(الصفحة 251)
فيها لا تستند إلى قاعدة الحلّية بوجه .
ضرورة أنّ الحلّية في مثال الثوب مستندة إلى اليد التي هي أمارة على الملكيّة عند العقلاء وفي الشريعة ، وفي مثال العبد إلى الإقرار أو اليد أيضاً ، وفي مثال المرأة إلى استصحاب عدم تحقّق الرضاع ، وعدم اتّصافها بكونها رضيعة له ، وإلى استصحاب عدم الاُختيّة بناءً على جريانه ، وعلى فرض عدم الجريان ـ كما هو الحقّ ـ لا يكون هناك حلّية أصلا ، بل الثابت هي أصالة الفساد وعدم ترتّب الأثر على النكاح .
ومن الواضح استهجان إيراد قاعدة كلّية ، ثمّ ذكر أمثلة خارجة عن تلك القاعدة ، خصوصاً مع التصريح بالقاعدة ثانياً وتكرارها في الذيل كما في الرواية ، وخصوصاً مع كون الحكم في بعضها على خلاف القاعدة المذكورة (1).
والجواب : أنّ هذا الإشكال وإن كان ممّا لا سبيل إلى حلِّه ، إلاّ أ نّه لا يضرّ بالاستدلال بالرواية على ما هو المقصود في المقام من حجّية البيّنة ; فإنّ عدم انطباق القاعدة على الموارد المذكورة والأمثلة لا يستلزم خروج ذيل الرواية ـ الدالّ على اعتبار البيّنة ، وأنّ قيامها يوجب سقوط أصالة الحلّية ـ عن الاعتبار والحجّية ، فتأمّل .
ثانيها : أنّ كلمة «البيّنة» لم تثبت لها حقيقة شرعيّة ولا متشرعيّة ، وإنّما استعملت في الكتاب(2) والأخبار بمعناها اللغوي ; وهو ما به البيان والظهور . وبعبارة اُخرى : هي بمعنى الحجّة ، فلا مجال للاستدلال بالرواية على حجّية البيّنة
- (1) فرائد الاُصول : 2 / 120 و ج 3 / 351 ـ 353 .
-
(2) سورة الأنعام 6 : 57 و 157، سورة الأعراف : 7 / 73 ، 85 ، 105 ، سورة هود : 11 / 53 ، سورة العنكبوت 29 : 35، سورة البيّنة : 98 / 1 ، 4 ، وغيرها .
(الصفحة 252)
بالمعنى الاصطلاحي الذي هو محلّ البحث والكلام (1).
والجواب : أنّ ظهور «البيّنة» مع الإطلاق ، وعدم وجود قرينة على الخلاف في هذا المعنى الاصطلاحي ممّا لا ينبغي إنكاره ، ويدلّ عليه استعمالها فيه من الصدر الأوّل في مثل قوله (صلى الله عليه وآله) : «البيّنة على من ادّعى واليمين على من أنكر»(2) ، وقوله(صلى الله عليه وآله) : إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان(3) ، وغيرهما من الموارد الكثيرة ،
ولم يعلم استعمالها في الكتاب وغيره في غير هذا المعنى الاصطلاحي من دون قرينة ، كما في التعبير المعروف : «دعوى فلان خالية عن البرهان والبيّنة» .
ويدلّ على كون المراد بالبيّنة في الموثّقة خصوص المعنى الاصطلاحي ; أ نّه
لو كان المراد بها هو المعنى اللغويّ يلزم أن تكون الاستبانة أيضاً من مصاديق البيّنة ، فيكون العطف من قبيل عطف العامّ على الخاصّ ; وهو خلاف ما هو المتفاهم عرفاً منها ، كما لا يخفى .
ثالثها : أ نّه على تقدير تماميّة دلالة الموثّقة على اعتبار البيّنة بمعناها المصطلح ، لادلالة لها على اعتبارها في المقام ; وهو الاجتهاد والأعلميّة ; لأنّهما ليسا من الأُمور الحسّية ، بل يُستكشفان بالحدس والاختبار ، والبيّنة إنّما تكون معتبرة في خصوص المحسوسات (4).
والجواب : أنّ هذين الأمرين ، وكذا مثلهما كالعدالة من الأُمور الحدسيّة القريبة
- (1) التنقيح في شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد: 210 .
-
(2) وسائل الشيعة : 27 / 293 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفيّة الحكم ب25 ح3 ، السنن الكبرى للبيهقي : 15 / 393 ح21805 .
-
(3) الكافي : 7 / 414 ح1 ، وعنه وسائل الشيعة : 27 / 232 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفيّة الحكم ب2 ح1 .
-
(4) راجع مستمسك العروة الوثقى: 1 / 38 و 205 والتنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد والتقليد: 212 .
(الصفحة 253)
إلى الحسّ ، وقد قام الدليل في باب العدالة ، وهو كذلك عند العقلاء أيضاً ; لأ نّه يعامل معها عندهم معاملة الأُمور المحسوسة ، كما يظهر بمراجعتهم .
وتؤيّد الموثقّة في الدلالة على اعتبار البيّنة رواية عبدالله بن سليمان ، عن
أبي عبدالله(عليه السلام) في الجبن قال : كلّ شيء لك حلال حتّى يجيئك شاهدان يشهدان أنّ فيه ميتة(1) .
وقد انقدح ممّا ذكرنا أ نّه لا مجال للإشكال في اعتبار البيّنة وحجّيتها في الموضوعات الخارجيّة ، التي يترتّب عليها حكم شرعيّ ، ومنها الاجتهاد والأعلميّة .
ثمّ إنّه ربما يقال : بأنّ الاجتهاد والأعلميّة كما أنّهما يثبتان بقيام البيّنة وشهادة العدلين ، كذلك يثبتان بخبر الواحد العادل ، بل لا حاجة إلى عدالة المخبر ، بل تكفي الوثاقة في ذلك ، كالخبر الواحد القائم على حكم من الأحكام الشرعيّة .
وما قيل في وجه الاعتبار أمران :
الأوّل : استمرار السيرة العقلائيّة وجريانها على الاعتماد عليه في الموضوعات الخارجيّة ، ولم يتحقّق عنها ردع في الشريعة ، فلا محيص عن الالتزام بالحجّية كما في الأحكام العمليّة الفرعيّة . أمّا جريان السيرة على ذلك فممّا لاريب فيه . وأمّا عدم الردع ، فلأنّ ما يتخيّل أن يكون رادعاً هو موثّقة مسعدة بن صدقة المتقدّمة ، نظراً إلى أنّ ذيلها وهو قوله(عليه السلام) : «والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك ، أو تقوم به البيّنة» يدلّ على حصر المثبت بالاستبانة وقيام البيّنة ، فلو كان
- (1) الكافي : 6 / 339 ح2 ، وعنه وسائل الشيعة : 25 / 118 ، كتاب الأطعمة والأشربة ، أبواب الأطعمة المباحة ب61 ح2 .
(الصفحة 254)
خبر الواحد أيضاً مثبتاً لما كان وجه للحصر ، ولكان اللازم ذكره مع البيّنة كما هو ظاهر .
وأجيب عنه أوّلا : بمنع كون الموثّقة بصدد الحصر ; لوضوح عدم اختصاص المثبت بالأمرين المذكورين في الرواية ; لأنّ الاستصحاب والإقرار وحكم الحاكم وأشباهها أيضاً مثبتات للتحريم في مواردها ، فلو كانت بصدد الحصر يستلزم ذلك تخصيص الأكثر المستهجن .
وثانياً : بأنّ البيّنة في الموثقّة بمعنى الحجّة وما به البيان ، ولابدّ من تشخيص الصغرى من الخارج ، ولا دلالة لها على أنّ ما به البيان ماذا ، فإذا أقمنا الدليل على اعتبار الخبر في الموضوعات الخارجيّة ، استكشفنا بذلك أ نّه أيضاً ـ كالبيّنة المصطلحة ـ مصداق للكبرى ومن أفراد الحجّة .
وثالثاً : بأنّ عدم ذكر الخبر الواحد في قبال العلم والبيّنة ، إنّما هو من جهة خصوصيّة في موردها ، وهي : أنّ الحلّية في مفروضها كانت مستندة إلى قاعدة اليد في مسألة الثوب ، ومن الواضح عدم اعتبار خبر الواحد مع وجود اليد ، فكأنّه(عليه السلام)كان بصدد بيان ما يعتبر في جميع الموارد على وجه الإطلاق (1).
ويرد على هذا الجواب ـ مضافاً إلى ما ذكرنا في بيان المراد من الموثّقة من عدم كون المراد بالبيّنة فيها إلاّ البيّنة المصطلحة ـ : أنّ رادعيّة الموثّقة لا تتوقّف على دلالة ذيلها على الحصر ; فإنّ نفس دلالتها على اعتبار البيّنة مرجعها إلى عدم اعتبار خبر الواحد العادل فضلا عن الثقة ; فإنّ البيّنة إنّما تغاير مع خبر الثقة في أمرين :
- (1) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد والتقليد: 211 ـ 212 .
(الصفحة 255)
أحدهما : التعدّد ، والآخر : العدالة ، ومع اشتمالها على هذه المزيّة والإضافة من جهة الكمّية والكيفيّة ، لو كان خبر الواحد الثقة مثل البيّنة معتبراً في الموضوعات الخارجيّة ، لكان ذكر البيّنة والحكم عليها بالاعتبار ـ خصوصاً في مقام إلقاء القاعدة الكلّية وإفادة حكم كلّي ـ لغواً لا يترتّب عليه إلاّ إيهام الخلاف .
فذكر البيّنة في هذا المقام من أقوى الشواهد على دخالتها في الحكم بالاعتبار ، وعدم كون ما ينقص عنها من إحدى الجهتين مشتركاً معها في الحجّية ، خصوصاً مع ملاحظة أنّ شهادة الشخصين لا تقع في الخارج نوعاً إلاّ تدريجاً ، بمعنى وقوع إحدى الشهادتين متأخّرة عن الاُخرى . وعليه : فلو كانت الشهادة الأُولى كافية في مقام ترتيب الأثر وثبوت الحكم لكانت الشهادة الثانية لغواً ، ومن قبيل تحصيل الحاصل .
وبالجملة : لو لم يكن خبر الواحد الثقة متسانخاً مع البيّنة أصلا ، لم يكن اعتبار البيّنة في الموثّقة دالاًّ على عدم اعتباره ، من جهة عدم إفادتها للحصر بوجه . وأمّا مع وجود التسانخ وثبوت الاختلاف من جهة الكمّية والكيفيّة فقط ، لا مناص عن الالتزام بأنّ اعتبارها يدلّ على مدخليّة الكيفيّة والكمّية في الحكم به ، وهو يدلّ على عدم اعتبار الناقص من إحدى الجهتين أو كلتيهما ، كما لا يخفى .
وعليه : فرادعيّة الموثّقة لا تتوقّف على دلالتها على الحصر بوجه ، بل نفس دلالتها على حجّية البيّنة تصلح رادعة عن السيرة العقلائيّة ، ومانعة عن إعمالها في الشريعة المطهّرة .
وأمّا الجواب الثالث : فيرد عليه : أنّ استناد الحلّية في مسألة الثوب إلى قاعدة اليد ، التي لا يكون خبر الواحد معتبراً معها ، لا يصلح للإغماض عن ذكر خبر الواحد في مقام إفادة القاعدة الكلّية وإلقاء الضابطة العامّة ، خصوصاً مع ملاحظة