(الصفحة 329)
بل دالّة على أنّ المعاصي الشرعيّة على قسمين : كبيرة ، وصغيرة . كما أ نّها تشعر بأنّ ضابط الكبيرة هو ما أوعد الله تعالى عليها النار ، بناءً على كون الوصف توضيحيّاً لا احترازيّاً ، كما هو الظاهر .
ويدلّ على ذلك قبل الرواية قوله تعالى : {إِن تَجْتَنِبُوا كَبَآلـِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّـَاتِكُمْ}(1) . وقوله تعالى : {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَـلـِرَ الاِْثْمِ وَالْفَوَ حِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ}(2) . حيث إنّ الآيتين تدلاّن على اتّصاف بعض المنهيّات والآثام بوصف الكبر ، وبعض آخر بخلافه .
نعم ، تمكن المناقشة في الجميع ; بأ نّه لا دلالة لشيء منها على كون المعاصي على قسمين ، بل غاية مفادها أنّ الأُمور التي تعلّق بها النهي ، وينطبق عليها عنوان الإثم على قسمين ، وحيث إنّ النهي على قسمين : تحريميّ ، وتنزيهيّ ، فيمكن أن يكون المراد بالكبيرة خصوص ما تعلّق به النهي التحريمي ، الشامل لجيمع المعاصي في قبال ما تعلّق به النهي التنزيهي ، وإطلاق السيّئة على المكروه لا مانع منه أصلا ، كما أنّ انطباق الإثم عليه أيضاً كذلك ، ولا يكون في الرواية دلالة على أنّ المضاف إليه في قوله(عليه السلام) : «ويُعرف باجتناب الكبائر» هو خصوص المعاصي ، فلعلّ المراد به المنهيّات التي تكون أعمّ من المعاصي .
ولكنّ الظاهر أنّ هذه المناقشة موهونة ، والاحتمال لا يقاوم ظهور الآيتين والرواية في كون المحرّمات والمعاصي على قسمين : كبيرة ، وصغيرة . ويؤيّده ما عرفت من ظهور الرواية في كون الوصف توضيحيّاً لا احترازيّاً ، وأنّها بصدد إفادة
- (1) سورة النساء : 4 / 31 .
-
(2) سورة النجم : 53 / 32 .
(الصفحة 330)
الضابطة ، ومن المعلوم عدم جريانها في جميع المعاصي والمحرّمات ; لعدم إيعاد الله ـ تبارك وتعالى ـ عليها النار ; لأنّ الظاهر أنّ المراد به هو الإيعاد عليه بالخصوص ، لا الإيعاد بنحو العموم في مثل قوله تعالى : {وَ مَن يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ و فَإِنَّ لَهُ ونَارَ جَهَنَّمَ}(1) الآية .
وأمّا الأصحاب ، فالقدماء منهم لا يظهر من كلماتهم هذا التقسيم أصلا . نعم ، ذكر ذلك الشيخ(قدس سره) في كتاب المبسوط ، حيث قال ـ بعد تفسير العدالة في الشريعة بأنّها عبارة عن العدالة في الدين ، والعدالة في المروءة ، والعدالة في الأحكام ، وبعد تفسير كلّ واحد من هذه الأُمور الثلاثة ـ : فإن ارتكب شيئاً من الكبائر ـ ثمّ عدّ جملة منها ـ سقطت شهادته ، فأمّا إن كان مجتنباً للكبائر ، مواقعاً للصغائر ; فإنّه يعتبر الأغلب من حاله ، فإن كان الأغلب من حاله مجانبته للمعاصي ، وكان يواقع ذلك نادراً قبلت شهادته ، وإن كان الأغلب مواقعته للمعاصي ، واجتنابه لذلك نادراً لم تقبل شهادته . قال : وإنّما اعتبرنا الأغلب في الصغائر ; لأنّا لو قلنا : إ نّه لا تقبل شهادة من أوقع اليسير من الصغائر ، أدّى ذلك إلى أن لا تقبل شهادة أحد ; لأ نّه لا أحد ينفكّ من مواقعة بعض المعاصي(2) .
ولكنّه أورد عليه ابن إدريس بقوله : «وهذا القول لم يذهب إليه(رحمه الله) إلاّ في هذا الكتاب ; أعني المبسوط ، ولا ذهب إليه أحد من أصحابنا ; لأ نّه لا صغائر عندنا في المعاصي إلاّ بالإضافة إلى غيرها ، وما خرّجه واستدلّ به من أ نّه يؤدّي ذلك إلى أن لا تقبل شهادة أحد ; لأ نّه لا أحد ينفكّ من مواقعة بعض المعاصي ، فغير واضح ;
- (1) سورة الجنّ : 72 / 23 .
-
(2) المبسوط : 8 / 217 .
(الصفحة 331)
لأ نّه قادر على التوبة من ذلك الصغير ، فإذا تاب قبلت شهادته ، وليست التوبة ممّا
يتعذّر على إنسان ، ولا شكّ أنّ هذا القول تخريج لبعض المخالفين ، فاختاره شيخنا هاهنا ونصره ، وأورده على جهته ولم يقل عليه شيئاً ; لأنّ هذا عادته في كثير ممّا يورده في هذا الكتاب(1) .
وذهب جماعة اُخرى من القدماء أيضاً إلى أنّ المعاصي كلّها كبيرة (2)، ولكنّ المشهور بين المتأخّرين ، بل المنسوب إلى أكثر العلماء ، أو إلى العلماء ، أو إلى المشهور المعروف ، هو اختلاف المعاصي (3) واتّصاف بعضها بالكبر في حدّ ذاته وبعضها بالصغر كذلك .
والتحقيق أ نّه لا مجال للمناقشة في أصل التقسيم ; لأ نّه ـ مضافاً إلى ما عرفت من دلالة الكتاب والسنّة عليه ـ يدلّ على ذلك أ نّه مع دعوى الإضافة أيضاً لا محالة ينتهي الأمر إلى ذنب أو ذنوب ليس لها فوق ، وهذا الذي ليس له فوق ، كما أ نّه كبيرة بالإضافة إلى ما دونه من الذنوب ، كذلك كبيرة في حدّ نفسها وبقول مطلق ; إذ لا يتصوّر فوق بالإضافة إليه ـ كما هو المفروض ـ حتى يتّصف هذا الذنب بالصغر بملاحظته .
وهكذا الأمر في طرف الصغيرة ; فإنّه مع دعوى الإضافة أيضاً لا محالة ينتهي الأمر إلى ذنب أو ذنوب لم يكن دونه ذنب ، وهذا الذي ليس تحته ذنب ، كما أ نّه
- (1) السرائر : 2 / 118 .
-
(2) أوائل المقالات ، ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد: 4 / 83 ـ 84 ، العُدّة في اُصول الفقه: 1 / 139 ، مجمع البيان: 3 / 67، وراجع الكافي في الفقه: 435 ، والمهذّب: 2 / 556، كما حكى عنهما في مسالك الأفهام: 14 / 166 .
-
(3) مجمع الفائدة والبرهان : 12 / 318 ـ 320 ، مصابيح الظلام : 1/444 ، مفتاح الكرامة : 3 / 89 ، جواهر الكلام : 13/305 .
(الصفحة 332)
صغيرة بالإضافة إلى ما فوقه ، كذلك هي صغيرة بقول مطلق ، إذ المفروض أ نّه ليس تحته ذنب أصلا ، فلا محيص حينئذ عن الالتزام بوجود الكبيرة والصغيرة بقول مطلق . وعليه : فلا مانع من الأخذ بمقتضى الروايات الدالّة على وجود الكبائر وتعدادها .
غاية الأمر أنّ اختلافها ـ كما سيجيء(1) ـ محمول على اختلاف المراتب ، كما أ نّه في نوع واحد من الكبائر يتصوّر المراتب أيضاً ; فإنّ الظلم مثلا الذي هو من الكبائر له مراتب يختلف على حسب اختلافها من حيث شدّة المعصية وعدمها ، وكذلك غيره من الكبائر ، وهذا هو الذي يساعده الاعتبار أيضاً .
[كلام بحر العلوم في تعداد الكبائر، وإيراد صاحب الجواهر عليه]
ثمّ إنّه يقع الكلام بعد ذلك في عدد الكبائر ، والمحكيّ عن العلاّمة الطباطبائي(قدس سره) أ نّه بعد اختياره ما عليه المشهور ـ من أنّ الكبائر هي المعاصي التي أوعد الله سبحانه عليها النار أو العذاب ; سواء كان الوعيد بالنار صريحاً أو ضمنياً ـ حَصَرَ الوارد في الكتاب في أربع وثلاثين ، منها : أربع عشرة ممّا صرّح فيها بخصوصها بالوعيد بالنار ، وأربع عشرة قد صرّح فيها بالعذاب دون النار ، والبقيّة ممّا يستفاد من الكتاب وعيد النار عليها ضمناً أو لزوماً .
أمّا ما صرّح فيها بالوعيد بالنار :
فالأوّل : الكفر بالله العظيم ; لقوله ـ تعالى ـ : {وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّـغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّـلُمَـتِ أُولَـلـِكَ أَصْحَـبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
(الصفحة 333)
خَــلِدُونَ}(1) . وغير ذلك ، وهي كثيرة .
والثاني : الإضلال عن سبيل الله ; لقوله ـ تعالى ـ : {ثَانِىَ عِطْفِهِ ى لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ و فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ وَ نُذِيقُهُ و يَوْمَ الْقِيَـمَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ}(2) . وقوله ـ تعالى ـ : {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَ لَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ}(3).
والثالث : الكذب على الله تعالى والافتراء عليه ; لقوله ـ تعالى ـ : {وَ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ}(4) . وقوله تعالى : {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَـعٌ فِى الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ }(5) .
وقد أورد عليه في الجواهر بأ نّه ليس في الآية الثانية ذكر النار(6) .
والرابع: قتل النفس التي حرّم الله قتلها، قال الله ـ تعالى ـ : {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ و جَهَنَّمُ خَــلِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ و وَأَعَدَّ لَهُ و عَذَابًا عَظِيمًا}(7).
وقال ـ عزّ وجلّ ـ : {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا* وَمَن يَفْعَلْ
- (1) سورة البقرة : 2 / 257 .
-
(2) سورة الحج : 22 / 9 .
-
(3) سورة البروج : 85 / 10 .
-
(4) سورة الزمر : 39 / 60 .
-
(5) سورة يونس : 10 / 69 ـ 70 .
-
(6) جواهر الكلام : 13 / 311 .
-
(7) سورة النساء : 4 / 93 .