(الصفحة 283)
تقريرات بحثه في شرح العروة(1) .
ولكنّه يرد عليه ـ مضافاً إلى عدم تماميّة كون العدالة عبارة عن الاستقامة الكذائيّة ، بل هي كما سيأتي إن شاء الله تعالى(2) ، عبارة عن ملكة الاجتناب عن خصوص المعاصي الكبيرة أو بضميمة المروءة ، ومن المعلوم أنّ مجرّد عدم الترخيص من قبل الشارع لا ينافي تحقّق العدالة بهذا المعنى ـ : أنّ المقصود توجيه فتوى الشيخ(قدس سره) على طبق مسلكه ومرامه لا مطلقاً ، ومن الواضح عدم كون ارتكاب ما لم يقع فيه ترخيص من الشارع مانعاً عن العدالة عنده لو فرض عدم كونه محرّماً شرعيّاً .
والحقّ أنّه لا يمكن توجيه هذه الفتوى بناءً على مبناه إلاّ بارتكاب خلاف الظاهر في العبارة ، إمّا بأن يكون مراده من الفسق عدم تحقّق ملكة العدالة ، وعدم جواز ترتيب الآثار المترتّبة على العدالة ، لا تحقّق وصف الفسق وترتّب آثاره عليه . وإمّا بأن يكون مراده خصوص صورة الابتلاء ، وارتكاب مثل قطع الصلاة المحرّم على المشهور ، والإصرار عليه المتحقّق بالعزم على العود على المعصية ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى(3) .
هذا كلّه ما يتعلّق بلزوم تعلّم مسائل الشكّ والسهو وشبهها .
وأمّا لزوم تعلّم أجزاء العبادات وشرائطها وموانعها ، فنقول : لا إشكال فيما أفاده في المتن من كفاية الامتثال العلمي الإجمالي وجواز الرجوع إلى الاحتياط
- (1) التنقيحفي شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 302 ـ 303 .
-
(2) في ص303 ـ 307 .
-
(3) في ص352 ـ 355 .
(الصفحة 284)
ولو مع التمكّن من الامتثال العلمي التفصيلي ، وقد تقدّم البحث فيه(1) بما لا مزيد عليه ، فلا حاجة إلى الإعادة . إنّما الكلام والإشكال في أ نّه هل يجوز الاكتفاء بالعبادة التي يحتمل أن تكون واجدة للأجزاء والشرائط ، وفاقدة للموانع مع التمكّن من الامتثال التفصيلي ; بأن يتعلّم كيفيّتها ، أو الإجمالي ; بأن يمتثل على نحو يقطع بحصول المأمور به إجمالا ، أم لا؟
والظاهر هو الثاني ; لقاعدة الاشتغال الحاكمة بلزوم تحصيل العلم بالفراغ بعد العلم بتوجّه التكليف وتنجّزه على المكلّف ، ومن المعلوم توقّف تحصيل العلم بالفراغ على تعلّم العبادة بأجزائها وشرائطها وموانعها .
وبه يظهر أنّ الحاكم بوجوب التعلّم ليس إلاّ العقل من باب توقّف العلم بالفراغ عليه ، فالوجوب عقليّ لا يترتّب على مخالفته إلاّ استحقاق العقوبة المترتّب على ترك العبادة لو صادف عمله مع المخالفة للواقع ، كما أ نّه يظهر أنّ التعلّم اللازم لا يكون موقّتاً بوقت مخصوص ، بل يلزم في وقت يقدر معه على الإتيان بالواجب يقيناً ; سواء كان الواجب من الواجبات المطلقة أو المشروطة أو الموقّتة ، ففي غير الأوّل لا يلزم أن يكون التعلّم قبل حصول الشرط أو مجيء الوقت ، بل يكفي التعلّم بعدهما مع الإمكان .
إنّما الإشكال فيما لو لم يتمكّن من التعلّم بعد حصول الشرط ، أو مجيء الوقت مع التمكّن من التعلّم قبلهما ، فهل يجب عليه التعلّم حينئذ مع عدم اتّصاف التكليف بالفعليّة لعدم تحقّق شرطه أو مجيء وقته ، أم لا؟
ذكر بعض الأعلام في شرحه على العروة أنّ هذه الصورة على قسمين ; لأنّ
(الصفحة 285)
التعلّم حينئذ قد يكون مقدّمة إحرازيّة للامتثال ، ولا يترتّب على تركه إلاّ عدم إحرازه مع التمكّن من الإتيان بالواجب في وقته ، وقد يكون مقدّمة وجوديّة ; بمعنى أ نّه لو لم يتعلّم لا تكون له قدرة على الإتيان به .
أمّا القسم الأوّل : فلا ينبغي التأمّل في أ نّه يجب عليه التعلّم قبل الشرط أو مجيء الوقت ; لاستقلال العقل بلزومه ; لوجوب دفع الضرر المحتمل بمعنى العقاب .
وأمّا القسم الثاني: ففيه إشكال، نظراً إلى أنّ المكلّف بعد دخول الوقت أو حصول الشرط لا يكون مكلّفاً; لفرض العجز ووضوح كون القدرة من شرائط التكليف، كما أ نّه غير مكلّف قبلهما ، فلا معنى للحكم بوجوب التعلّم من باب المقدّمة .
ثمّ قال في حلّ الإشكال ما ملخّصه : إنّ القدرة قد تكون دخيلة في الملاك ، كما أنّها دخيلة في الخطاب ، وقد تكون دخيلة في الخطاب فقط من غير أن تكون دخيلة في الملاك ، ولا ينبغي التأمّل في وجوب التعلّم في الصورة الثانية ; لأنّ تركه حينئذ مفوّت للملاك الملزم في ظرفه ، وتفويت الملاك كتفويت الواجب قبيح لدى العقل ; لأنّ الملاك روح التكليف .
وأمّا الصورة الاُولى: فهي التي يجري فيها الإشكال ، نظراً إلى أنّ الملاك والتكليف إذا كان كلاهما مشروطاً بالقدرة ، وفرضنا أنّ المكلّف لو لم يتعلّم الواجب قبل مجيء وقته ، أو فعليّة شرطه ، لا يتمكّن منه بعدهما ، فَلِماذا يجب تعلّمه قبلهما ؟
نعم ، لو تعلّم كان متمكّناً من العمل في ظرفه ، إلاّ أ نّه ممّا لا ملزم له ، ولأجل هذا
(الصفحة 286)
الإشكال التجأ المحقّق الأردبيلي(قدس سره) (1) ومن تبعه(2) إلى الالتزام بالوجوب النفسي ، وأنّ العقاب إنّما هو على ترك التعلّم نفسه ، مع أنّ الأدلّة الدالّة على وجوب التفقّه والتعليم ظاهرة في الوجوب الطريقي ، وأنّ التعلّم مقدّمة لامتثال الأحكام الواقعيّة ، لا أ نّه واجب نفسيّ . وعليه : فلا دليل في شيء من المقدّمات المفوّتة على وجوب تحصيلها قبل مجيء وقت الواجب أو حصول شرطه .
ثمّ قال ما ملخّصه أيضاً : إنّ الصحيح أنّ التعلّم خاصّة ليس كسائر المقدّمات المفوّتة ، وأ نّه أمرٌ واجب ; لإطلاق الأدلّة القائمة على وجوبه . غاية الأمر أنّ وجوبه طريقيّ ، ومعناه أ نّه إذا كان ترك الواجب مستنداً إلى ترك التعلّم استحقّ العقاب عليه لا على ترك التعلّم . وتظهر الثمرة بيننا ، وبين المحقّق الأردبيلي فيما إذا استند ترك الواجب إلى أمر آخر غير ترك التعلّم ; فإنّ المكلّف حينئذ لا يستحقّ العقوبة بناءً على ما ذكرنا ، ويستحقّها بناءً على ما ذكره(قدس سره) (3) .
والتحقيق أنّ التعلّم إذا كان مقدّمة وجوديّة بحيث لم يكن له أيّ قدرة على الإتيان بالمكلّف به بعد فعليّة أمره بتحقّق شرطه أو مجيء وقته ، يجري عليه حكم القدرة ، والحقّ في باب القدرة أنّها لا مدخليّة لها لا في الملاك ولا في الخطاب ; لعدم قيام الدليل عليه ، بل الذي يحكم به العقل أنّ العجز مانع عن تنجّز التكليف وموجب لعدم استحقاق العقوبة على مخالفته ، لا أنّ القدرة شرط .
والدليل عليه : أ نّه لو كانت القدرة شرطاً لكان اللازم مع الشكّ فيها هو
- (1) راجع مجمع الفائدة والبرهان : 2 / 195 ، 212 وج3 / 187 ـ 190 .
-
(2) راجع كشف اللثام : 3 / 418 ـ 419 ، والحدائق الناضرة : 8 / 109 ، ومفتاح الكرامة : 2 / 372 ، وجواهر الكلام : 9/208 ـ 209 و 300 ـ 301 .
-
(3) التنقيحفي شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 293 ـ 297 .
(الصفحة 287)
الرجوع إلى أصالة البراءة عن التكليف كما هو واضح ، مع أنّ الظاهر عدم التزامهم به أصلا ، فلا محيص عن الالتزام بكون العجز مانعاً ، وحينئذ فلابدّ من ملاحظة أنّ هذا النوع من العجز ـ الذي مرجعه إلى إمكان رفعه قبل حصول الشرط ، أو مجيء الوقت ـ هل يكون مانعاً عند العقل عن تنجّز التكليف ، أم لا؟ والظاهر هو العدم .
ضرورة أ نّه لو علم العبد بأ نّه يريد المولى بعد ساعة شرب الماء لرفع العطش وهو لا يقدر على تحصيل الماء في ذلك الزمان ، ولكنّه يقدر على تحصيله في الحال ، لا يكون العجز في ظرف الإرادة والتكليف مانعاً عن توجّه التكليف واستحقاق العقوبة على مخالفته . وعليه : فلا حاجة إلى التمسّك بالأدلّة القائمة على وجوب التفقّه والتعلّم حتى تمكن المناقشة فيه بأ نّه لم يثبت لها إطلاق يشمل ما هو المفروض في المقام ، فتأمّل جيّداً .