(الصفحة 137)
الأعلم من باب الاحتياط ، كما في «العروة»(1) . وأمّا سيّدنا العلاّمة الاُستاذ الماتن ـ دام ظلّه ـ فيمكن الإيراد عليه بأ نّه لا يكاد يجتمع الحكم بعدم جواز العدول إلى المساوي بنحو الاحتياط اللزومي ، مع الحكم بوجوب العدول إلى الأعلم كذلك ، وكون أصل اللزوم أيضاً من باب الاحتياط اللزومي ، كما سيصرّح به في المسألة الآتية .
توضيح الإيراد : أنّ هنا تجري قاعدتا الاشتغال والاحتياط ، إحداهما في مسألة العدول ; وهي تقتضي عدم الجواز احتياطاً ، والأُخرى في مسألة تقليد الأعلم ; وهي تقتضي تعيّنه كذلك ، فإذا أراد العدول إلى خصوص الأعلم يكون مقتضى القاعدة الأُولى العدم ، ومقتضى القاعدة الثانية لزوم العدول ، وحيث لا مرجّح لإحداهما على الأُخرى ، فلا محيص عن الحكم بجواز العدول ، ولا يبقى مجال لوجوبه كما في المتن ، فتأمّل جيّداً .
- (1) العروة الوثقى : 1 / 7 مسألة 12 .
(الصفحة 138)[تقليد الأعلم والفحص عنه]
مسألة5: يجب تقليد الأعلم مع الإمكان على الأحوط، ويجب الفحص عنه، وإذا تساوى المجتهدان في العلم ، أو لم يعلم الأعلم منهما ، تخيّر بينهما. وإذا كان أحدهما المعيّن أورع ، أو أعدل ، فالأولى الأحوط اختياره، وإذا تردّد بين شخصين يحتمل أعلميّة أحدهماالمعيّن دون الآخر ، تعيّن تقليده على الأحوط 1.
1 ـ الكلام في هذه المسألة يقع في مقامات :
المقام الأوّل : في تعيّن تقليد الأعلم وعدمه .
فنقول : لاخفاء في أنّ هذه المسألة ـ كأصل مسألة التقليد ـ لا تكون تقليديّة ; بمعنى أنّ الذي يحمل العامّي على الرجوع إلى الأعلم حينما يريد التقليد والرجوع إلى الغير ، ليس إلاّ حكم عقله وإدراكه ، وإلاّ فالحامل له عليه ليس فتوى المجتهد بلزوم الرجوع إلى الأعلم ; للزوم الدور ، فتأمّل . فإذا تعيّن عليه الرجوع إلى حكم عقله ، فإن احتمل تعيّن تقليد الأعلم واختصاص جواز الرجوع به ، فلا مناص له عن الرجوع إليه ; لدوران الأمر بين التعيين والتخيير ، وحكم العقل بلزوم الاحتياط فيه والأخذ بالذي يحتمل فيه التعيّن ; لأ نّه بالأخذ به لا يكون الضرر والعقاب محتملا أصلا .
وأمّا مع الرجوع إلى غير الأعلم ، يكون احتمال العقاب الذي هو الموضوع لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل موجوداً ، فهذه القاعدة العقليّة تحكم عليه بلزوم الرجوع إلى الأعلم .
(الصفحة 139)
وإن لم يحتمل تعيّن تقليد الأعلم ، ولم يقع في ذهنه هذا الاحتمال أصلا ، بل حكم عقله بالتساوي ، فلا يكون هنا أيّ ملزم على الرجوع إلى الأعلم ، بل يسوغ له أخذ فتوى غيره والرجوع إليه ، فإن حكم بلزوم تقليد الأعلم فالواجب حينئذ بمقتضى فتواه العدول عنه إلى الأعلم ، وإن لم تكن فتواه تعيّنه ، بل كان الرجوع إلى الغير جائزاً عنده ، وبقي العامي على تقليده للتالي ، فلا مجال لمؤاخذته بوجه أصلا ، كما لا يخفى . هذا بالنسبة إلى ما هو المستند للعامي والحامل له .
وأمّا بالنسبة إلى ما يستنبطه المجتهد من الأدلّة الاجتهاديّة ، فتارة: يظهر له منها أحد طرفي المسألة من التعيّن وعدمه ،وأُخرى:لا يظهر له ذلك ،بل يبقى متردّداً شاكّاً .
فإن بقي متردّداً فاللازم الحكم بالتعيّن من باب الاحتياط اللازم ، الذي يحكم به العقل عند دوران الأمر بين التعيين والتخيير في باب الحجّية ; ضرورة أ نّه مع وجود الأعلم واحتمال تعيّنه ، تكون فتوى غير الأعلم مشكوكة الحجّية ، والشكّ فيها يساوق القطع بعدمها .
ومنه يظهر أ نّه لا مجال لقياس المقام على الدوران بين التعيين والتخيير في باب التكاليف ، كما إذا دار الأمر بين عتق خصوص الرقبة المؤمنة ، والتخيير بينه وبين عتق الرقبة الكافرة ، حيث إنّه مجرى البراءة ; نظراً إلى أنّ أصل التكليف بالإعتاق معلوم ،والشكّ في كلفة زائدةوضيق آخر ;وهوعتق خصوص الرقبة المؤمنة ، فتجري البراءة العقليّة الناشئة عن قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، والمؤاخذة بلا برهان .
وذلك ، أي وجه بطلان القياس ما عرفت من أنّ الشكّ في مثل المقام إنّما هو في اتّصاف فتوى غير الأعلم بالحجّية ، وما لم يقم دليل عليها في هذا الحال نقطع بعدمها ، وعدم ترتّب شيء من آثار الحجّية عليها ، فالقياس مع الفارق . هذا حكم صورة الشكّ والتردّد .
(الصفحة 140)
وأمّا بالنظر إلى الأدلّة الاجتهاديّة ، فنقول : إنّ للمسألة صوراً :
إحداها : ما إذا كانت فتوى الأعلم مخالفة لغيره وعلمت المخالفة بين الفتويين .
ثانيتها : ما إذا علمت الموافقة بينهما .
ثالثتها : ما إذا لم تعلم الموافقة والمخالفة بينهما .
وليعلم أنّ محلّ الكلام في جميع الصور إنّما هو ما إذا كان الأعلم مشخّصاً من غيره ، وأمكن الرجوع إليه ، والأخذ بقوله ، وتطبيق العمل على فتواه ; فإنّه
حينئذ وقع الخلاف في تعيّن فتواه للحجّية وعدمه على قولين ، ولابدّ من التعرّض
لما استدلّ به لكلا الطرفين ليظهر ما هو الحقّ في البين ، فنقول :
أمّا الصورة الأُولى : فقد استدلّ للقول بلزوم الأخذ بفتوى الأعلم فيها بوجوه :
الأوّل : دعوى الإجماع عليه ، حيث ادّعاه صريحاً المحقّق الثاني(قدس سره) في محكي حاشية الشرائع(1) . وعن الذريعة لعلم الهدى(قدس سره) أ نّه من المسلّمات عند الشيعة(2) . وعن صاحب المعالم هو قول الأصحاب الذين وصل إلينا كلامهم(3) . وجعله في محكي التمهيد هو الحقّ عندنا(4) . بل لم ينقل الخلاف في ذلك عمّن تقدّم على الشهيد الثاني(رحمه الله) ، فإنّ التخيير والقول به إنّما حدث لجماعة ممّن تأخّر عنه ، وفاقاً للحاجبي(5) والعضدي(6) والقاضي(7) . واختار التخيير أيضاً صاحب
- (1) حاشية شرائع الإسلام ، المطبوع مع حياة المحقّق الكركي وآثاره : 11 / 114 .
-
(2) الذريعة إلى اُصول الشريعة : 2 / 325 ، وحكى عنه في مطارح الأنظار: 2 / 526 .
-
(3) معالم الدين : 246 .
-
(4) تمهيد القواعد : 321 .
-
(5 ـ 7) راجع مختصر المنتهى وشرحه : 2 / 309 ، شرح مختصر الاُصول : 484 ، على ما في هامش كفاية الاُصول: 542 ، المستصفى للغزالي : 2/391 .
(الصفحة 141)
الفصول(رحمه الله) (1) ، وبالجملة : فالظاهر اتّفاق من تقدّم عليه على تعيّن الأعلم للتقليد .
والجواب عن هذه الدعوى واضح ; لعدم صلاحيّة الإجماع المنقول للاستناد ، خصوصاً مع ملاحظة كون المسألة خلافيّة ، بحيث حكي عن «المسالك» أ نّه نسب هذا القول إلى الأشهر(2) ، وهو مشعر بعدم كون القول الآخر متّصفاً بالشذوذ والندرة ، ومع ذلك لا يبقى مجال لاستكشاف موافقة المعصوم(عليه السلام) ، خصوصاً مع قوّة احتمال أن يكون مستند المجمعين هو أحد الوجوه المذكورة لهذا القول ، فالإجماع في مثل هذه المسألة لا أصالة له بوجه ، ولا اعتبار له أصلا .
الثاني : أنّ مشروعيّة التقليد في الأحكام الشرعيّة إنّما ثبتت بالكتاب والسنّة وبغيرهما ، ومن المعلوم أنّ المطلقات الواردة في الكتاب والأخبار لا تشمل المتعارضين ، فإذا سقطت فتوى غير الأعلم عن الحجّية بالمعارضة يتعيّن الرجوع إلى الأعلم ; للعلم بعدم وجوب الاحتياط ، وكذا لو كان الدليل على المشروعيّة دليل الانسداد ; فإنّه لا يمكن أن يستنتج منه جواز تقليد غير الأعلم ; لأنّ النتيجة لا تكون كلّية ،بل هي عبارة عن حجّية فتوى عالم ما ،والقدرالمتيقّن فتوى الأعلم ، وقد استدلّ بهذا الوجه بعض الأعلام في «شرح العروة» على ما في تقريراته(3) .
ويرد عليه ـ مضافاً إلى ما عرفت(4) من عدم امتناع شمول الإطلاقات للمتعارضين في مثل المقام ، ممّا كانت الحجّية ثابتة بنحو البدليّة وصرف الوجود لابنحو الوجود الساري ـ : أ نّه ليت شعري ما الفرق بين المقام وبين تعارض
- (1) الفصول الغرويّة : 423 .
-
(2) مسالك الأفهام : 13 / 343 .
-
(3) التنقيحفي شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 142 .
-
(4) في ص 125 ـ 127 .