدول إلى الحيّ الأعلم .
وقد مرّ منّا الإشكال على سيّدنا العلاّمة الاُستاذ ـ دام ظلّه(3) ـ بأ نّه إذا كان عدم جواز العدول مبتنياً على الاحتياط العقلي ، والحكم بلزوم تقليد الأعلم أيضاً مبتنياً عليه ، فعند دوران الأمر بينهما لا ترجيح لاختيار الأعلم ، ولا مجال للحكم بلزوم تقليده كذلك والعدول إليه ، بل مقتضى ما أفاده مجرّد الجواز ، وتخيير المكلّف بين العدول والرجوع وبين البقاء ، كما لا يخفى .
ثانيها : ما أفاده في المتن بقوله : «ولا يجوز بعد ذلك الرجوع إلى فتوى الميّت ثانياً على الأحوط» . والظاهر أنّ مراده ـ دام ظلّه ـ عدم جواز الرجوع إلى فتوى الميّت ثانياً بعد رجوعه إلى الحيّ الأعلم ، والوجه في عدم جواز الرجوع حينئذ واضح ;
- (1) في ص124 ـ 136 .
-
(2) في ص140 ـ 166 .
-
(3) في ص137، 159 ـ 160 .
(الصفحة 221)
لأ نّه من الرجوع عن الأعلم إلى غيره . وبعبارة اُخرى : بعدما كان الرجوع إليه واجباً ولو احتياطاً كيف يجوز العدول عنه إلى الميّت مع كونه مفضولا ؟ خصوصاً مع ملاحظة أ نّه لا يجوز العدول إلى المساوي أيضاً عند الماتن دام ظلّه ، ومقتضى ما ذكرنا أنّ عدم الجواز يكون بنحو الفتوى ، لا على سبيل الاحتياط اللزومي .
هذا ، وقد عنون في العروة هذا الفرع بقوله : إذا عدل عن الميّت إلى الحيّ لا يجوز له العدول إلى الميّت(1) .
وقد حمل بعض الأعلام في شرحها ـ على ما في تقريراته هذه العبارة على موردين ; لدعوى اختصاص صحّة العدول بهما ـ حيث قال : إنّ صحّة العدول إنّما تكون في موردين :
أحدهما : فيما إذا كان الحيّ أعلم من الميّت .
وثانيهما : فيما إذا كان الميّت أعلم إلاّ أنّ المكلّف نسي فتواه ، إذ معه لا مسوّغ للبقاء على تقليد الميّت ـ والمفروض أنّ عدوله إلى الحيّ صحيح ، ومع فرض صحّة العدول لا مجوّز بوجه للعدول عنه إلى تقليد الميّت(2) .
أقول : لا ينبغي الإشكال في عدم كون المراد بالعبارة هذين الموردين ، بل المراد هي الصورة التي يكون المقلّد مخيّراً في البقاء وعدمه ، وهو فيما إذا كانا متساويين في الفضيلة والعلم ; سواء علمت المخالفة بينهما في الفتوى أم لم تعلم . غاية الأمر أ نّه لابدّ من البحث والتكلّم حينئذ في الجواز وعدمه .
فنقول : الوجه في الجواز هو استصحاب التخيير الثابت قبل الرجوع عن الميّت ;
- (1) العروة الوثقى : 1 / 7 مسألة 10 .
-
(2) التنقيحفي شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 118 .
(الصفحة 222)
بمعنى أنّ المقلّد كان يجوز له اختيار فتوى المجتهد الحيّ الذي وقع الكلام في جواز العدول عنه، كماكان يجوزله اختيارفتوى المجتهد الميّت ، فهو كان مخيّراً بين الأمرين، وله الأخذ بكلّ واحدة من الفتويين، والآن كما كان بمقتضى دليل الاستصحاب.
والوجه في عدم الجواز ـ مضافاً إلى أصالة الاحتياط ; لكون المورد من قبيل الدوران بين التعيين والتخيير .
والإيراد عليه بأ نّه لا مجال لها ، إذ كما يحتمل وجوب البقاء على تقليد الميّت ، يحتمل وجوب العدول عنه ، فاحتمال التعيين موجود في كلّ من الطرفين ، كما يحتمل أيضاً التخيير ، وفي مثله يجب البناء على التخيير بعد قيام الإجماع على عدم وجوب الاحتياط على العامّي(1) حتّى أحوط القولين المتعيّن في نظر العقل لولا الإجماع المذكور .
مندفع بأ نّه لا منشأ لاحتمال وجوب العدول عن الميّت ، بعد ملاحظة كون المفروض صورة تساوي المجتهدين في الفضيلة ، وكون البقاء على تقليد الميّت جائزاً بمقتضى الاستصحاب ، أو غيره من الأدلّة ، فمع لحاظ هذين الأمرين لا مجال لاحتمال وجوب العدول وتعيّن المجتهد الحيّ ، فالمورد من قبيل الدوران بين التعيين والتخيير الذي يحكم العقل فيه بأصالة التعيين .
كما أنّ الإيراد عليه بأ نّه لو فرضنا تساوي الميّت والحيّ مع العلم بالمخالفة بينهما ، يكون مقتضى القاعدة سقوط فتوائيهما عن الاعتبار ; للمعارضة ، ولا يبقى معه الدوران بين التعيين والتخيير .
- (1) رسالة في الاجتهاد والتقليد للشيخ الانصاري، ضمن مجموعة رسائل: 48 ـ 49 ، مستمسك العروة الوثقى: 1 / 21 .
(الصفحة 223)
مندفع أيضاً ـ مضافاً إلى أنّ محلّ البحث أعمّ من صورة العلم بالمخالفة بينهما ; لما عرفت من أنّ مورد البحث صورة تساوي المجتهدين في الفضيلة ; سواء علمت المخالفة أم لم تعلم ـ : بأنّ هذا مبنيّ على ما هو المشهور ، ومقتضى التحقيق من ثبوت التخيير في مثل هذا المورد ، وعدم سقوط كلتا الفتويين عن الاعتبار ـ كما تقدّم البحث عنه ـ هو كون العدول عن الحيّ إلى الميّت تقليداً ابتدائيّاً للميّت ، وقد قام الإجماع على عدم الجواز والمنع عنه (1)، اللّهم إلاّ أن يمنع شموله لمثل المقام ، ممّا كان المكلّف مقلِّداً للميّت في برهة من الزمان .
ثمّ إنّه لا يختلف الحكم بعدم جواز العدول عن الحيّ إلى الميّت بالاختلاف في معنى التقليد ، وأنّه هو الالتزام وشبهه ، أو العمل استناداً إلى قول الغير ; لِما ذكرنا من أنّ مبنى عدم جواز العدول هو كونه تقليداً ابتدائيّاً للميّت ، فحمل الحكم بعدم الجواز على مبنى كون التقليد هو الالتزام ، ممّا لا وجه له أصلا .
نعم ، هذا الاختلاف إنّما يثمر في أصل موضوع العدول ، حيث إنّ العدول على تقدير كون التقليد بمعنى الالتزام ، يتحقّق برفع اليد عن الالتزام الأوّل ، والالتزام بالرجوع إلى آخر ثانياً . وأمّا على تقدير كونه بمعنى العمل فهو لا يتحقّق إلاّ بالعمل ، فإذا أفتى أحدهما بوجوب صلاة الجمعة مثلا ، والآخر بحرمتها ، فالعدول عن تقليد القائل بالحرمة إنّما يتحقّق بالإتيان بها استناداً إلى فتوى القائل بالوجوب ، فالاختلاف في معنى التقليد إنّما يثمر في موضوع العدول ، لا في حكمه من الجواز وعدمه ، فتدبّر جيّداً .
- (1) جامع المقاصد: 3 / 491 ، شرح الألفيّة ، والمطبوع مع حياة المحقّق الكركي وآثاره: 7 / 253 ; مسالك الأفهام: 3 / 109 ; رسائل الشهيد الثاني: 1 / 44 ; مستمسك العروة الوثقى: 1 / 22 .