(الصفحة 309)
شيء ، بل هو محكوم بالفسق ، وإمّا أن يكون أمراً مباحاً ، كما إذا كان الرادع الشرافة والجاه والخوف عن السقوط عن أعين الناس ، وفي هذه الصورة يكون المكلّف خارجاً عن عنواني العادل والفاسق معاً .
فانقدح أنّ العدالة هي الاستقامة العمليّة في جادّة الشرع بداعي الخوف من الله أو رجاء الثواب ; وهي صفة عمليّة وليست من الأوصاف النفسانيّة ، لكنّه يعتبر أن تكون هذه الاستقامة مستمرّة بحيث تصير كالطبيعة الثانويّة للمكلّف ، فالاستقامة في حين دون حين كما في شهر رمضان ، أو مكان دون مكان ، كما في المساجد والمشاهد ، لا تكون عدالة أصلا . نعم ، لا يضرّ بها ارتكاب المعصية في بعض الأحيان ـ لغلبة الشهوة أو الغضب ـ فيما إذا ندم بعد الارتكاب(1) .
ويرد عليه ـ بعد وضوح أ نّه ليس المراد بالاستقامة هي الاستقامة فيما مضى فقط أو بضميمة الحال ، بل الاستقامة الدائميّة المطلقة الحاصلة بترك المحرّم والإتيان بالواجب في الاستقبال أيضاً ـ : أنّ هذا النحو من الاستقامة الناشئة عن الخوف أو الرجاء لا تكاد تنفك عن الملكة ; فإنّ القائل باعتبار الملكة في العدالة لا يريد بها إلاّ الحالة التي إذا اطّلع الغير عليها يطمئنّ بعدم صدور المعصية من صاحبها ، إلاّ أن يحاط به ويغلب عليه الشهوة أو الغضب على خلاف العادة .
ومن المعلوم أنّ تحقّق الخوف الدائمي والرجاء كذلك لا ينفك عن هذه الحالة والكيفيّة ، بل لا مغايرة بين الأمرين ; فإنّ الحالة الكذائيّة ليست إلاّ حالة الخوف المرتكزة في النفس الحاصلة بعد تحقّق مبادئها ، التي هي عبارة عن الاعتقاد بالوحدانيّة وبالرسالة وبغيرهما من الأُمور الاعتقاديّة ، وبما يترتّب على مخالفة
- (1) التنقيحفي شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 254 ـ 258 .
(الصفحة 310)
التكليف من التبعة ، فالتحقيق أنّ هذا يرجع إلى النزاع اللفظي ، ولا نزاع معنويّاً في البين كما هو ظاهر .
نعم ، لابدّ من ملاحظة ما استدلّ به على اعتبار الملكة في العدالة ، وهي اُمور مذكورة في كلام الشيخ الأعظم الأنصاري(قدس سره) على ما في رسالة العدالة(1) :
الأوّل : الأصل ، والظاهر أنّ المراد به أصالة عدم ترتّب الآثار المرغوبة من العدالة والمطلوبة منها على مجرّد الاجتناب العملي ، الذي لم يكن ناشئاً عن الملكة النفسانية ، وأشار إلى ضعف هذا الدليل بأمره بالتأمّل ، ولعلّ الوجه فيه : أنّه ليس الشكّ في حصول مفهوم مبيّن وتحقّقه في الخارج ، بل الشكّ في أصل المفهوم والمعنى ، وإجراء الأصل لا يثبت كون المفهوم معتبراً فيه الملكة إلاّ على القول بالأُصول المثبتة ، وهو خلاف التحقيق .
الثاني : الاتّفاق المنقول المعتضد بالشهرة المحقّقة ، بل عدم الخلاف ، وهذا الدليل وإن كان يساعده ما ذكرناه من رجوع الأقوال المختلفة إلى قول واحد ، إلاّ أنّ بلوغه إلى مرحلة الاتّفاق غير ثابت ، والاتّفاق المنقول لا يكون واجداً لوصف الحجيّة على ما قرّر في الأُصول(2) .
الثالث : ما دلّ على اعتبار الوثوق بدين إمام الجماعة وورعه ; فإنّ الوثوق لايحصل بمجرّد تركه المعاصي في جميع ما مضى من عمره ما لم يعلم أو يظنّ فيه ملكة الترك .
وأُورد عليه بالمنع عن عدم حصول الوثوق بدين من نرى أ نّه يأتي بواجباته
- (1) رسالة في العدالة للشيخ الأنصاري : 11 .
-
(2) فرائد الاُصول : 1 / 125 وما بعدها ، سيرى كامل در اُصول فقه: 1 / 291 وما بعدها .
(الصفحة 311)
ويترك المحرّمات مع عدم إحراز الملكة فيه ; لأنّا إذا عاشرنا زيداً مثلا مدّة ، ورأينا أ نّه يخاف حيواناً من الحيوانات الموذية مثلا يحصل لنا الوثوق بذلك في حقّه ، وكذلك الحال في المقام ، فإنّا إذا عاشرناه مدّة ، ورأينا أ نّه يخاف الله سبحانه ،
ولا يرتكب محرّماً ، ولا يُخِلّ بواجب ، يحصل لنا الوثوق بديانته ، ولو لم تكن الملكة موجودة فيه (1).
والجواب عن ذلك ما ذكرنا من أنّ حصول الوثوق بتحقّق الخوف الدائمي ،
أو الرجاء كذلك فيه الموجب لعدم الإخلال بالواجب ، وعدم الإتيان بالمحرّم عبارة اُخرى عن حصول الوثوق بالملكة والحالة النفسانيّة ; ضرورة عدم كون مراد القائل باعتبار الملكة أزيد من ذلك .
الرابع : ما ورد في الشاهد ممّا يدلّ على اعتبار المأمونيّة والعفّة والصيانة والصلاح وغيرها فيه(2) ، مع الإجماع على عدم اعتبارها زائداً على العدالة ، ووضوح كونها من الصفات النفسانيّة .
وأُورد عليه بأنّ العناوين المذكورة غير منطبقة على الأفعال النفسانيّة ، فضلا عن أن تنطبق على الصفات النفسانيّة ، وتفصيل ذلك : أنّ كون الرجل مرضيّاً بمعنى أن يكون أفعاله ممّا يرضى به الناس ، فهي من صفات الأعمال الخارجيّة ، وليس من الصفات النفسانيّة .
نعم ، الرضا صفة نفسانيّة ، إلاّ أ نّه صفة قائمة بالغير ; لأنّ العادل هو المرضي ، والراضي عن أفعاله هو الغير ، وكذا كونه صالحاً معناه أن لا يكون فاسد العمل ،
- (1) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد والتقليد: 261 .
-
(2) وسائل الشيعة: 27 / 391، كتاب الشهادات ب 41 .
(الصفحة 312)
وكذا كونه مأموناً ; فإنّ الأمن وإن كان بمعنى اطمئنان النفس وسكونها في
مقابل اضطرابها وتشويشها ، إلاّ أ نّه أمرٌ قائم بالغير دون المتّصف بالعدالة ، والخيّر
هو الذي كانت أعماله خيراً ،والصائن من ترك المعاصي مع وجود المقتضي
لارتكابها .
والستر بمعنى التغطئة ، وكون المكلّف ساتراً إمّا بمعنى أ نّه ساتر لعيوبه عن الله سبحانه ، فهو بهذا المعنى عبارة اُخرى عن اجتنابه المعاصي ، وإمّا بمعنى كونه مستوراً لدى الناس ; بمعنى أ نّه لايتجاسر بالمعاصي ولايتجاهر بها ، فهذا أيضاً ليس من الصفات النفسانية .
والعفّة بمعنى الامتناع عمّا لا يحلّ ، والامتناع هو من عناوين الأفعال الخارجيّة ، فهذه الصفات والعناوين لا تكاد تنطبق على الصفات النفسانيّة بوجه (1).
والجواب عن هذا الإيراد يظهر ممّا ذكرنا من أنّ هذه العناوين لا يكاد يراد بها إلاّ تحقّقها في جميع الحالات والأزمنة الثلاثة ، لا خصوص الماضي والحال ، ومن المعلوم أنّ إحرازها كذلك لا يكاد ينفكّ عن تحقّق الملكة ، خصوصاً بعد اعتبار كون الاجتناب ناشئاً عن الخوف النفساني والرجاء كذلك ; فإنّ إحراز الخوف الدائمي عبارة اُخرى عن إحراز الملكة المانعة عن ارتكاب المحرّم والباعثة على الإتيان بالواجب .
هذا ، مع ما سيأتي(2) من أنّ بعض هذه العناوين قد فسّر في اللغة بما لا ينطبق إلاّ
على الصفة النفسانيّة ، كالستر والعفاف وأشباههما .
- (1) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد والتقليد: 262 ـ 263 .
-
(2) يأتي في ص318 .
(الصفحة 313)
حول صحيحة عبدالله بن أبي يعفور]
الخامس : ـ وهو العمدة في الباب ـ صحيحة عبدالله بن أبي يعفور التي رواها الصدوق في الفقيه ، والشيخ في التهذيب .
أمّا الأوّل : فقد رواها باسناده عنه قال : قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : بم تُعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتى تُقبل شهادته لهم وعليهم؟ فقال : أن تعرفوه بالستر والعفاف ، وكفّ البطن والفرج واليد واللسان ، ويعرف باجتناب الكبائر الّتي أوعد الله عليها النار من شرب الخمر ، والزنا ، والربا ، وعقوق الوالدين ، والفرار من الزحف وغير ذلك . والدلالة على ذلك كلّه أن يكون ساتراً لجميع عيوبه حتّى يحرم على المسلمين ما وراء ذلك ; من عثراته وعيوبه وتفتيش ما وراء ذلك ، ويجب عليهم تزكيته وإظهار عدالته في الناس ، ويكون منه التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهنّ ، وحفظ مواقيتهنّ بحضور جماعة من المسلمين .
وأن لايتخلّف عن جماعتهم في مصلاّهم إلاّ من علّة، فإذاكان كذلك لازماً لمصلاّه عند حضور الصلوات الخمس ، فإذا سئل عنه في قبيلته ومحلّته قالوا : ما رأينا منه إلاّ خيراً ، مواظباً على الصلوات ، متعاهداً لأوقاتها في مصلاّه ; فإنّ ذلك يجيز شهادته وعدالته بين المسلمين ; وذلك أنّ الصلاة ستر وكفّارة للذنوب ، وليس يمكن الشهادة على الرجل بأ نّه يصلّي إذا كان لا يحضر مصلاّه ويتعاهد جماعة المسلمين.
وإنّما جعل الجماعة والاجتماع إلى الصلاة لكي يعرف من يصلّي ممّن لا يصلّي ، ومن يحفظ مواقيت الصلاة ممّن يضيّع ، ولو لا ذلك لم يمكن أحد أن يشهد على آخر بصلاح ; لأنّ من لا يصلّي لا صلاح له بين المسلمين ; فإنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) همّ بأن يحرق قوماً في منازلهم لتركهم الحضور لجماعة المسلمين ، وقد كان فيهم من يصلّي