(الصفحة 54)
المقام ، فلا وجه لرفع اليد عن هذه الجهة الدخيلة في الامتثال(1) ، انتهى ملخّص ما أفاده(قدس سره) .
وأورد عليه سيّدنا العلاّمة الاُستاذ دام ظلّه ـ مضافاً إلى منع المبنى ، نظراً إلى ما عرفت من كون الامتثالين في رتبة واحدة وعدم تأخّر الإجمالي عن التفصيلي ـ بمنع البناء ، نظراً إلى عدم الفرق بين هذه الصورة وبين ما إذا شرع في محتملات الثاني بعد استيفاء الأوّل ، وعدم كون الأمر في المقام دائراً بين الموافقة الإجمالية والتفصيليّة ، وذلك لأنّ كلّ واحد من محتملات العصر لو صادف القبلة فقد أتى قبله بالظهر ويحصل الترتيب واقعاً ، وغير المصادف منها عمل لا طائل تحته كغير المصادف من الآخر ولا ترتيب بينهما .
وبالجملة : الترتيب أمر إضافي يتقوّم بثلاثة أُمور : وجود الظهر ، ووجود العصر ، وتأخّر الثاني عن الأوّل ، ولا مجال لحصول العلم التفصيلي بتحقّق هذا الأمر الإضافي بعد عدم كون العصر معلوماً إلاّ بالإجمال ، فلا فرق بين الصورتين(2) .
وربما يقال : بأنّ الوجه في عدم جواز الشروع في العصر قبل استيفاء محتملات الأوّل ، هو أ نّه قد علم من الشرع بمقتضى الأدلّة(3) أنّ الاشتغال بالعصر إنّما يجوز بعد العلم بالفراغ عن الظهر ، فمع الشك في الفراغ عنه لا يجوز الاشتغال بالأمر المترتّب عليه .
ودعوى أنّ الاشتغال غير الجائز إنّما هو الاشتغال بالعصر الواقعي ، وفي هذه
- (1) فوائد الاُصول : 4 / 138 .
-
(2) تهذيب الاُصول : 2 / 375 ـ 377 .
-
(3) وسائل الشيعة: 4/125 ـ 131 و 156 ـ 162 و 290 ـ 293، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت: ب4 و 10 و 63 .
(الصفحة 55)
الصورة لا يعلم كونه هو العصر الواقعي ، بل كونه عصراً يلازم كون السابق ظهراً ، فلا وجه لعدم جواز الاشتغال به .
مدفوعة بأنّ المستفاد من الأدلّة ـ مثل دليل العدول ونحوه(1) ـ أنّ الشارع لم يرض بالاشتغال بصلاة بعنوان أنّها الصلاة اللاحقة إلاّ بعد العلم بفراغ الذمّة عن التكليف بالصلاة السابقة ، فمع الشكّ في الفراغ عن عهدة تكليف الظهر كيف يجوز الشروع في صلاة بعنوان أنّها صلاة العصر ؟ فتدبّر .
الأمر الرابع : قال صاحب العروة بعد حكمه بجواز العمل بالاحتياط ولو كان مستلزماً للتكرار : لكن يجب أن يكون عارفاً بكيفيّة الاحتياط بالاجتهاد أو بالتقليد(2) . وفي المستمسك : هذا شرط للاكتفاء بالاحتياط في نظر العقل ، بل لعلّ عدم المعرفة مانع من حصول الاحتياط فلا يحصل الأمن(3) .
أقول :يرد على المتن أ نّه بعد وضوح عدم كون هذا الوجوب إلاّ وجوباً عقليّاً إرشادياً لا دليل على لزوم المعرفة بكيفيّة الاحتياط من طريق التقليد أو الاجتهاد ، بل اللازم بعد ترك الطريقين هو التوسّل إلى الاحتياط ولو لم يكن عارفاً بكفيّـته ، بل احتاط في الكيفيّة أيضاً .
ألا ترى أ نّه في مثل اشتباه القبلة إذا كان الواجب أمرين مترتّبين شرعاً كالظهرين مثلا ، إذا أراد المصلّي الاحتياط بالصلاة إلى أربع جهات .
فتارة: يعرف من طريق الاجتهاد أو التقليد أنّ اللازم مثلا هو تقديم محتملات الظهر بجميعها ; بأن يأتي بها أوّلا ثمّ يأتي بمحتملات العصر ثانياً .
- (1) وسائل الشيعة: 4/290، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت: ب63 ، وص125 ب4 ، و ص156 ب10 .
-
(2) العروة الوثقى : 1/6 مسألة 2 .
-
(3) مستمسك العروة الوثقى : 1 / 7 .
(الصفحة 56)
وأُخرى: يشكّ في أ نّه هل يلزم عليه ذلك ، أو يجوز له الإتيان بمحتمل العصر عقيب محتمل الظهر بالنسبة إلى كلّ جهة من الجهات؟ فإذا احتاط في هذه الصورة لأجل تركه الطريقين وأتى بالكيفيّة الأُولى الموافقة للاحتياط لا مجال لدعوى عدم الاجتزاء به ، مستندة إلى عدم كون الكيفيّة معروفة عنده بالاجتهاد أو التقليد .
ضرورة عدم الفرق ـ في كفاية الاحتياط ـ بين الاحتياط في أصل العمل ، وبين الاحتياط في كيفيّته كما هو ظاهر . نعم ، يختصّ ذلك بما إذا كانت الكيفيّة جارياً فيها الاحتياط كما في المثال المفروض ، وإلاّ فلا محيص عن التوسّل بأحد الطريقين .
ويرد على الشرح ـ مضافاً إلى أنّ ظاهر صدر العبارة أنّ الاحتياط من دون معرفة الكيفيّة بأحد الطريقين لا يجوز الاكتفاء به في نظر العقل ، ولو مع العلم بإحراز الاحتياط وتحقّقه ، ونحن لا نتصوّر وجهاً لذلك ـ أ نّه لم يفهم وجه للترقي إلى أنّ عدم المعرفة مانع من حصول الاحتياط ; فإنّ عدم المعرفة مانع عن حصول العلم بالاحتياط لا عن حصول أصله ; لعدم كون العلم بالكيفيّة دخيلا في الذات بوجه .
الأمر الخامس : قال في العروة أيضاً : قد يكون الاحتياط في الفعل ، كما إذا احتمل كون الفعل واجباً وكان قاطعاً بعدم حرمته ، وقد يكون في الترك ، كما إذا احتمل حرمة فعل وكان قاطعاً بعدم وجوبه ، وقد يكون في الجمع بين أمرين مع التكرار ، كما إذا لم يعلم أنّ وظيفته القصر أو التمام(1) .
وفي شرح بعض الأعلام : لا يخفى أنّ حصر المصنّف(رحمه الله) كيفيّة الاحتياط في الصورة المذكورة لا يكون حاصراً لجميع الأقسام ، وذلك لأنّ متعلّق الشكّ
- (1) العروة الوثقى : 1/6 مسألة 3 .
(الصفحة 57)
قد يكون واقعة واحدة ، وقد يكون واقعتين ، فإذا كانت الواقعة واحدة فقد يحتمل وجوبها مع القطع بعدم حرمتها ; لئلاّ يكون من دوران الأمر بين المحذورين ، فالاحتياط حينئذ يكون في الفعل ; سواء كان الوجوب المحتمل استقلاليّاً أم ضمنيّاً ، وقد يحتمل حرمته مع القطع بعدم وجوبه ، فالاحتياط حينئذ في الترك .
وإذا تعدّدت الواقعة فقد يكون الاحتياط في الجمع بين الفعلين من دون تكرار لأصل الواجب ، كما إذا تردّد أمر القراءة في صلاة بين الجهر والإخفات ، فالاحتياط حينئذ يتحقّق بالقراءة مرّتين في صلاة واحدة ، إحداهما جهرية والأُخرى مع الخفوت ; بأن يقصد بذلك تحقّق الواجب بإحداهما ، وأن تكون الاُخرى مستحبّة ; فإنّها من قراءة القرآن في الصلاة ، أو مع التكرار في أصل الواجب ; كما إذا علم إجمالا بوجوب أحدالفعلين; كالقصر والإتمام. وقد يكون الاحتياط في ترك الفعلين معاً ; كما إذا علم بحرمة أحدهما لا بعينه مع العلم بعدم وجوب الآخر ، وقد يكون في فعل أحدالفعلين وترك الآخر ; كما إذا علم إجمالا بوجوب الأوّل أو حرمة الثاني(1).
ويرد عليه ـ مضافاً إلى أ نّه مع إسقاط قيد التكرار يدخل جميع الفروض في العبارة ، ولعلّ ذكره كان للتوضيح بالإضافة إلى بعض الفروض لا للاحتراز ، فتدبّر . وإلى إمكان المناقشة في بعض الأمثلة المذكورة كالقصر والإتمام ، نظراً إلى إمكان دعوى كون الإتمام والإتيان بالصلاة أربع ركعات يوجب تحقّق ما هو المأمور به واقعاً ; سواء كان قصراً أو تماماً ، وذلك لأ نّه على تقدير كونه قصراً لامانع من صحّته تماماً إلاّ إضافة ركعتين وعدم وقوع التسليم في محلّه .
فإذا فرضنا أنّ التسليم ليس من أجزاء الصلاة وكونه مخرجاً والمخرج ليس من
- (1) دروس في فقه الشيعة: 1/32 .
(الصفحة 58)
أجزاء المخرج عنه ، وفرضنا أيضاً أنّ وقوع المنافي قبل التسليم وبعد التشهّد لا يضرّ بصحّة الصلاة كما ربما يحتمل ، فحينئذ يتحقّق المأمور به بالإتيان به تماماً ولو كان في الواقع قصراً ـ : أ نّ حصره أيضاً لا يكون حاصراً لجميع الأقسام ; لأ نّه قد يكون الاحتياط في اختيار أحد الفعلين ، كما في موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، الذي يحكم العقل فيه بالاحتياط والأخذ بالمعيّن ; فإنّ الاحتياط هنا ليس في أصل الفعل بل في اختيار الفعل المعيّن ، كما هو واضح .
وأمّا ما في المستمسك من أنّ الجمع يمكن أن يكون داخلا في الأوّل ، فتأمّل(1) .
ففيه : أنّ المراد بالأمرين في عبارة المتن ليس خصوص الفعلين حتى يكون الجمع داخلا في الأوّل ، بل المراد هو الأعمّ منه ومن التركين ومن فعل وترك كما عرفت ، ولعلّه لأجل هذا أمر بالتأمّل .
- (1) مستمسك العروة الوثقى : 1 / 8 .