(الصفحة 23)
رحمة ، فقال : صدقوا ، فقلت : إن كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب؟ قال : ليس حيث تذهب وذهبوا ، إنّما أراد قول الله ـ عزّ وجلّ ـ : {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَة مِّنْهُمْ طَـآلـِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ وَ لِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ }(1) ، فأمرهم أن ينفروا إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) فيتعلّموا ثمّ يرجعوا إلى قومهم فيعلّموهم ، إنّما أراد اختلافهم من البلدان لا اختلافاً في دين الله ، إنّما الدين واحد ، إنّما الدين واحد(2) .
ويؤيدّه أيضاً قول الرضا(عليه السلام) في حديث ـ على ما رواه الصدوق بإسناده عن الفضل بن شاذان ـ : إنّما اُمروا بالحجّ لعلّة الوفادة إلى الله ـ عزّ وجلّ ـ وطلب الزيادة ، والخروج من كلّ ما اقترف العبد ـ إلى أن قال :ـ مع ما فيه من التفقّه ونقل أخبار الأئمّة(عليهم السلام) إلى كلّ صقع وناحية ، كما قال الله ـ عزّوجلّ ـ : {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَة مِّنْهُمْ طَـآلـِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ}(3) .
وبهاتين الروايتين يدفع التوهّم الذي يمكن أن يتخيّل من عدم دلالة الآية الكريمة على شمول الحكم لكلّ عصر وزمان ، كما هو غير خفيّ .
فانقدح من جميع ما ذكرنا أنّ المكلّف لا يجب عليه تحصيل ملكة الاجتهاد مع وجود المجتهد ; لقيام السيرة وعدم ثبوت الردع ، فهو مخيّر بين التقليد والرجوع إلى الخبرة ، وبين تحصيل ملكة الاجتهاد وصيرورته خبيراً ، ولا مزيّة لأحد الأمرين ولا مرجّح في البين .
- (1) سورة التوبة : 9 / 122.
-
(2) معاني الأخبار : 157 ح1 ، علل الشرائع : 85 ح4 ، وعنهما وسائل الشيعة : 27/140 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب11 ح10 .
-
(3) عيون أخبار الرضا(عليه السلام) : 2 / 119 ، علل الشرائع : 273 ح9 ، وعنهما وسائل الشيعة : 27 / 96 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب8 ح65 .
(الصفحة 24)في جواز التقليد للمجتهد وعدمه
هل يجوز للمجتهد الواجد لملكة الاستنباط أن يرجع إلى مجتهد آخر فيما لم يجتهد فيه ولم يستنبط حكمه من الأدلّة فعلا أم لا؟ تفصيل القول فيه : أ نّه تارة : يلاحظ ذلك بالنظر إلى حكم العقل ، وأُخرى : بالنظر إلى السيرة التي هي العمدة في باب التقليد ، وثالثة : بالنظر إلى الأدلّة السمعية والآيات والروايات الواردة في هذا الباب .
أمّا بالنظر إلى حكم العقل ، فالظاهر أ نّه لا يحكم بالجواز ، حيث لا يحصل له اليقين بفراغ الذمّة مع الاستناد إلى فتوى الغير فيما إذا تمكّن من الاستناد إلى
الحجّة واستنباط الحكم من الأدلّة ، ومع الشك في حصول البراءة يلزمه العقل بالاستنباط الفعلي والاستناد إلى الحجّة ، خصوصاً مع ملاحظة أ نّه لم ينقل القول بالجواز عن أحد من علمائنا الإماميّة ـ رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ـ كما عن
الشيخ(قدس سره) في «رسالة الاجتهاد والتقليد»(1) . نعم ، قد نسب الجواز إلى السيّد
صاحب المناهل(قدس سره) (2) .
ولعلّ دعوى الجواز مستندة إلى أ نّه كما كان المكلّف مخيّراً عقلا في ابتداء الأمر بين تحصيل ملكة الاجتهاد ، وبين الرجوع إلى العالم الخبير ، ولم يكن تقدّم لأحد الأمرين على الآخر ، كذلك هذا التخيير العقلي ثابت بحاله مع تحصيل الملكة وعدم
- (1) رسالة في الاجتهاد والتقليد للشيخ الأنصاري ، ضمن مجموعة رسائل: 53 .
-
(2) المناهل : 699، كتاب القضاء ، المنهل 8 .
(الصفحة 25) تحقّق الاستنباط الفعلي ; لأ نّه بمجرّد حصول القدرة وتحقّق الملكة لا يصدق عليه عنوان العالم الخبير، فلامانع من الرجوع إلى الغير الذي تصدّى للاستنباط واستخرج الحكم من المدارك ; فإنّه أيضاً من رجوع الجاهل إلى العالم ، فلا فرق بين الصورتين.
وأمّا بالنظر إلى السيرة ، فمن الواضح عدم ثبوت السيرة على رجوع من له الملكة إلى المستنبط الفعلي ; سواء كان المراد بالسيرة هي السيرة المتشرّعة الثابتة في باب التقليد ، أم كان المراد بها هي السيرة العقلائية الثابتة في جميع موارد رجوع الجاهل في كلّ فنّ وصنعة إلى العالم به والمطّلع عليها .
أمّا على الأوّل : فواضح; لعدم ثبوت سيرة المتشرّعة في باب التقليد على رجوع الواجد للملكة إلى المستنبط الفعلي ، ولا أقلّ من الشك في الثبوت وعدمه ، وهو يكفي في عدم الجواز .
وأمّا على الثاني : الذي هو العمدة في باب التقليد ; لأ نّه من مصاديق رجوع الجاهل إلى العالم ، والمتشرّعة قد استقرّت سيرتهم على ذلك بما هم عقلاء ، وكون الجهل بالحكم الشرعي أحد مصاديق الجهل . فمن الواضح كما يظهر بمراجعة العقلاء عدم ثبوت سيرتهم على الرجوع في مثل المقام ، فهل يرجع الطبيب غير العارف بالدواء مع التمكّن من العلم به لو صرف ساعة من الزمان أو ساعتين مثلا إلى غيره العارف؟! وهل يكون على ـ تقدير الرجوع ـ معذوراً عند العقلاء لو كان تشخيص الغير الذي رجع إليه مخالفاً للواقع ؟ ولا أقلّ من الشك في ثبوت السيرة العقلائية في مثل المقام ، وهو يكفي في عدم الجواز كما عرفت .
وأمّا الأدلّة السمعيّة ، فالمحكي عن الشيخ الأعظم الأنصاري(قدس سره) في رسالة
(الصفحة 26)
الاجتهاد والتقليد دعوى انصرافها عمّن له ملكة الاجتهاد(1) ، بل المحقّق الإصفهاني(قدس سره) بعد حكمه في رسالة الاجتهاد والتقليد بأنّ الواجد لابدّ له من المراجعة إلى الأدلّة السمعية حتى يظهر له الجواز والعدم ولا يجديه استنباط الغير ، حكم بأ نّه لا معنى لإطلاق تلك الأدلّة بالنسبة إلى المتمكّن من الاستنباط ; لأنّ أدلّة الأحكام الشرعية شاملة لمثل هذا الشخص ، فالأحكام الواقعية منجّزة في حقّه من طريق الأمارات المعتبرة ; لتمكّنه من الاستفادة منها ، ومعه كيف يسعه الرجوع إلى غيره والعمل بفتياه ؟ وهذا بخلاف العامّي المحض العاجز عن الاستنباط ، فإنّ تلك الأدلّة لا تشمله لفرض عجزه عن فهم مداليلها(2) .
وأورد عليه بعض الأعلام في شرح العروة بأنّ تنجّز الأحكام الواقعيّة من طريق الأمارات لا ينافي حجّيّة فتوى المجتهد حتى بالإضافة إلى من له ملكة الاستنباط ، فيمكن أن يكون الاستناد إليها معذِّراً عن مخالفة الواقع إذا تحقّقت المخالفة ، وهذا نظير تنجّز الأحكام الواقعية على العامي بعلمه الإجمالي ، ومع ذلك فإنّ استناده إلى فتوى المجتهد يعذّره عن مخالفة الواقع(3) .
ثمّ إنّه لا فرق فيما ذكر بين المجتهد المطلق والمتجزّئ ; فإنّه لا يجوز له أيضاً فيما حصل له ملكة الاستنباط بالإضافة إليه الرجوع إلى الغير والعمل بفتياه ، كما هو غير خفيّ .
الجهة الرابعة : يستفاد من عبارة المتن أنّ الضروريّات كوجوب الصلاة والصوم ونحوهما خارجة عن دائرة الأُمور الثلاثة التي يتطرّق بها ويحكم العقل
- (1) رسالة في الاجتهاد والتقليد للشيخ الأنصاري ، ضمن مجموعة رسائل : 57 .
-
(2) بحوث في الاُصول ، الاجتهاد والتقليد : 19 ـ 20 .
-
(3) دروس في فقه الشيعة: 1/20.
(الصفحة 27)
باللزوم تخييراً بينها ، والوجه في ذلك أنّ الأحكام الضرورية معلومة للمكلّف ،
ومن المعلوم أ نّه مع حصول العلم للمكلّف بالواقع يكون هو بنفسه حجّة عليه، ولامجال للتعبّد بالأمارة بالإضافة إليه ; سواء كانت موافقة لعلمه أو مخالفة له ، وسواء كانت الأمارة فتوى الغير أو غيرها من الأمارات ; لأنّ الحكم الظاهري إنّما يختصّ جعله بخصوص الجاهل الذي لا علم له بالواقع ، فلا مجال له بالإضافة إلى العالم مطلقاً ، ولذا لو حصل للمكلّف العلم في غير الضروريّات أيضاً لا مجال له للتقليد أو الاجتهاد ، وإن كان مخالفاً لفتوى المجتهد الذي يقلّده في سائر المسائل .
وقد انقدح من ذلك أنّ الضروريّات لا معنى لجريان التقليد فيها ، فالتعبير بعدم الحاجة إلى التقليد فيها ـ كما في «العروة»(1) ـ المشعر بالجواز لا يخلو عن مسامحة ، كما أنّ التعميم لليقينيات أيضاً يشعر بل يدلّ على أ نّه يكون في الفقه أحكام خاصّة يقينيّة ، كما أ نّه يكون فيه أحكام مخصوصة ضرورية ، مع أ نّه ليس في الفقه أحكام معيّنة متّصفة بكونها يقينيّة .
والظاهر أنّ غرضه(قدس سره) أ نّه متى حصل للمكلّف يقين بحكم من الأحكام من أيّ طريق حصل لا مجال له للتقليد في خصوص ذلك الحكم اليقيني وإن لم يكن ضروريّاً ، فيرجع إلى ما ذكرنا .
- (1) العروة الوثقى : 1/6 مسألة 6 .