(الصفحة 14)
الاحتياط ، فتدبّر .
الجهة الثالثة : هل هذه الأُمور الثلاثة التي يتطرّق بها في مقام التخلّص عن تبعة مخالفة تكليف المولى طوليّة مترتّبة ، أو أ نّه في رتبة واحدة؟ ربما يُقال بتقدّم الأخير ـ أعني الاحتياط ـ على الأوّلين ; نظراً إلى أنّ الاحتياط طريق عقليّ يترتّب عليه الأثر المترقّب قطعاً ، وأمّا عدلاه فيحتاج إلى الجعل الشرعي وحكم الشارع بحجّية منشأ الاستنباط وكونه معتبراً عنده كما في الاجتهاد ، والتقليد يتفرّع عليه ، ضرورة أنّ المقلَّد ـ بالفتح ـ لا يكون عالماً بالأحكام الإلهية بالعلم الوجداني إلاّ نادراً ، وعليه : فمرتبة الاحتياط متقدّمة عليهما .
كما أ نّه ربما يقال بتقدّم مرتبة الأوّلين على الاحتياط ، نظراً إلى أنّ جواز الاحتياط حيث يكون محلّ الخلاف فلابدّ من أن يكون المكلّف مجتهداً فيه أو مقلّداً ، ففي الحقيقة الواجب على المكلّف إمّا الاجتهاد وإمّا التقليد ، وعلى التقديرين فإن أدّى نظره أو نظر مقلَّده إلى جواز الاحتياط يجوز ، وإلاّ فلا .
والظاهر فساد كلا القولين :
أمّا الأوّل : فلأنّ الاحتياج إلى حكم الشارع في باب الاجتهاد إنّما هو لتحقّق موضوع الاجتهاد وصغريه . وأمّا الاكتفاء في مقام الامتثال بموافقة الطريق الذي حكم الشارع بجواز التطرّق به ، وعدم المنع من انسلاكه ، فهو حكم عقليّ يترتّب على الحجيّة الشرعيّة ، والكلام إنّما هو في هذا الحكم لا في تحقّق الموضوع . وكذلك التقليد المتفرّع على هذا النحو من الاجتهاد ; فإنّ الاجتزاء به من باب رجوع الجاهل في كلّ فنّ وصنعة إلى العالم به لا يكاد يكون الحاكم به إلاّ العقل ، كما هو غير خفيّ .
وأمّا الثاني : فقد ذكر المحقّق الاصفهاني(قدس سره) في رسالة الاجتهاد والتقليد أنّ كون
(الصفحة 15)
المسألة خلافية نظرية لا يقتضي جريان التقليد فيه ، قال : ألا ترى أنّ أصل التقليد خلافيّ جوازاً ومنعاً ، ومع ذلك لا يقتضي أن يكون تقليدياً ، وكذلك تقليد الأعلم خلافيّ ومع ذلك ليس بتقليديّ ، إلى غير ذلك من النظريات والخلافيات ، بل كونه تقليدياً يتبع أن يكون على طبق المورد حكم مماثل يمكن أن يكون العامي متعبّداً به ومنشأً لحركته على طبقه ، فلو لم يكن هناك حكم مماثل ، أو كان ولكن لم يمكن منشئيّته لحركة العامّي للزوم المحال ، فلا محالة لا يكون تقليدياً .
ثمّ قال ما ملخّصه : إنّ للاحتياط حيثيّتين :
إحداهما : الحيثيّة العارضة للاحتياط بعنوانه من وجوب شرعيّ حقيقي أو طريقي ، أو حرمة نفسية بملاحظة انطباق عنوان مبغوض عليه .
ثانيتهما : الحيثية المخرجة للاحتياط عن كونه احتياطاً ; لأنّ الشارع لو تصرّف في مورده بنفي أو إثبات تعيّن أحد الطرفين شرعاً ، فلا مورد للاحتياط عقلا .
أمّا بلحاظ الحيثيّة الأُولى ، فالمسألة تقليديّة بلحاظ العارض لا المعروض ، فترتّب الأثر المترقّب من العمل الاحتياطي غير منوط بالتقليد ، وإن كان كونه فاعلا للواجب أو تاركاً للحرام قابلا للاستناد إلى فتوى المجتهد .
وأمّا بلحاظ الحيثيّة الثانية ، فالمسألة تقليدية من حيث نفس عنوان الاحتياط ; لعدم تمكّن العامي من استنباط تمحّض المورد للاحتياط إلاّ بالرجوع إلى المجتهد ، ولذا ذكرنا أنّ إجراء الأُصول العقلية منوط بنظر المجتهد .
ثمّ قال : والتحقيق أ نّ حرمة الاحتياط نفسيّاً وعدمها ليست مهمّة في مقام حصر طريق الامتثال في الاجتهاد والتقليد وعدمه ، بل المهم ترتّب الأثر المترقّب من المعاملة والعبادة على الاحتياط، وحيث إنّ فرض الاحتياط حقيقة هو فرض ترتّب أثر الواقع، فلا محالة يؤول البحث إلى البحث عن تحقّق العبادة ـ كالمعاملة ـ
(الصفحة 16)
بالاحتياط وعدمه; لأجل خصوصيّة مأخوذة في العبادة بحيث لا تتحقّق إلاّ بالامتثال التفصيلي عن اجتهاد أو تقليد ، كقصد الوجه على القول بأ نّه كذلك ، فهو في الحقيقة بحث عن قبول العبادة للاحتياط وعن التمكّن منه في العبادة ، وكونه كذلك لا يعلم إلاّ بالاجتهاد والتقليد .
فمعنى التقليد حينئذ التعبّد بعدم اعتبار تلك الخصوصيّة شرعاً ، ولازمه إمكان الاحتياط ، لا التعبّد بإمكانه ولا التعبّد بجوازه شرعاً في قبال حرمته نفساً ، كما أنّ معنى التقليد في مقام إجراء قاعدة الاحتياط اللازم بحكم العقل هو التعبّد بعدم الحكم شرعاً نفياً أو إثباتاً ، بحيث لا يكون مجرى للقاعدة الملزمة بالاحتياط عقلا لا التعبّد به شرعاً(1) .
وما أفاده(قدس سره) وإن لم يكن بخال عن مناقشة بل مناقشات ـ من حيث عدم نهوض دليل على ما جعله ضابطاً لكون المسألة تقليدية ، من لزوم ثبوت حكم مماثل على طبق المورد يمكن أن يكون العامي متعبّداً به ومنشأً لحركته على طبقه .
ومن جهة تخصيصه الوجه في تعلّق الحرمة النفسية العارضة للاحتياط بعنوانه بانطباق عنوان مبغوض عليه بعد احتمال كون الوجه مبغوضيته بعنوانه ، كما لا يخفى .
ومن جهة جعل الحيثيّة المخرجة للاحتياط عن كونه احتياطاً حيثيّة ثانية للاحتياط مع عدم معقولية ذلك ; ضرورة أنّ الحيثيّة المعدمة للشيء لا تكون حيثيّة لنفس ذلك الشيء ، مضافاً إلى أنّ تصرّف الشارع في مورد الاحتياط بنفي أو إثبات إن كان معلوماً بالعلم الوجداني ، فهو يوجب خروج الاحتياط عن كونه
- (1) بحوث في الاُصول ، الاجتهاد والتقليد : 181 ـ 182 .
(الصفحة 17)
كذلك . وأمّا إن لم يكن كذلك ، بل كان التصرّف مقتضى الأمارة المعتبرة أو الأصل الشرعي ، فهو لا ينافي الاحتياط بوجه ، ولا يوجب انهدام هذا العنوان أصلاً ، ومن بعض الجهات الاُخر ـ إلاّ أنّ مرجعه إلى أنّ الاحتياط المبحوث عنه في المقام ليس هو عنوان الاحتياط الذي وقع الاختلاف في جوازه وحرمته ، بل المهمّ هو عدم انحصار طريق الامتثال بالاجتهاد والتقليد ، وكفاية الاحتياط في ترتّب الأثر المقصود من العبادة والمعاملة .
ومن الواضح عدم وقوع الاختلاف في هذه الجهة، بل لا يعقل الخلاف فيه ، والإشكال على تقديره إنّما هو في إمكان الاحتياط في العبادة مطلقاً أو في بعض الموارد ، وهو يرجع إلى منع الصغرى وعدم إمكانها لا إلى المناقشة في الكبرى .
وبالجملة : فالاحتياط المبحوث عنه الذي هو أحد طرق الإجزاء عقلا ليس هو عنوانه ، بل ما يصدر من المكلّف في الخارج بهذا العنوان ، ويترتّب عليه تحقّق المأمور به قطعاً ، وهذا لاتعقل المناقشة في الاجتزاء به ، والخلاف إمّا في جواز أصل العنوان ، وإمّا في إمكانه مطلقاً ، أو في العبادة ، أو في خصوص بعض مواردها ، وعليه: فلامعنى للحكم بجريان التقليد أو الاجتهادفيه مع انحفاظ الموضوع وإمكانه.
ثمّ إنّه على تقدير تسليم جريان الاجتهاد والتقليد في الاحتياط وافتقاره إلى أحدهما نقول : إنّ ذلك لا يوجب تأخّر رتبته عنهما في مقام الامتثال ; فإنّ المجتهد بعد ما أدّى نظره إلى الجواز يكون مخيّراً عقلا بين مراجعة الأدلّة واستنباط حكم المسألة منها ، وبين أن يحتاط بإتيان كلا المحتملين مثلا لأجل حصول العلم بإتيان الواقع .
هذا كلّه فيما يتعلقّ بتقدّم رتبة الاجتهاد والتقليد على الاحتياط وتأخّرهما عنه ، أو تساويهما وكون الاُمور الثلاثة التي يتطرّق بها في رتبة واحدة .
(الصفحة 18)في تقدّم الاجتهاد على التقليد وعدمه
هل رتبة التقليد متأخّرة عن الاجتهاد ، أو أنّ رتبته متقدّمة عليه ، أو أنّهما في رتبة واحدة ولا تقدّم لإحدى الرتبتين على الأُخرى؟
والتحقيق أنّ الكلام يقع تارة: فيما هو مقتضى حكم العقل ، وأُخرى : فيما هو مقتضى الأدلّة الشرعية .
أمّا من جهة حكم العقل فالظاهر أ نّه لا مجال للإشكال في تساوي الحالتين وعدم ثبوت مزيّة في البين وعدم اختلاف الرتبتين ; ضرورة أنّ العقل لا يحكم إلاّ بلزوم تحصيل العلم لأجل العمل أو الرجوع إلى العالم الخبير لأجله أيضاً ، من دون ترجيح لأحدهما على الآخر .
وأمّا من جهة الأدلّة الشرعيّة ، فتفصيل الكلام فيها يتوقّف على ملاحظة هذين الموضوعين ومعناهما ، وملاحظة الآثار والأحكام المترتّبة عليهما .
فنقول : أمّا التقليد ، فسيجيء البحث عن حقيقته عند تعرّض سيّدنا العلاّمة الاُستاذ الماتن له(1) .
وأمّا الاجتهاد ، فالمحكي عن الحاجبي(2) والعلاّمة(3) في تعريفه أ نّه استفراغ الوسع في تحصيل الظنّ بالحكم الشرعي ، وعن غيرهما(4) أ نّه ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعي الفرعي عن الأصل فعلا ، أو قوّة قريبة من الفعل .
- (1) في ص59 ـ 67 .
-
(2) مختصر المنتهى : 2 / 289 ، شرح مختصر الاُصول : 460 ، على ما في هامش كفاية الاُصول : 528 .
-
(3) مبادئ الوصول إلى علم الاُصول : 240 .
-
(4) زبدة الاُصول ، المنهج الرابع في الاجتهاد والتقليد : 159 .