(الصفحة 104)
وقد أُورد على الاستدلال بها لاعتبار الرجولية تارة بأنّ ذكر «الرجل» لا دلالة فيه على دخالته واعتباره ; لأنّ ذكره إمّا يكون لأجل كونه أحد المصاديق ، كما في قوله: «رجل شك بين الثلاث والأربع» وأشباهه ، وإمّا لأجل أنّ الغالب المتعارف في القضاء هو الرجوليّة ، بل لم تستعهد قضاوة النساء ولو في مورد واحد ، فأخذ عنوان الرجوليّة من باب الغلبة لا من جهة التعبّد وإفادة الحصر ، وأُخرى بأنّ الرواية واردة في باب القضاء ، ولم يقم دليل على ثبوت الملازمة بينه ، وبين باب الإفتاء فضلا عن الأولويّة ، كما لا يخفى(1) .
ويمكن الجواب عن الإيراد الأوّل بأنّ ذكر «الرجل» في مقام إلقاء الضابطة الكليّة وإفادة القاعدة العامّة ظاهر في الاختصاص والدخالة ، واحتمال كونه أحد المصاديق ، أو كون ذكره من باب الغلبة لا مجال له مع ظهور القيد في الاحتراز ، كما هو الأصل في باب القيود المأخوذة في الموضوعات .
وبالجملة مع احتمال مدخليّة القيد لا وجه لرفع اليد عن الظهور إلاّ أن يقوم دليل على العدم ، كما في المثال المذكور .
وأمّا الإيراد الثاني: فالظّاهر وروده ; فإنّ اعتبار الرجوليّة في القاضي الذي يرجع إليه المترافعان ـ ولازمه تحقّق التشافه ـ لا دلالة فيه على اعتبارها في المرجع الذي لا يكون المهم إلاّ آراؤه ونظراته ، وربما تكون مجموعة في رسالة منتشرة لايحتاج المقلِّد إلى الرجوع إلى شخصه طيلة حياته ، مع أنّ القاضي لابدّ وأن يكون رجلا حتى يمكن له حفظ التعادل ، ولا يقع متأثّراً عن دعوى المدّعي أو إنكار
- (1) المورد هو المحقّق الإصفهاني في بحوث في الاُصول، الاجتهاد والتقليد: 68، والسيّد الخوئي في التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد و التقليد: 225.
(الصفحة 105)
المنكر ، والنساء بعيدة عن المتانة وعدم التأثّر بمراحل ، وأين هذا من المرجعيّة التي لا يعتبر فيها شيء من ذلك ، فقيام الدليل على اعتبار الرجولية في القاضي لا يلازم الدلالة على اعتبارها في باب الإفتاء بوجه .
ثانيها : مقبولة عمر بن حنظلة المعروفة . وفيها : ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا(1) .
ويرد على الاستدلال بها ـ مضافاً إلى ما عرفت من عدم الملازمة بين باب القضاء وباب الإفتاء ـ عدم الدلالة على اعتبار الرجولية في باب القضاء أيضاً ; فإنّ قوله(عليه السلام) : «من كان» مطلق لا اختصاص له بالرجال ، وضمير الجمع المذكور لايفيد ذلك بوجه ; لأنّ النظر إنّما هو إلى اعتبار المماثلة في الإيمان والاعتراف بالولاية والإمامة ، كما هو غير خفيّ .
ثالثها : قوله(عليه السلام) في رواية الاحتجاج المتقدّمة(2) : «فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه» الخ ، فإن فرض الموضوع الفقيه المذكور باعتبار الجمع يمكن أن يقال بدلالته على الاختصاص ، وعدم سعة دائرة التقليد بنحو يشمل النساء أيضاً ، فتأمّل .
رابعها : وهو العمدة، الأولويّة القطعيّة للمقام بالإضافة إلى باب الإمامة للجماعة، الذي لم يرض الشارع فيه بإمامة المرأة للرجال في صلاة الجماعة ; فإنّه إذا لم يجز للمرأة التصدّي لمنصب الإمامة مع أ نّه من المناصب التي لا يبلغ من الأهمّيّة والعظمة منصب المرجعيّة والزعامة، فعدم جوازتصدّيهالذلك المنصب بطريق أولى .
- (1) ستأتي في ص 110 ـ 111 .
-
(2) في ص82 ـ 83.
(الصفحة 106)
نعم ، نتيجة هذا الدليل عدم جواز رجوع الرجال إليها في أخذ الفتوى والعمل عليها ، وأمّا عدم جواز رجوع النساء أيضاً مع أ نّه يجوز لها الإمامة للنساء فلابدّ من الاستدلال له بعدم القول بالفصل في المقام قطعاً ; ضرورة أ نّه لم يحتمل أحد الفرق في المقام بين رجوع الرجال ورجوع النساء ، كما لا يخفى .
فانقدح من جميع ذلك اعتبار الرجوليّة في المرجعيّة ، خصوصاً مع وضوح مذاق الشارع بالإضافة إلى هذه الطائفة التي لا تكون الوظيفة المرغوبة منهنّ إلاّ التستّر والجهات الراجعة إلى الأُمور البيتيّة الداخلية ، لا الاجتماعية المطلوبة من الرجال .
السادس : الحرّيّة ، وقد حكي عن جماعة ، منهم : الشهيد الثاني(قدس سره) اعتبارها(1) ، بل نسب إلى المشهور(2) ، ونسبه صاحب العروة إلى القيل مشعراً بتردّده فيه ، بل ميله إلى العدم (3)، وهو الأقوى ; لعدم ثبوت الردع عن السيرة العقلائيّة الجارية على رجوع الجاهل إلى العالم ، بلا فرق بين أن يكون العالم حرّاً أو مملوكاً .
وقد مرّ مراراً أ نّها هي الأساس والعمدة في باب التقليد ورجوع العامّي إلى المجتهد في الأحكام الشرعيّة(4) ، ومجرّد كون المملوك غير قادر على شيء كما وصف الله ـ تبارك وتعالى ـ إيّاه بقوله عزّ من قائل : {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَىْء}(5) لا دلالة فيه على عدم صلاحيّته للمرجعيّة ; فإنّ عدم القدرة مرجعه إلى عدم الاستقلال وافتقار أعماله وأفعاله إلى رضا المولى وإذنه أو إجازته ،
- (1) الروضة البهية : 3 / 62 .
-
(2) مسالك الأفهام : 13/330 ، رياض المسائل : 9/244 .
-
(3) العروة الوثقى : 1/9 مسألة 22 .
-
(4) في ص68 ـ 69 ، 71 ، 92 ، 98 ، 103 .
-
(5) سورة النحل : 16/75 .
(الصفحة 107)
وعدم الاستقلال لا يلازم عدم الصلاحيّة لها ، كما أ نّه ليس منقصة موجبة للسقوط عن الوقار والأنظار ; لعدم مدخلية الرقيّة في تنقيص الجهات الكماليّة الدنيويّة أو الاُخرويّة ، كما هو ظاهر .
السابع : كونه مجتهداً مطلقاً ، لا خفاء في أنّ المجتهد المتجزّئ ـ بناءً على إمكان التجزّئ في الاجتهاد وجواز حصول مرتبة من ملكة الاستنباط بحيث يقتدر بها على استنباط بعض المسائل كما هو الحقّ ـ يجوز له بل يجب عليه أن يعمل على طبق آرائه ونظراته ، ولا يجوز له الرجوع فيما استنبطه أو فيما يقدر على استنباطه من المسائل ـ على الخلاف المتقدّم(1) ـ إلى الغير ; لعدم وجود ملاك التقليد فيه ; فإنّ مناطه رجوع الجاهل إلى العالم لا العالم إلى مثله ، خصوصاً مع اختلافهما في النظر واعتقاد خطأ الغير واشتباهه .
وأمّا جواز رجوع العامّي إلى المتجزّئ في خصوص ما استنبطه من الأحكام فمحلّ إشكال ، وقد صرّح صاحب العروة(قدس سره) بعدم الجواز(2) ، وهو ظاهر سيّدنا العلاّمة الاُستاذ الماتن دام ظلّه ; فإنّ ظاهر اعتبار كونه مجتهداً هو اعتبار كونه مجتهداً مطلقاً ، ولكنّه لابدّ في هذا الأمر ـ كسائر الأُمور المتقدّمة ـ من إقامة الدليل على ثبوت الردع عن السيرة العقلائيّة في محيط الشريعة بالإضافة إلى هذه الخصوصيّة ، ومع عدم ثبوته يكون مقتضى السيرة عدم الفرق بين المطلق والمتجزّئ ; ضرورة أنّ العقلاء يرجع جاهلهم في شيء إلى العالم بذلك الشيء ، ولا يعتبرون العلم بغيره أصلا ، بل ربما يرجّحون المتجزّئ على غيره فيما إذا كان
- (1) في ص24 ـ 27 .
-
(2) العروة الوثقى : 1/9 مسألة 22 .
(الصفحة 108)
أعلم فيما استنبطه من المطلق ; لممارسته فيه وصرف عمره في الجهات والخصوصيّات الراجعة إليه .
وبالجملة : لا إشكال في عدم الفرق من جهة السيرة بين المطلق والمتجزّئ ، فلابدّ للقائل بالفرق من إقامة دليل على الردع .
فنقول : ما يمكن أن يكون رادعاً أُمور :
الأوّل : آية النفر المتقدّمة(1) الدالّة على اعتبار إنذار «الفقيه» وترتيب الأثر على قوله ورأيه .
وفيه : ـ بعد الغضّ عن عدم دلالة الآية على جواز التقليد بالكيفيّة التي هي محلّ البحث ، كما أسلفنا فيه الكلام مفصّلا(2) ـ :
أوّلا : أنّ غاية مفاد الآية حجّية قول الفقيه ، ولا دلالة لها على حصر الحجيّة فيه حتى تصلح للردع عن السيرة ، ومجرّد إثبات الحجيّة لرأي الفقيه لا ينافي ثبوتها لرأي غيره من المتجزّئ الذي استنبط واحداً أو اثنين من الأحكام الإلهيّة إلاّ إذا استفيد الانحصار ، والآية بعيدة عن إفادته .
وثانياً : أنّ المراد من «الفقيه» المذكور في الآية ليس إلاّ العارف بكثير من المسائل الفقهيّة ، لا خصوص المجتهد المطلق الذي يكون له ملكة استنباط جميع المسائل . وبعبارة أُخرى : النسبة بين عنوان «الفقيه» وعنوان «المجتهد المطلق» عموم وخصوص من وجه ; ضرورة أ نّه ربما لا يكون الفقيه مجتهداً مطلقاً ، كما فيما إذا لم تكن له تلك الملكة ، وربما لا يكون المجتهد المطلق فقيهاً ، كما فيما إذا لم يتصدّ المطلق للاستنباط أصلا ، وإن كانت الملكة حاصلة له .