(الصفحة 231)
ويرد عليه ـ مضافاً إلى أنّ عدم شمول فتوى الحيّ بوجوب البقاء لفتوى الميّت بوجوب الرجوع ليس لأجل التناقض ، بل لأنّ المسألة الواحدة لا تحتمل تقليدين ولا تصلح للرجوع فيها إلى شخصين ، ولو لم يكن اختلاف في البين وكانت الفتويان مترتّبتين ; فإنّه بعد ما رجع فيها إلى فتوى الحيّ بمقتضى حكم العقل ، وأخذها وقلّد الحيّ فيها ، لا يبقى في هذه المسألة مجال للتقليد وموقع للأخذ بفتوى الغير أصلا ; لعدم الفرق بينها وبين سائر المسائل في عدم الاحتمال للتقليدين وعدم القابليّة للرجوع إلى شخصين،فوجه عدم الشمول ماذكرنالاماأفاده من التناقض ـ : أنّ ما أفاد أوّلا من وجوب البقاء على رأي الثاني غير تامّ ; لأ نّه لو كان الملاك فيه هو اتّصاف التقليد الثاني بالصحّة ووقوعه كذلك ، فمن الواضح أنّ التقليد الأوّل أيضاًيكون صحيحاً ومتّصفاً بوصف الصحّة ، ولا مرجّح للتقليد الثاني بعد اتّصاف كليهما بتلك الصفة لو لم نقل باختصاص الوصف بالتقليد الأوّل ، كما هو ظاهر .
ضرورة أ نّه بملاحظة فتوى الثالث بوجوب البقاء ، يستكشف بطلان التقليد الثاني ; لأنّ وظيفته كانت هو البقاء على التقليد الأوّل ، ولم يجز له الرجوع إلى الثاني . غاية الأمر أ نّه كان معذوراً في ذلك لأجل استناده إلى الحجّة ; وهي فتوى الثاني بحرمة البقاء ، ولكنّ المعذوريّة إنّما تدوم ما دام الثاني حيّاً ، فإذا مات وكانت فتوى الحيّ وجوب البقاء ، يستكشف أنّ وظيفته كانت من أوّل الأمر البقاء على التقليد الأوّل ، فبملاحظة فتواه يعلم عدم وقوعه صحيحاً ، فكيف يجب البقاء عليه .
ثانيها : ما اختاره المحقّق الاصفهاني(قدس سره) في رسالة الاجتهاد والتقليد ، وحاصله يرجع إلى وجوب البقاء على تقليد المجتهد الثاني في المسائل العمليّة ، نظراً إلى أ نّه لايلزم التناقض من شمول فتوى الحيّ بوجوب البقاء لفتوى الميّت بوجوب
(الصفحة 232)
الرجوع ; لأنّ رأي الثاني وإن تعلّق بحكم كلّي ـ وهو وجوب الرجوع ـ من دون اختصاصه بمن سبقه في الإفتاء ، لكنّه ليس كلّ ما هو مقتضى الأدلّة ومتعلّق الرأي يصحّ التقليد فيه .
ألا ترى : أنّ مقتضى الأدلّة وجوب التقليد ، مع أ نّه لا يمكن التقليد في أصل لزوم التقليد ; للزوم الدور والتسلسل ، وكذلك المقام ; فإنّه لا يعقل تقليد المفتي بوجوب الرجوع حتّى في الرجوع عن نفسه بعد موته ; فإنّ حجّية رأيه وفتواه بعد موته في هذه المسألة وغيرها على حدّ سواء . فلا يعقل الاستناد إلى رأيه ولو في هذه المسألة بنفس رأيه حدوثاً وبقاءً . وميزان التقليد في المسألة الكلّيّة صحّة العمل على طبقها في جميع أفرادها وإنْ لم يعمل إلاّ في بعضها .
ومن الواضح عدم صحّة العمل على طبقها كلّياً حتّى في الرجوع عنه بعد موته ، أو البقاء على رأيه بعد موته ، فلا محالة لا تعقل حجّية رأيه بوجوب الرجوع إلاّ بالإضافة إلى من سبقه في الإفتاء . ولا بأس حينئذ بشمول الفتوى بوجوب البقاء لهذه المسألة ; فإنّ معنى وجوب الرجوع عن غيره عدم جواز تطبيق العمل على رأي الغير ، والبقاء على هذا الرأي معناه موافقة الثالث للثاني في عدم جواز تطبيق العمل على فتوى الأوّل ورأيه .
ومنه يظهر أ نّه لا يعقل تساوي نسبة وجوب البقاء إلى كلا التقليدين ، بل يترجّح جانب الثاني قهراً ، مضافاً إلى أنّ وجوب البقاء ، إن كان لأجل استصحاب الأحكام المقلّد فيها فالترجيح للثاني ; لانقطاع الاستصحاب في الأوّل بالرجوع إلى الثاني ، وإن كان لاستصحاب حرمة العدول ، فهو أيضاً منقطع بجواز الرجوع
(الصفحة 233)
إلى الثاني(1) ، انتهى ملخّصاً .
ويرد عليه : ما عرفت من عدم احتمال مسألة البقاء على تقليد الميّت لتقليدين ولو كانا مترتّبين ، فمع الرجوع إلى فتوى الحيّ بوجوب البقاء ، لا يبقى مجال للرجوع فيها إلى الغير ; سواء كان هو الميّت أو الحيّ الآخر ، وسواء كان في طوله أو في عرضه ، ومع عدم الشمول لا أثر لما تكلّفه من إثبات اختصاص فتوى الميّت بوجوب الرجوع بخصوص من سبقه بالإفتاء ، حتّى يتحقّق التوافق بين الثاني والثالث على عدم حجّية فتوى المجتهد الأوّل ; ضرورة أنّ ثمرة سعة دائرة هذه الفتوى وضيقها إنّما هي على فرض الشمول ، وبدونه لا ينتج ما أفاده أصلا .
مضافاً إلى ما عرفت من أنّ فتوى الثالث بوجوب البقاء إنّما يكون موضوعها التقليد الصحيح ، وتقليد الثاني لا يكون صحيحاً عند الثالث ; لأ نّه كانت وظيفة المكلّف بحسب رأي الثالث ; هو البقاء على تقليد المجتهد الأوّل ولم يكن له الرجوع إلى الثاني . غاية الأمر أ نّه كان معذوراً في الرجوع إليه ما دام الثاني باقياً ، وبعد موته وفتوى الحيّ بوجوب البقاء يستكشف أ نّه لم يكن له الرجوع إلى الثاني .
ومن هنا ظهر أنّ ما أفاده من ترجيح جانب التقليد الثاني قهراً ممنوع ; لعدم تساويه مع الأوّل ، فضلا عن كونه راجحاً عليه ، كما أنّ التمسّك باستصحاب الأحكام المقلّد فيها لا يوجب ثبوت الرجحان للثاني ; لأنّ جريانه فرع ثبوتها بسبب التقليد الصحيح ، والمفروض ـ بمقتضى فتوى الثالث ـ عدم كون تقليد الثاني تقليداً صحيحاً ; لأ نّه كان يجب عليه البقاء على الأوّل .
ومنه يظهر النظر في اقتضاء استصحاب حرمة العدول ذلك ; لأنّ العدول المحرّم
- (1) بحوث في الاُصول ، الاجتهاد والتقليد : 29 ـ 31 .
(الصفحة 234)
إنّما هو العدول عن التقليد الصحيح ، لا عن كلّ تقليد وإن لم يكن متّصفاً بهذا الوصف .
ثالثها : ما اختاره في المستمسك من تعيّن البقاء على تقليد الأوّل ، حيث إنّه بعد بيان أ نّه إذا قلّد بكراً ـ وهو المجتهد الثالث ـ في مسألة البقاء ، يمتنع الرجوع إلى عمرو ـ وهو المجتهد الثاني ـ في هذه المسألة ; لأنّ المسألة الواحدة لا تحتمل تقليدين مترتّبين ; لأ نّه لو بني على جواز اجتماع المثلين في رتبتين ، فلا أقلّ من لزوم اللغويّة مع اتّفاقهما عملا ، أو التناقض مع اختلافهما .
ولا مجال لتوهّم أ نّه يكون هناك مسألتان لاختلاف موضوعيهما ; نظراً إلى أنّ فتوى الميّت حرمة البقاء على تقليد زيد ـ وهو المجتهد الأوّل ـ وفتوى الحيّ
وجوب البقاء على تقليد عمرو ، فلا مانع من الرجوع في كلّ واحدة إلى واحد ، وذلك لأنّ خصوصيّة عمرو ليست مقوّمة للقضيّة الشرعيّة التي يرجع فيها العامّي إلى بكر ; ضرورة أنّ فتواه وجوب البقاء بنحو الكلّيّة ، قال : ومن ذلك يظهر أيضاً أ نّه لو كان رأي بكر وجوب البقاء ، وجب البقاء على تقليد زيد وإن كان رأي
عمرو وجوب العدول(1) .
ويرد عليه : أنّ ما أفاده في وجه عدم شمول فتوى الحيّ بوجوب البقاء لفتوى الميّت بوجوب الرجوع وإن كان صحيحاً ، وكذا ما رتّب عليه من الثمرة من وجوب البقاء على تقليد زيد ، إلاّ أنّ ترتّب هذه الثمرة ممّا لم يعلم وجهه ، ولم يظهر من تلك المقدّمة أصلا ، والوجه فيها ما عرفت من عدم كون تقليد الثاني صحيحاً حتّى يجب
البقاء عليه ، وعلى تقدير التنزّل عن ذلك والاكتفاء بالصحّة ـ ولو مع انكشاف
- (1) مستمسك العروة الوثقى : 1 / 33 ـ 34 .
(الصفحة 235)
الخلاف ـ يجوز البقاء على تقليد كلّ من الأوّلين ، فتدبّر .
الصورة الثانية : ما إذا كان الثاني قائلا بوجوب العدول ، والثالث بجواز البقاء ، وفي هذه الصورة لا إشكال في جواز الرجوع في سائر المسائل العمليّة إلى المجتهد الثالث الحيّ ، والأخذ بفتاويه وتطبيق العمل عليها ; لأنّ المفروض تجويزه البقاء والعدول معاً ، وقول الثاني بوجوب العدول أيضاً يساعده . وأمّا إذا أراد البقاء مستنداً إلى فتوى الثالث بجوازه ، فهل يبقى على تقليد الأوّل أو الثاني ، أو يتخيّر بين الأمرين؟ وجوه واحتمالات .
والظاهر هو الوجه الثاني ; لأنّ رجوعه إلى الثاني والأخذ بفتاويه كان صحيحاً على طبق رأيه ورأي الثالث، فالعدول عنه إلى الأوّل ، وتطبيق العمل على فتاويه يكون عدولا، وقد مرّ أنّ هذا النحو من العدول غير جائز(1) ، سيّما إذا لم يكن الثاني والأوّل متساويين من حيث الفضيلة ، بل كان الأوّل مفضولا بالإضافة إليه ، فتأمّل جيّداً .