(الصفحة 19)
ويرد على التعريف الأوّل وجوه من الإيراد ، عمدتها : أنّ مجرّد الظنّ بالحكم الشرعي من أيّ طريق حصل ومن أيّ سبب تحقّق لم يقم على اعتباره دليل ، بل قام الدليل على عدمه في بعض الموارد ، كالظنّ الحاصل من القياس والاستحسان ، مضافاً إلى أنّ الأمارة المعتبرة الشرعية ربما لا تفيد الظنّ الشخصي ; لعدم مدخليّته في اعتباره ; لكون الملاك فيه هو إفادته للظنّ نوعاً .
وما أفاده المحقّق الخراساني(قدس سره) (1) وتبعه بعض الأعلام في شرح العروة ـ على ما في تقريرات بحثه ـ من أ نّه لو اُبدل الظنّ بالحكم بالحجّة على الحكم الشرعي لسلم من الإشكال(2) ، فيه : أ نّه وإن كان يسلم من بعض الإشكالات ، إلاّ أنّ بعضها باق على حاله ; ضرورة أنّ المقلِّد لو استفرغ وسعه في تحصيل فتوى مجتهده ـ التي هي حجّة على الحكم الشرعي ـ يصدق عليه أ نّه استفرغ الوسع في تحصيل الحجّة على الحكم مع أ نّه لا يكون مجتهداً .
فالأولى الإعراض عن هذا التعريف الذي صار سبباً لطعن الأخباريين على الأُصوليين منّا ، واعتراضهم عليهم بأنّهم يعتمدون في الاجتهاد على مجرّد الظنّ بالحكم من أيّ سبب حصل(3) ; سواء قام الدليل على اعتباره أو على عدم اعتباره ، أو لم يقم دليل على شيء من الأمرين ، وإلاّ فالاجتهاد بمعناه الحقيقي ـ الذي يرجع إلى القدرة على أخذ الحكم من المدارك المعتبرة ، والأدلّة القابلة للاستناد من الكتاب والسنّة والإجماع والعقل ـ لامجال للإشكال فيه ولا محيص عن الالتزام به .
- (1) كفاية الاُصول : 529 .
-
(2) دروس في فقه الشيعة: 1/22.
-
(3) حكى عنهم المحقّق الخراساني في كفاية الاُصول: 529، والسيّد الخوئي في دروس في فقه الشيعة: 1/21.
(الصفحة 20)
ومن هذه الجهة يمكن أن يقال : إنّ النزاع بينهما لا يتجاوز عن النزاع اللفظي ولايكون نزاعاً معنوياً ; لأ نّه لا محيص عن الالتزام بالاجتهاد بمعناه الذي يقول به المجتهدون ، كما مرّ .
نعم ، قد اُورد على هذا المعنى بأنّ تفسير الاجتهاد بالملكة الكذائية ينطبق على صاحبها الذي لم يستنبط شيئاً من الأحكام الشرعيّة ، ولم يتحقّق منه استنباط عملا أيضاً ; لعدم الملازمة بين ثبوت الملكة والاستنباط الفعلي بوجه ، مع أنّه لم يرد هذا العنوان في شيء من الأدلّة موضوعاً لحكم من الأحكام وأثر من الآثار ، بل العناوين المأخوذة فيها ترجع إلى الفقيه ، والعارف بالحلال والحرام ، والناظر فيهما ، والراوي لأحاديثهم ، وشبه ذلك من العناوين التي لا تنطبق على الشخص بمجرّد وجود الملكة فيها ، من دون استنباط لظهورها في الفعلية منها ، كما لا يخفى(1) .
هذاما يتعلّق بموضوع الاجتهاد ومعناه. وأمّاحكمه، فتارة : يلاحظ بالإضافة إلى عمل المجتهدنفسه، وأنّ تحصيل الملكة بلحاظ الأعمال الشخصية المبتلى بها لصاحبها حكمه ماذا؟ وأُخرى : بلحاظ رجوع الغير العامّي إليه ، وأنّ تحصيلها من جهة تقليد العوام عنه حكمه ماذا؟ وعلى الأوّل تارة : يلاحظ من جهة العقل وأنّ اللزوم العقلي متحقّق أم لا؟ وأُخرى:من جهة الشرعومقتضى الأدلّة الشرعية الواردة في هذه الجهة.
فنقول : أمّا العقل ، فقد عرفت أ نّه يحكم ـ لأجل الفرار عن تبعة مخالفة تكاليف المولى المنجّزة بسبب العلم الإجمالي بثبوتها ـ بلزوم تحصيل المؤمِّن من العقاب . غاية الأمر أنّ طرق تحقّق هذا المعنى مختلفة كثرة وقلّة حسب اختلاف الموارد والحالات والأشخاص ، فإذا انسدّ باب بعض تلك الطرق يبقى سائر الأبواب ، ومع انسداد الجميع إلاّ الواحد يتعيّن ذلك الطريق الواحد .
- (1) بحوث في الاُصول، الاجتهاد والتقليد: 3 ـ 4 ، دروس في فقه الشيعة: 1/22.
(الصفحة 21)
فإذا كان هناك من الأحياء من يكون صالحاً للرجوع إليه وتقليده لا مجال لتعيّن الاجتهادولزوم تحصيل الملكة عليه ، ومع عدمه ـ والفرض أ نّه لا يجوز تقليد الميّت ابتداءً ; لقيام الإجماع(1) عليه كما سيجيء البحث والتكلّم فيه(2) إن شاء الله تعالى ـ يتعيّن عليه الاجتهاد إذا لم يتمكّن من الاحتياط وإحراز الواقع من هذا الطريق ، كما أ نّه مع عدم التمكّن من الاحتياط يتخيّر بين الاجتهاد والتقليد ; لعدم ثبوت حكم العقل بلزوم التعلّم ، بل غرضه التعرّض لامتثال التكاليف المعلومة بالإجمال ورعاية موافقتها ; سواء كان المكلّف عالماً بها تفصيلا أو جاهلا مراجعاً إلى العالم .
فانقدح من ذلك أنّ تعيّن الاجتهاد ولزومه عقلا إنّما هو فيما إذا انسدّ عليه باب التقليد والاحتياط ، ومن الواضح أنّ اللزوم في هذا المورد ليس لزوماً نفسياً ، بل طريقي مرجعه إلى تنجّز التكاليف المعلومة واستحقاق العقوبة على مخالفتها ، هذا ما هو مقتضى حكم العقل .
وأمّا اللزوم الشرعي ، فيدلّ على أصله ما دلّ على وجوب التعلّم من الأخبار التي سيجيء نقلها والتكلّم فيها إن شاء الله تعالى ، وعلى كونه طريقياً لا نفسيّاً ولا مقدميّاً التأمّل في تلك الأخبار واستظهار الطريقية منها ، وعلى عدم كونه عينياً وضوح استلزام تعيّن الاجتهاد وتحصيل ملكة الاستنباط على كلّ مكلّف للعسر والحرجواختلال النظام ، سيّما في هذه الأعصار التي كثرت مقدّمات الاجتهاد ، وكذا الموانع عن تحقّقها،مضافاًإلى أدلّة التقليد الدالّة على جواز رجوع العامّي إلى المجتهد ،
- (1) جامع المقاصد: 3/491 ، شرح الألفية، المطبوع ضمن حياة المحقّق الكركي وآثاره: 7 / 253 ، مسالك الأفهام: 3 / 109; رسائل الشهيد الثاني: 1 / 44; مستمسك العروة الوثقى: 1 / 22 ، وانظر رسالة في الاجتهاد والتقليد للشيخ الأنصاري، ضمن مجموعة رسائل: 58 ، ومطارح الأنظار: 2 / 559 ـ 560 .
-
(2) في ص194 ـ 211 .
(الصفحة 22)
والمستلزمة لعدموجوب تحصيل الملكة على كلّ أحد . هذا بالإضافة إلى عمل نفسه .
وأمّا بالإضافة إلى رجوع غير العامّي إليه ، فاللزوم العقلي منتف قطعاً ; لعدم حكمه بذلك أصلا بعد ما كان الملاك في حكمه هو تخلّص المكلّف بنفسه من تبعة مخالفة تكاليف المولى ، وليس هنا ملاك آخر مقتض للزوم العقلي .
وأمّا اللزوم الشرعي ، فقد يقال بثبوته على وجه النفسي الكفائي التعييني ، نظراً إلى لزوم حفظ الدين وإبقائه والتحرّز عن اضمحلاله واندراسه ; ضرورة أنّ وجوب ذلك غير قابل للإنكار ، ومن المعلوم ـ بعد عدم جواز تقليد الميّت ابتداءً ، وعدم جواز رجوع العامي إلى الأموات ـ أ نّ الاجتهاد وتحصيل ملكة الاستنباط لأجل الوصول إلى القوانين الدينيّة والأحكام الشرعيّة من الطرق الموجبة لبقاء الدين والتحفّظ عن اضمحلاله وانهدامه ، بداهة أ نّه مع عدم وجود من يرجع إليه العامي ـ والمفروض عدم جواز الرجوع إلى الأموات ـ ينسدّ باب الاطّلاع على الأحكام الشرعية وتطبيق العمل عليها ، فاللازم لأجل هذا الغرض المهمّ أن يتصدّى بعض من المكلّفين للوصول إلى هذا المقام والبلوغ إلى هذه المرتبة(1) .
ومقتضى ماذكر عدم كفاية مجرّدالوصولوتحصيل الملكة، بل اللازم بعده استنباط الفعلي واستخراج الأحكام من مداركها وتبليغها إلى المكلّفين ليعملوا على طبقها .
هذا، ولكنّ الدليل المذكورلايجدي لإثبات الوجوب النفسي; لأنّ الواجب النفسي حينئذ هوالتحفّظ على الدينوإبقائه، والاجتهادمقدّمة له ، فلا مجال لدعوى النفسية من هذا الطريق بوجه. نعم ، لو استند في ذلك إلى آية النفر المعروفة لكان لذلك وجه.
ويؤيّده ما ورد في تفسيرها من بعض الروايات ، كرواية عبد المؤمن الأنصاري قال : قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : إنّ قوماً يروون أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال : اختلاف أُمّتي
- (1) دروس في فقه الشيعة: 1 / 26 ـ 29.
(الصفحة 23)
رحمة ، فقال : صدقوا ، فقلت : إن كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب؟ قال : ليس حيث تذهب وذهبوا ، إنّما أراد قول الله ـ عزّ وجلّ ـ : {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَة مِّنْهُمْ طَـآلـِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ وَ لِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ }(1) ، فأمرهم أن ينفروا إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) فيتعلّموا ثمّ يرجعوا إلى قومهم فيعلّموهم ، إنّما أراد اختلافهم من البلدان لا اختلافاً في دين الله ، إنّما الدين واحد ، إنّما الدين واحد(2) .
ويؤيدّه أيضاً قول الرضا(عليه السلام) في حديث ـ على ما رواه الصدوق بإسناده عن الفضل بن شاذان ـ : إنّما اُمروا بالحجّ لعلّة الوفادة إلى الله ـ عزّ وجلّ ـ وطلب الزيادة ، والخروج من كلّ ما اقترف العبد ـ إلى أن قال :ـ مع ما فيه من التفقّه ونقل أخبار الأئمّة(عليهم السلام) إلى كلّ صقع وناحية ، كما قال الله ـ عزّوجلّ ـ : {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَة مِّنْهُمْ طَـآلـِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ}(3) .
وبهاتين الروايتين يدفع التوهّم الذي يمكن أن يتخيّل من عدم دلالة الآية الكريمة على شمول الحكم لكلّ عصر وزمان ، كما هو غير خفيّ .
فانقدح من جميع ما ذكرنا أنّ المكلّف لا يجب عليه تحصيل ملكة الاجتهاد مع وجود المجتهد ; لقيام السيرة وعدم ثبوت الردع ، فهو مخيّر بين التقليد والرجوع إلى الخبرة ، وبين تحصيل ملكة الاجتهاد وصيرورته خبيراً ، ولا مزيّة لأحد الأمرين ولا مرجّح في البين .
- (1) سورة التوبة : 9 / 122.
-
(2) معاني الأخبار : 157 ح1 ، علل الشرائع : 85 ح4 ، وعنهما وسائل الشيعة : 27/140 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب11 ح10 .
-
(3) عيون أخبار الرضا(عليه السلام) : 2 / 119 ، علل الشرائع : 273 ح9 ، وعنهما وسائل الشيعة : 27 / 96 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب8 ح65 .