(الصفحة 353)
مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّـَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا}(1) قال : قلت : فالشفاعة لمن تجب؟ فقال : حدّثني أبي ، عن آبائه ، عن عليّ(عليهم السلام)قال : قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي ، فأمّا المحسنون فما عليهم
من سبيل .
قال ابن أبي عمير : فقلت له : يا ابن رسول الله ، فكيف تكون الشفاعة لأهل الكبائر ، والله ـ تعالى ـ يقول : {وَ لاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى}(2) . ومن يرتكب الكبائر لا يكون مرتضى؟! فقال : يا أبا أحمد ما من مؤمن يذنب ذنباً إلاّ ساءه ذلك وندم عليه ، وقد قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : كفى بالندم توبة ، وقال : من سرّته حسنته وساءته سيّئته فهو مؤمن ، فمن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن ، ولم تجب
له الشفاعة ـ إلى أن قال :ـ قال النبي(صلى الله عليه وآله) : لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة
مع الإصرار ، الحديث(3) .
هذا ، ويمكن المناقشة في دلالة الآية والروايتين على ما ادّعاه القائل ; من أنّ الإصرار على الذنب إنّما يتحقّق بمجرّد الإتيان بالمعصية ، وعدم التوبة والاستغفار مع الالتفات إلى صدورها والإتيان بها .
أمّا الآية والرواية الأُولى ، فموردهما هو الذنب الذي يفتقر إلى الاستغفار كي يكفّر ، فيمكن أن يقال بملاحظة الآية المتقدّمة : إنّ موردهما هي المعصية الكبيرة .
وأمّا الرواية الثانية ، فلم يظهر دلالتها على مدّعى القائل أصلا ، فتأمّل .
- (1) سورة النساء : 4 / 31 .
-
(2) سورة الأنبياء: 21 / 28 .
-
(3) التوحيد : 407 ح6 ، وعنه وسائل الشيعة : 15 / 335 ، كتاب الجهاد ، أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب47 ح11 .
(الصفحة 354)
نعم ، لا مجال للإشكال على هذا القول ; بأ نّه بناءً عليه لا يبقى مورد للآية الشريفة : {إِن تَجْتَنِبُوا كَبَآلـِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} الآية ، نظراً إلى أ نّه إذا توقّف تكفير الصغيرة أيضاً على التوبة ، لم يتحقّق فرق بينها وبين الكبيرة ، فلا يبقى مورد لهذه الآية أصلا .
وذلك ; لأ نّه يمكن أن يجيب عن ذلك ; بأنّ الذنب الصغير المكفّر باجتناب الكبائر هو الذنب الذي كان غافلا عنه بعد الإتيان به ، أو غافلا عن وجوب التوبة عليه ، وبه يتحقّق الفرق بينه وبين الكبيرة ، حيث إ نّه ما لم تتحقّق التوبة عنها لا تكون مكفّرة أصلا .
وهذا الجواب وإن كان غير صحيح ; لأ نّه ـ مضافاً إلى مخالفته لظاهر الآية الشريفة الدالّة على أنّ اجتناب الكبائر موجب لتكفير الصغائر مطلقاً ، من دون فرق بين صورتي الغفلة وعدمها ـ يكون منافياً لرواية ابن أبي عمير المتقدّمة الدالّة على انحصار الشفاعة بخصوص أهل الكبائر ، والظاهرة في عدم احتياج الصغيرة إلى الاستغفار ما لم يبلغ حدّ الإصرار ، فتدبّر ، إلاّ أ نّه يكفي في إثبات بيان المورد للآية الشريفة ، كما لا يخفى .
ثمّ إنّه حكى في مفتاح الكرامة عن الفاضل السبزواري أ نّه استضعف هذا القول(1) . ولكنّه ذكر نفسه ـ بعد الاستدلال برواية جابر ثمّ الحكم بضعف سندها ـ أنّه يمكن أن يقال : إنّه لـمّا عصى ولم يتب فهو مخاطب بالتوبة ، ولـمّا لم يتب في الحال فقد عصى ، فهو في كلّ آن مخاطب بالتوبة ، ولـمّا لم يتب فقد أقام واستمرّ على عدم
(الصفحة 355)
التوبة التي هي معصية(1) .
ويرد عليه : أنّ التكليف بالتوبة إنّما هو في خصوص المعصية الكبيرة ،
أو الصغيرة غير المكفّرة باجتناب الكبائر. وأمّا الذنب الصغير المكفّر باجتنابها ، فلا يحتاج إلى التوبة أصلا ، فهذا الدليل فاسد .
فينقدح من جميع ما ذكرنا صحّة ما حكي(2) عن الشهيدين(3) والمقدّس الأردبيلي(4) ـ قدّس الله أسرارهم ـ من أنّهم بعد تقسيم الإصرار إلى فعليّ وحكميّ ، وأنّ الفعليّ هو الدوام على نوع واحد من الصغائر بلا توبة ، أو الإكثار من جنسها كذلك ، قالوا : والحكميّ هو العزم على فعل تلك الصغيرة بعد الفراغ منها ، إذاً فالظاهر عدم تحقّق الإصرار بمجرّد الارتكاب وعدم الندم وإن كان متوجّهاً
إلى صدوره ملتفتاً إلى إتيانه .
[اعتبار الاجتناب عن خصوص الكبائر في تحقّق العدالة]
الأمر الثاني : في أنّ المعتبر في العدالة هل هو اجتناب خصوص الكبائر
الشاملة للإصرار على الصغائر ، أو الأعمّ منه ومن اجتناب الصغائر أيضاً؟ والعمدة في مستند القول الأوّل صحيحة عبدالله بن أبي يعفور المتقدّمة(5) ، بناءً
على ما استظهرنا منها(6) من أ نّ قوله(عليه السلام) : «ويُعْرَف باجتناب الكبائر» عطف على
قوله(عليه السلام) : «أن تعرفوه بالستر والعفاف» .
- (1 ، 2) مفتاح الكرامة : 3 / 88 .
-
(3) القواعد والفوائد : 1 / 227 ، قاعدة 68 ، الروضة البهيّة : 3 / 130 .
-
(4) مجمع الفائدة والبرهان : 12 / 320 .
-
(5) في ص313 .
-
(6) في ص 319.
(الصفحة 356)
وعليه : فيكون من تتمّة المعرّف للعدالة أو تخصيصاً بعد التعميم ،
ويصير حاصل المراد أنّ العدالة هي ملكة الستر والعفاف الرادعة عن
ارتكاب شيء من القبائح العرفيّة غير اللائقة بحاله ، وملكة الاجتناب
عن خصوص المعاصي الكبيرة التي أوعد الله عليها النار ، ولازمه حينئذ أنّ
ارتكاب شيء من المعاصي الصغيرة عند عدم الإصرار عليه لا يكون بقادح في
العدالة .
ودعوى أ نّه كيف لا يكون ارتكاب المعصية قادحاً في العدالة ؟ مدفوعة بأنّها مجرّد استبعاد لا يقاوم الظهور اللفظي بعد كون ارتكابها مكفّرة باجتناب الكبائر المفروض في المقام .
نعم ، لو قيل بأنّ قوله(عليه السلام) : «ويُعرف باجتناب الكبائر» ليس من أجزاء المعرّف للعدالة ، بل أمارة شرعيّة عليها ـ كما استظهره بعض الأعاظم من المعاصرين على ما عرفت من كلامه(1) ـ فلا دليل حينئذ على كون العدالة هي الملكة الرادعة عن ارتكاب خصوص الكبائر ، بل مقتضى قوله(عليه السلام) : «أن تعرفوه بالستر والعفاف إلخ» أ نّ العدالة هي ملكة الستر والعفاف الباعثة على كفّ البطن والفرج واليد واللسان عن كلّ ذنب ; سواء كان من الكبائر أو من الصغائر .
غاية الأمر أنّ الأمارة الشرعيّة على ذلك إنّما هو الاجتناب العملي عن خصوص الكبائر ، ومن المعلوم أنّ الرجوع إلى الأمارة إنّما هو مع عدم العلم بخلافها الذي يتحقّق بارتكاب صغيرة من الصغائر .
هذا ، وقد عرفت(2) أنّ هذا المعنى بعيد عن سياق الرواية مخالف لقوله(عليه السلام) :
(الصفحة 357)
«يُعْرَف» بصيغة المذكّر .
نعم ، يمكن أن يورد على ما ذكرنا بأنّ اعتبار الاجتناب عن خصوص المعاصي الكبيرة ينافي قول الإمام(عليه السلام) في ذيل الرواية : «والدلالة على ذلك كلّه أن يكون ساتراً لجميع عيوبه» ; فإنّ مقتضاه أن يكون ساتراً للذنوب الصغيرة أيضاً ، بداهة أنّها أيضاً من العيوب ، ومقتضى هذا القول أن يكون ساتراً لجميعها .
ولكنّ الجواب عنه ـ مضافاً إلى إمكان دعوى كون المراد من العيوب هي خصوص الكبائر منها ، بقرينة قوله(عليه السلام) في الصدر : «ويُعرف باجتناب الكبائر» في مقام تعريف العدالة وبيان معناها ـ : أ نّه لا مانع من الالتزام بكون المراد بالعيوب هنا جميعها ، نظراً إلى أنّ الأمارة الشرعيّة على العدالة هي أن يكون الشخص ساتراً لعيوبه بأجمعها ، ولا منافاة بين أن يكون المعتبر في حقيقة العدالة وماهيّتها خصوص الاجتناب عن الكبيرة ، وبين أن يكون الدليل الشرعي عليها هو الستر لجميع المعاصي ; فإنّ الرجوع إلى الأمارة إنّما هو مع الشكّ وعدم العلم .
ضرورة أ نّه لا مجال للأمارة مع العلم بالواقع ، ففي صورة الشكّ في تحقّق العدالة وحصول الاجتناب عن الكبيرة تكون الأمارة الشرعيّة هو الستر لجميع عيوبه وإخفاء جمع المعاصي وآثامه ، كما أ نّه لا محيص عن الالتزام بذلك بعد ملاحظة ما ذكرنا من عدم كون ترك الواجبات معدوداً من الكبائر ; لما عرفت(1) من تعدادها ، وعدم كون ترك شيء من الواجبات منها ، بضميمة ما في ذيل الصحيحة من اعتبار المواظبة على الصلوات الخمس والحضور في جماعة المسلمين ; فإنّ ترك الصلاة حينئذ لا يكون من الكبائر ، فكيف جعلت المواظبة عليها أمارة شرعيّة على تحقّق