(الصفحة 109)
ودعوى أنّ الملكة تتوقّف على الاستنباط فكيف يمكن حصولها بدونه؟ مدفوعة بأنّ الاستنباط يتوقّف على الملكة ، فلو كانت الملكة متوقّفة عليه لدار ، من دون فرق في هذه الجهة بين المطلق والمتجزّئ ، فكما أنّ الملكة في الثاني تكون متقدّمة على الاستنباط ، فكذلك في الأوّل ، وعليه : فلا دلالة للآية على اعتبار الاجتهاد المطلق بوجه .
الثاني : آية السؤال المتقدّمة(1) أيضاً ، ودلالتها على وجوب السؤال عن خصوص أهل الذكر ، وإن كانت ظاهرة باعتبار ظهور الوجوب في الوجوب التعييني عند دوران الأمر بينه وبين التخييري ، كما حقّق في محلّه من الاُصول(2) ، إلاّ أ نّه يرد على الاستدلال بها تارة : عدم دلالتها على حجيّة فتوى الفقيه ورأي المجتهد بوجه ، لا بلحاظ سياقها الظاهر في كون المراد بأهل الكتاب هم علماء اليهود والنصارى ، ولا بلحاظ ما ورد في تفسيرها من كون المراد به الأئـمّة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين(3) . واُخرى : عدم ملازمة الأهليّة للذكر للاجتهاد المطلق ; لما بيّنا من أنّ النسبة بين العنوانين عموم من وجه .
الثالث : رواية الاحتجاج المتقدّمة(4) المشتملة على قوله(عليه السلام) : «فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه ، حافظاً لدينه الخ» . وقد مرّ الكلام في سندها وما يتعلّق بالتفسير المنسوب إلى العسكري(عليه السلام)(5). وأمّا دلالتها ، فربما يقال : إنّ دلالتها على
- (1) في ص 77 .
-
(2) اُصول فقه شيعه: 3/420 ـ 434.
-
(3) الكافي : 1 / 210 ، باب أنّ أهل الذكر . . . هم الأئمّة(عليهم السلام) .
-
(4) في ص82 ـ 83 .
-
(5) في ص99 ـ 101 .
(الصفحة 110)
الحصر مورد المناقشة ; لأنّ الرواية ليست بصدد بيان أنّ المقلَّد ـ بالفتح ـ يعتبر أن يكون فقيهاً ، وإنّما هي بصدد بيان الفارق بين علماء اليهود وعلمائنا ، وعوامهم وعوامنا ، وأنّ عوامهم مع أنّهم كانوا يعرفون علماءهم بأنواع الفسق والفجور ، والتفتوا إلى أنّ من فعل ذلك فهو فاسق لا يجوز تقليده واتّباعه ، قد قلّدوهم واتّبعوا آراءهم ، ولذلك ذمّهم الله سبحانه . وأمّا عوامنا فلا يكونون مثلهم إلاّ إذا عرفوا من علمائهم الفسق الظاهر ، ومع ذلك لم يرفعوا يدهم عن تقليدهم ، فهم أيضاً مثل عوام اليهود ، فالرواية بصدد بيان الفارق من هذه الجهة وليست بصدد بيان اعتبار الفقاهة بوجه .
والجواب عن هذا الكلام ما ذكرنا سابقاً(1) من أنّ اشتمال الرواية على بيان قصّة علماء اليهود وعوامهم ، والفرق بين عوامنا وعوامهم لا يلازم عدم كون ذيلها متعرّضاً لبيان ضابطة كلّيّة وقاعدة عامّة لمن يجوز الرجوع إليه وتقليده في المسائل . والظاهر كونه مسوقاً لذلك وأ نّه بصدد بيان القاعدة حتى تكون هي المرجع في الباب ، ومن الواضح أنّ أخذ الفقاهة في الموضوع ظاهر في الخصوصيّة والمدخليّة ، وأنّه لا يجوز تقليد غير الفقيه والرجوع إليه في آرائه .
نعم ، يرد على الاستدلال بها ما ذكرنا في آية النفر من عدم ملازمة الفقاهة للاجتهاد المطلق ، وكون النسبة بين العنوانين عموماً من وجه .
الرابع : مقبولة عمر بن حنظلة المتقدّمة (2)، المشتلمة على قوله(عليه السلام) : ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا
- (1) في ص101 ـ 102 .
-
(2) تقدّمت في ص96 و 105 .
(الصفحة 111)
فليرضوا به حكماً(1) ; فإنّ المصدر المضاف وكذا الجمع المضاف يفيدان العموم ،
فاللازم حصول الملكة المطلقة التي يقتدر بها على استنباط جميع الأحكام من أدلّتها ، ودلالتها على الحصرواضحة بعد كونها بصدد بيان القيود المعتبرة فيمن يجوز أن يرضوا به حكماً.
ولكنّه يرد على الاستدلال بها ـ مع الغضّ عن الكلام في سندها ، وعن عدم دلالتها على حكم المقام; لورودها في باب القضاء الذي لا ملازمة بينه وبين باب الإفتاء ـ : أ نّه لا مجال لحمل الرواية على كون المراد بها هو معرفة جميع الأحكام والنظر في جميع المحلّلات والمحرّمات ; ضرورة امتناع المعرفة الفعليّة والنظر الفعلي في جميعها ، وحمل المعرفة والنظر على قوّة المعرفة وملكة النظر ـ مع أ نّه مناف لظاهر هذين اللفظين ـ مخالف لقوله : «روى حديثنا» ; فإنّه من الواضح أ نّه ليس المراد منه إلاّ الرواية الفعليّة ، لا الصلاحيّة للرواية والقابليّة لها ، كما لا يخفى .
فاللازم ـ بعد عدم كون المراد به هو رواية الحديث ولو واحداً ، والنظر في الحلال والحرام كذلك ـ حمل الرواية على كون المراد هو الذي ينطبق عليه عُرفاً أ نّه راوي أحاديث أهل البيت(عليهم السلام) والناظر في حلالهم وحرامهم، والعارف بأحكامهم ، وهو يصدق بالنظر في جملة معتدّ بها من المسائل ومعرفة شيء كثير من أحكامهم ، وعليه : فلا دلالة لهذه الرواية أيضاً على اعتبار الاجتهاد المطلق أصلا .
ثمّ إنّه ربما يقال بأ نّه يعارض المقبولة في نفس موردها حسنة أبي خديجة
المعروفة المتقدّمة أيضاً ، المشتملة على قول أبي عبدالله جعفر بن محمّد الصادق(عليهما السلام) : إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور ، ولكن انظروا إلى رجل
- (1) الكافي : 1 / 67 قطعة من ح10 ، وعنه وسائل الشيعة : 27 / 137 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب11 قطعة من ح1 .
(الصفحة 112)
منكم يعلم شيئاً من قضايانا (قضائنا خ ل) فاجعلوه بينكم ; فإنّي قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه(1) .
نظراً إلى أنّها تدلّ على أنّ العلم ببعض أحكامهم وقضاياهم كاف في باب القضاء ; لظهور كلمة «من» في التبعيض ، ولا يمكن أن تكون بيانيّة ; لأ نّه ـ مع مخالفته لظاهر مثل هذا التعبير كما هو غير خفيّ ـ يلزم على هذا التقدير أن يقال : «أشياء من قضايانا» أو بنحو الجنس كما في قوله تعالى : {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الاَْوْثَـنِ}(2) .
وبالجملة : لا مجال للمناقشة في دلالة الرواية على كفاية العلم بالبعض نظراً
إلى كلمة «من» . ولا فرق من هذه الجهة بين ما ورد على طريق الشيخ(قدس سره) في التهذيب(3) من قوله: «من قضايانا» وما ورد على طريق الكليني(4) والصدوق(قدس سرهما)(5)من قوله(عليه السلام) : «من قضائنا» ; ضرورة أنّ كلمة «القضاء» بنحو الإفراد لا ظهور
فيها في خصوص الحكم في مقام الترافع ، بل هو بمعنى طبيعة الحكم وماهيّته ، فالاختلاف بينه وبين قوله : «قضايانا» إنّما هو في الإفراد والجمع كما هو
غير خفي ّ.
وبالجملة : فالحسنة تعارض المقبولة بحسب الظاهر .
- (1) وسائل الشيعة: 27 / 13 ، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب1 ح 5 ، وقد تقدّمت قطعة منها في ص96 و 103 .
-
(2) سورة الحجّ : 22 / 30 .
-
(3) تهذيب الأحكام : 6 / 219 ح 516.
-
(4) الكافي : 7 / 412 ح4 .
-
(5) الفقيه : 3 / 2 ح1 .
(الصفحة 113)
ولكن مقتضى الجمع العرفي بين الروايتين ـ بعد عدم ظهور المقبولة في اعتبار المعرفة بجميع الأحكام كما عرفت ، وعدم دلالة الحسنة على تقدير التبعيض أيضاً على كفاية مجرّد العلم ببعض الأحكام ولو واحداً أو اثنين ; لأ نّه مضافاً إلى عدم المناسبة حينئذ بين الحكم والموضوع ، ضرورة أنّ مجرّد العلم بحكم واحد لا يوجب صلاحية العالم به لأن يصير حكماً ، يكون المتفاهم عرفاً من هذا التعبير بعد كون أحكامهم وعلومهم كثيرة جدّاً ، بل غير متناهية بالإضافة إلى غيرهم من البشر ، هو العلم بجملة معتدّ بها من أحكامهم كما في نظائر المقام ; فإنّه لا يقال لمن عنده درهم : إنّ عنده شيئاً من المال ، ولمن عرف مسألة واحدة من علم النحو مثلا أنّه لا يكون خالياً عن هذا العلم ـ أن يقال :
إنّه لابدّ من أن يكون عنده مقدار من أحكامهم بحيث يصدق عليه عنوان «الراوي لحديثهم» و«الناظر في حلالهم وحرامهم» و«العارف بأحكامهم» فلا معارضة بين الروايتين أصلا ، بل الجمع العرفي موجود ، ولكنّهما ـ كما مرّت الإشارة إليه مراراً ـ واردتان في باب القضاء الذي لا ملازمة بينه وبين باب الإفتاء ، مع عدم دلالتهما على اعتبار الاجتهاد المطلق الذي هو المدّعى في المقام .
وانقدح من جميع ما ذكرنا أ نّه لم يثبت الردع عن السيرة العقلائيّة الجارية على عدم الفرق بين المطلق والمتجزّئ في مقام الرجوع . نعم ، لو كان هناك إجماع على عدم الجواز بالإضافة إلى المتجزّئ في محيط الشريعة ، وإلاّ فمقتضى القاعدة والأدلّة عدم الفرق .
نعم ، لا يبعد أن يقال : إنّ المستفاد من مجموع الأدلّة المتقدّمة مع عدم خلوّ
شيء منها عن المناقشة سنداً أو دلالة اعتبار الفقاهة والنظارة ومعرفة جملة
معتدّ بها من الأحكام ، بحيث تنطبق عليه هذه العناوين بنظر العرف ، وأنّه