(الصفحة 65)
أبو عبدالله(عليه السلام) قاعداً في حلقة ربيعة الرأي ، فجاء أعرابيّ ، فسأل ربيعة الرأي عن مسألة فأجابه ، فلمّا سكت قال له الأعرابي : أهو في عنقك؟ فسكت عنه ربيعة ولم يردّ عليه شيئاً ، فأعاد المسألة عليه فأجابه بمثل ذلك ، فقال له الأعرابيّ : أهو في عنقك؟ فسكت ربيعة ، فقال أبو عبدالله(عليه السلام) : هو في عنقه . قال : أو لم يقل : وكلّ مفت ضامن؟!(1)
فإنّ تعبير الأعرابي وسؤاله بقوله : «أهو في عنقك ؟» وتقريره(عليه السلام) بقوله : «هو في عنقه» ظاهر في إضافة العنق إلى المجتهد المفتي ، وهو لا يلائم إلاّ مع كون المستفتي جاعلا أعماله في عنق المفتي ، كما أنّ قوله(عليه السلام) في الذيل : «كلّ مفت ضامن» مشعر بأنّ التقليد هو العمل ; لأ نّه قبل تحقّق العمل ليس هنا شيء مستند إلى المفتي حتى يكون هو ضامناً له ، كما هو غير خفيّ .
ومثل الروايات المستفيضة الدّالّة على أنّ من أفتى بغير علم فعليه وزر من عمل به(2) ; فإنّه وإن لم يقع التعبير بالتقليد فيها ولا دلالة فيها على انطباق عنوان التقليد على نفس العمل ، إلاّ أنّ إشعارها بل دلالتها على أ نّه ليس هنا عدا فتوى المفتي شيء سوى عمل المستفتي ممّا لا مجال للارتياب فيه ، كما هو ظاهر .
ثالثها : أ نّه لم يرد عنوان التقليد في شيء من الأدلّة الدالّة على حجّية فتوى المجتهد وجواز رجوع العامي إليه إلاّ في رواية ضعيفة طويلة محكيّة عن التفسير المنسوب إلى مولانا الإمام العسكري ـ صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه وعلى إبنه ـ الواردة في الفرق بين تقليد اليهود علماءهم وتقليد عوام الشيعة لعلمائهم ،
- (1) الكافي : 7/409 ح1 ، تهذيب الأحكام : 6/223 ح530، وعنهما وسائل الشيعة: 27/220 ، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي ب7 ح2 .
-
(2) وسائل الشيعة : 27 / 20 ـ 31 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب4 .
(الصفحة 66)
المشتملة على قوله(عليه السلام) : فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه ، حافظاً لدينه ، مخالفاً على هواه ، مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه(1) . ولا يجوز الاعتماد على هذه الرواية في الحكم بوجوب الالتزام نظراً إلى أ نّه معنى التقليد ، بل اللازم ملاحظة سائر الأدلّة الواردة في هذا الباب .
فنقول :لا ينبغي الإشكال في أنّ حكم العقل بجواز التقليد إنّما هو لأجل تحقّق الامتثال بالنسبة إلى التكاليف المعلومة بالإجمال ، وكون الاستناد إلى العالم أحد الطرق ، ففي الحقيقة الواجب بحكم العقل هو الامتثال وتحقّق موافقة التكاليف ، ولا حكم له بالنظر إلى الالتزام أصلا ، كما هو واضح لا يخفى .
وأمّا بناء العقلاء على رجوع الجاهل إلى العالم ، فغير خفيّ أنّ سيرة العقلاء إنّما استقرّت على الرجوع العملي ، وتطبيق العمل على قول العالم العارف والالتزام القلبي سيّما مع تجرّده عن العمل الخارجي بعيد عن مقاصد العقلاء .
وأمّا الأدلّة اللفظية من الآيات والروايات ، فالنظر في مفادها والتأمّل في مدلولها ـ بناءً على دلالتها على جواز التقليد ـ يقتضي عدم كونها ناظرة إلاّ إلى مقام العمل ; فإنّ المراد من الحذر الواجب في آية النفر(2) مثلا ليس إلاّ هو الحذر في مقام العمل ، وترتيب الأثر على قول المنذر بالإتيان بما أفتى بوجوبه وترك ما حكم بحرمته .
ضرورة أنّ الحذر القلبي والالتزام النفساني لا يكون غاية للإنذار الواجب ،
- (1) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري(عليه السلام) : 299 ـ 300 ح143 ، وعنه وسائل الشية: 27/131، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب10 ح20 .
-
(2) سورة التوبة : 9 / 122 .
(الصفحة 67)
وكذا سائر الآيات والأدلّة على ما سيجيء(1) ; فإنّه من الواضح أنّ المراد من
الجميع هو الاستناد في مقام العمل إلى من له الحجّة وتطبيق العمل على طبق ما
يقول به .
هذا ، مضافاً إلى أ نّه أيّ فرق بين المجتهد والعامّي من هذه الجهة ، فكما أ نّه لايجب على المجتهد بعد قيام الأمارة على وجوب صلاة الجمعة مثلا ، إلاّ الإتيان بها وتطبيق العمل على طبق الأمارة ، ولا يلزم توسيط الالتزام بوجه ، كذلك لا يجب على المقلّد بعد قيام الأمارة ـ وهي فتوى المجتهد ورأي العارف ـ إلاّ ذلك ، أي تطبيق العمل عليها والإتيان بصلاة الجمعة خارجاً ، فالتفكيك بينهما من حيث لزوم الالتزام على المقلّد ووقوعه وسطاً بين الفتوى وعمل المقلّد ممّا لا وجه له أصلا .
وإلى أنّ مورد التقليد كما عرفت هي الأحكام العمليّة التي متعلّقها نفس
العمل ، بحيث لو كانت معلومة بالتفصيل لما كان الواجب إلاّ الامتثال والعمل على طبقها ، من دون أن يكون هنا تكليف بالإضافة إلى القلب والالتزام ، فالمناسب للتقليد في خصوص هذه الأحكام مع عدم كونها ناظرة إلاّ إلى مقام العمل هو كون التقليد أيضاً راجعاً إلى نفس هذا المقام ، من دون أن يكون هنا شيء
مسمّى بالالتزام .
فانقدح من جميع ما ذكرنا أنّ التقليد كما أفاده الماتن ـ دام ظلّه ـ هو العمل مع الاستناد ، ولا مدخلية للالتزام في شيء من الأحكام .
(الصفحة 68)في أدلّة جواز التقليد
الجهة الثالثة : فيما يدلّ على جواز التقليد ورجوع الجاهل إلى العالم في باب التكاليف والأحكام ، وفي هذه الجهة تارة : يبحث عمّا هو مستند العامّي في التقليد وحامل له عليه ، وبعبارة أُخرى : ما يكون محرّكاً للجاهل على أن يرجع إلى العالم بعد علمه بثبوت التكاليف إجمالا ، وأُخرى : فيما هو مقتضى الأدلّة ممّا يستنبطه المجتهد منها في هذا الباب .
أمّامن الحيثيّة الاُولى : فمن الواضح أنّ ما يمكن أن يكون مستنداً للعامي وحاملا له على التقليد ليس إلاّ حكم عقله بذلك ، قال المحقّق الخراساني(قدس سره) في الكفاية : إنّ جواز التقليد ورجوع الجاهل إلى العالم في الجملة يكون بديهيّاً جبلّياً فطرياً لا يحتاج إلى دليل ، وإلاّ لزم سدّ باب العلم به على العامي مطلقاً غالباً ; لعجزه عن معرفة ما دلّ عليه كتاباً وسنّة ، ولا يجوز التقليد فيه أيضاً ، وإلاّ لدار أو تسلسل(1) .
وهذا الكلام وإن نوقش فيه بمنع كون هذا الحكم فطرياً ، نظراً إلى أنّ القضايا الفطريّة ما كانت قياساتها معها ككون الأربعة زوجاً لانقسامها إلى متساويين ، وما هو فطريّ بهذا المعنى إنّما هو كون العلم نوراً لا لزوم رفع الجهل بالعلم فضلا عن التقليد ، وبمنع كونه جبلّياً ; فإنّ ما هو جبلّي في الاصطلاح إنّما هو شوق النفس إلى كمالها لا مثل المقام(2) ، إلاّ أنّ وضوح حكم العقل بذلك وبداهة إدراكه جواز الرجوع ممّا لا تنبغي المناقشة فيه أصلا .
وأمّا من الحيثيّة الثانية : فالدليل عليه مضافاً إلى حكم العقل المذكور أُمور :
- (1) كفاية الاُصول : 539 .
-
(2) الناقش هو المحقّق الإصفهاني في بحوث في الاُصول، الاجتهاد والتقليد: 16.
(الصفحة 69)
أحدها : بناء العقلاء على رجوع الجاهل في كلّ صنعة إلى العالم بها ، ولا إشكال في أصل ثبوت هذا البناء وتحقّق هذه السيرة المستمرّة العمليّة ، إنّما الإشكال في أنّ بناء العقلاء على شيء لا يكون بمجرّده دليلا على ذلك الشيء ، وجريانه في محيط الشرع ما لم يكن مورداً لإمضاء الشارع وتصويبه المستكشف نوعاً من عدم الردع عنه ، مع أ نّه قد يقال في المقام : إنّ بناء العقلاء على رجوع الجاهل بالأحكام الشرعيّة إلى المجتهد المستنبط والعارف بها ، وبعبارة أُخرى : بناء العقلاء على التقليد الاصطلاحي أمر حادث بعد الغيبة الكبرى ، ولم يكن ثابتاً في زمان النبيّ والائمّة ـ صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين ـ بوجه حتى يكون عدم الردع عنه كاشفاً عن كونه مرضيّاً للشارع ، كما هو الشأن في جميع الأُمور التي كان بناء العقلاء عليها حادثاً في الأزمنة المتأخّرة ; فإنّه لا يكون عدم ردعه دليلا على إمضائه ; لعدم ثبوته في زمانه كما هو واضح .
وأنت خبير بما في هذا الإشكال من النظر والمنع :
أمّا أوّلا : فلأنّ أصل بناء العقلاء على رجوع الجاهل إلى العالم العارف في أُمورهم الدنيويّة لا يكون أمراً حادثاً في الزمان المتأخّر ; فإنّ العقلاء بما هم عقلاء لا يزال يرجع عوامهم إلى علمائهم في كلّ فنّ وصنعة ، بحيث صار هذا مرتكزاً لهم ومبنى جميع اُمورهم ، فإذا لم يردع الشارع عن إعمال هذه الطريقة ، ولم يمنع عن إجرائها في محيط الشريعة يكشف ذلك عن إمضائه وتبعيّته عن هذه السيرة ، ولا حاجة في دلالة عدم الردع على الإمضاء على إجرائها أوّلا في محيط الشرع ومصادفته مع عدم الردع .
ألا ترى أ نّه لو قيل : إنّ ظاهر الكتاب حجّة لثبوت بناء العقلاء على العمل بظواهر كلمات المتكلّمين في فهم مقاصدهم وكشف مراداتهم ، والشارع لم يردع عن