(الصفحة 87)
إنّي أقعد في المجلس فيجيء الرجل فيسألني عن الشيء ، فإذا عرفته بالخلاف لكم أخبرته بما يفعلون ، ويجيء الرجل أعرفه بمودّتكم وحبّكم فاُخبره بما جاء عنكم ، ويجيء الرجل لا أعرفه ولا أدري من هو فأقول : جاء عن فلان كذا وجاء عن فلان كذا ، فاُدخل قولكم فيما بين ذلك ، فقال لي : اصنع كذا فإنّي كذا أصنع(1) .
ومنها : رواية عليّ بن سويد قال : كتب إليّ أبو الحسن(عليه السلام) وهو في السجن : وأمّا ماذكرت يا علي ممّن تأخذ معالم دينك، لاتأخذنّ معالم دينك عن غير شيعتنا ; فإنّك إن تعدّيتهم أخذت دينك عن الخائنين ، الذين خانوا الله ورسوله وخانوا أماناتهم ، إنّهم ائتمنوا على كتاب الله فحرّفوه وبدّلوه ، الحديث(2) .
ومنها : رواية أحمد بن حاتم بن ماهويه قال : كتبت إليه ـ يعني أبا الحسن الثالث(عليه السلام)ـ أسأله : عمّن آخذ معالم ديني ؟ وكتب أخوه أيضاً بذلك ، فكتب إليهما : فهمت ما ذكرتما فاصمدا في دينكما على كلّ مسنّ في حبّنا ، وكلّ كثير القدم في أمرنا ، فإنّهما كافوكما إن شاء الله تعالى(3) .
ومنها : مقبولة عمر بن حنظلة المعروفة ، وغيرها من الروايات الواردة في علاج الخبرين المتعارضين ، التي جمعها في الوسائل في الباب التاسع من أبواب صفات القاضي من كتاب القضاء ، ودلالتها على المقام لأجل أنّ تشخيص التعارض
- (1) اختيار معرفة الرجال ، المعروف بـ «رجال الكشي» : 252 رقم 470 ، وعنه وسائل الشيعة : 27 / 148 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب11 ح36 .
-
(2) اختيار معرفة الرجال ، المعروف بـ «رجال الكشي» : 3 رقم 4 ، وعنه وسائل الشيعة : 27 / 150 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب11 ح42 .
-
(3) اختيار معرفة الرجال ، المعروف بـ «رجال الكشي» : 4 رقم7 ، وعنه وسائل الشيعة : 27 / 151 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب11 ح45 .
(الصفحة 88)
والمرجّحات يتوقّف على الاجتهاد ، وبلوغ الراوي إلى هذا المقام الشامخ والمرتبة الجليلة ، كما هو ظاهر .
ومنها : رواية أبي عبيدة قال : قال أبو جعفر(عليه السلام): من أفتى الناس بغير علم ولاهدى من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، ولحقه وزر من عمل بفتياه(1) . وغيرها من الروايات الواردة في النهي عن الفتوى بغير علم ، التي جمعها في الوسائل في الباب الرابع من أبواب صفات القاضي .
ومنها رواية زرارة المعروفة الواردة في المسح على الرأس ، المشتملة على سؤاله عن الإمام(عليه السلام) ، وقوله : من أين علمت وقلت : إنّ المسح ببعض الرأس(2) ؟ فهذا السؤال بنفسه وكذا الجواب بقوله(عليه السلام) : «لمكان الباء» دليل على جواز الاجتهاد ، وأ نّه للراوي الفقيه السؤال عن مدرك الحكم ومستند الرأي ، والإمام(عليه السلام) قرّره على ذلك ـ ولم ينكر عليه ـ بأنّ وظيفة مثلك أخذ الفتوى ونشرها ، ولا مجال لك للسؤال عن الدليل .
ومنها : رواية عبدالأعلى المعروفة أيضاً الدالّة على المسح على المرارة ، وأنّ مثل مورد السؤال يعرف حكمه من كتاب الله : {وَ مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَج}(3) ،(4) من دون حاجة إلى السؤال .
ومنها : غير ذلك من الروايات التي تظهر للمتتبع . وقد انقدح من ذلك أ نّه
- (1) الكافي : 7 / 409 ح2 ، وعنه وسائل الشيعة : 27 / 20 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب4 ح1 .
-
(2) الفقيه : 1 / 56 ح212 ، وعنه وسائل الشيعة : 1 / 412 ، كتاب الطهارة ، أبواب الوضوء ب23 ح1 .
-
(3) سورة الحجّ : 22 / 78 .
-
(4) التهذيب : 1 / 363 ح1097 ، الاستبصار : 1 / 77 ح240 ، الكافي: 3 / 33 ح 1، وعنها وسائل الشيعة : 1 / 464 ، كتاب الطهارة ، أبواب الوضوء ب39 ح5 .
(الصفحة 89)
بملاحظة الروايات لا يبقى مجال للإشكال في حجّية فتوى المجتهد وجواز الرجوع إليه .
بقي الكلام في هذه المسألة الثانية في الاستدراك الذي ذكره سيّدنا الاُستاذ العلاّمة الماتن ـ دام ظلّه ـ بقوله : «نعم ، ما يكون مصحّحاً للعمل هو صدوره عن حجّة ـ كفتوى الفقيه ـ وإن لم يصدق عليه عنوان التقليد» . والغرض منه دفع ما ربما يمكن أن يتوهّم من أ نّه لا يكاد يمكن الجمع بين أمرين : أحدهما : تفسير التقليد وتعريفه بنفس العمل . غاية الأمر مع الاستناد إلى فتوى الفقيه ، والآخر : ما هو المعروف من أنّ المصحّح لعمل العامّي غير المحتاط هو التقليد ، فإذا كان التقليد هو نفس العمل فكيف يكون المصحّح للعمل أيضاً هو نفسه ؟ ضرورة أنّ المصحّح لابدّ وأن يكون مغايراً لنفس العمل ، كما هو ظاهر . وقد عرفت سابقاً(1) أنّ الوجه في العدول عن تفسير التقليد بالعمل ما اشتهر بينهم من لزوم مسبوقيّة العمل بالتقليد ; لأ نّه يكون مصحّحاً له وموجباً لاتّصافه بعدم البطلان .
والجواب عن هذا التوهّم ما أشار إليه الماتن ـ دام ظلّه ـ من أ نّه لم يقم دليل على اعتبار عنوان التقليد في صحّة العمل وكونه مصحّحاً له حتى ينافي ذلك مع تفسيره بنفس العمل ، بل المصحّح للعمل هو صدوره عن حجّة وإستناده إليها وإن لم يكن هذا الاستناد منطبقاً عليه عنوان التقليد ، فكما أنّ المصحّح لعمل المجتهد هو صدوره عن حجّة ، كخبر الواحد وغيره من الأمارات المعتبرة ، فكذلك المصحّح لعمل العامّي هو صدوره عن حجّة واستناده إليها ، كفتوى الفقيه ، فمسبوقيّة العمل
بالفتوى واستناده إليها هو الملاك ; لاتّصافه بالصحّة والخروج عن البطلان وإن
(الصفحة 90)
لم يكن التقليد عبارة عن الاستناد ، بل هو العمل مستنداً إلى الحجّة .
فالجمع بين الأمرين ممّا لا مانع منه ; لعدم ثبوت المنافاة بوجه ، فيمكن تفسير التقليد بنفس العمل والحكم بكون المصحّح له أمراً مغايراً له ، وهو الاستناد وكون
صدوره ناشئاً عن الحجّة مسبوقاً بها ، ففي الحقيقة يرجع هذا الكلام إلى ما ذكرنا سابقاً(1) من أ نّه لم يقم دليل على لزوم مسبوقيّة العمل بالتقليد ، وأ نّه يعتبر تحقّق هذا العنوان قبل العمل ، بل كما أفاده الماتن ـ دام ظلّه ـ وسيأتي في بعض المسائل الآتية ـ إن شاء الله تعالى ـ لا دليل على اعتبار الاستناد أيضاً في اتّصاف العمل بالصحّة ، بل مجرّد الانطباق ومطابقة العمل لفتوى المجتهد كاف في الحكم بالصحّة ، وسيأتي توضيحه(2) فانتظر .
- (1) في ص63 .
-
(2) في ص262 ـ 269 مسألة20 .
(الصفحة 91)[شرائط مرجع التقليد]
مسألة3: يجب أن يكون المرجع للتقليد عالماً مجتهداً عادلا ورعاً في دين الله، بل غير مكبّ على الدنيا، ولا حريصاً عليها وعلى تحصيلها جاهاً ومالا على الأحوط. وفي الحديث: من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه ، فللعوام أن يقّلدوه 1
1 ـ أقول : كما أنّ البحث في أصل مسألة التقليد ورجوع العامّي إلى المجتهد تارة :يقع فيما هو المستند للعامّي والمحرّك له على الرجوع ، وأُخرى : فيما يستنبطه المجتهد من الأدلّة ، كذلك البحث في شرائط المجتهد الذي يجب الرجوع إليه لأخذ الفتوى والعمل على طبقها ، تارة : يقع فيما يحكم به عقل العامي الذي لا مستند له إلاّهو ولا محرّك له إلاّ إدراكه ، وأُخرى : فيما يستفاد من الأدلّة الواردة في هذا الباب وما يستنبطه المجتهد منها .
أمّا من الجهة الأُولى : فقد عرفت أ نّه لا يمكن أن يجري التقليد في أصل مسألة التقليد وجوازه(1) . وكذا في شؤونه وشرائطه ; للزوم الدور أو التسلسل ، فلابدّ أن يرجع العامي إلى عقله ويتبع ما يقتضيه إدراكه من أصل التقليد وفروعه ، فإذا رجع إلى من يكون جامعاً للشرائط المعتبرة أو المحتملة عنده يكون اللازم حينئذ تطبيق العمل على فتواه ونظره ، ورعاية رأيه في الخصوصيّات المعتبرة في المرجعيّة للفتوى ، كما هو ظاهر .
وأمّا من الجهة الثانية : فنقول : قد اشترطوا في المقلَّد الذي يرجع إليه في التقليد