(الصفحة 148)
لا يقال : المراد بالحكم هو فصل الخصومة بقرينة السؤال في منازعة
الرجلين «في دَين أو ميراث» ، فلا دلالة لها على تقديم فتوى الأفقه ; لأ نّا
نقول :
أوّلا : أنّ الظاهر عدم القول بالفصل بين الحكم والفتوى ، فكلّ من قال بتقديم حكم الأعلم قال بتقديم فتواه أيضاً ـ إلى أن قال :ـ فالظاهر أنّ إنكار هذا الإجماع مكابرة واضحة اعترف به شيخنا ـ دام ظلّه العالي(1) ـ وهو كذلك . نعم ، الظاهر أ نّه لا عكس ; فإنّ من يقول بوجوب تقليد الأعلم لعلّه لا يقول بوجوب المرافعة عند الأعلم ، وإن كان الحقّ خلافه .
وثانياً : أنّ المراد بالحكم في الرواية ليس ما هو المصطلح عليه عند الفقهاء ; أعني القضاء ، بل الظاهر أنّ المراد به المعنى اللغوي المتناول للفتوى ، مثل قوله ـ تعالى ـ في غير موضوع : {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ} الآية(2) . يدلّ على ذلك ـ زيادة على عدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة في لفظ الحكم ـ قول الراوي : «وكلاهما اختلفا في حديثكم» ; فإنّ المتبادر كونه بياناً لاختلاف الحكم ، ومن الواضح أنّ الاختلاف في نفس القضاء ليس اختلافاً في الحديث .
نعم ، الاختلاف في فتوى رواة عصر الإمام(عليه السلام) اختلاف في الحديث ، نظراً إلى اشتراك الفتاوي ورواياتهم في الاستناد إلى السماع عن الإمام(عليه السلام) عموماً أو خصوصاً ، فيكون الاختلاف في الفتوى اختلافاً في الحديث . وكذا يدلّ عليه قول الإمام(عليه السلام) : «الحكم ما حكم به . . . وأصدقهما في الحديث» ; فإنّ صِدق الحديث إنّما
- (1) رسالة في تقليد الأعلم للميرزا حبيب الله الرشتي : 31 ـ 32 .
-
(2) سورة المائدة : 5 / 45 .
(الصفحة 149)
يناسب ترجيح الفتوى التي هي بمنزلة الحديث دون القضاء ، ولا دلالة في منازعة المتحاكمين على كون المراد به القضاء ; لأنّ المتنازعين ربما ينشأ نزاعهما من جهة الاشتباه في الحكم الشرعي ، فيرجعان إلى من يحكم بينهما بالفتوى دون القضاء ، والظاهر أنّ نزاع الرجلين كان من هذه الجهة ، لا من جهة الاختلاف في الموضوع ، ومرجعه إلى الادّعاء والإنكار ، وإلاّ لَما كان لاختيار كلّ منهما حكماً وجه ; فإنّ فصل الخصومة حينئذ يحصل من حكم واحد .
ثمّ قال : واعلم أنّ جمع الحَكَمَين أو الحكّام في مسألة أو نزاع يتصوّر على وجوه :
الأوّل : أن يكون المقصود من اجتماعهم صدور الحكم منهم أجمع .
والثاني : أن يكون المقصود صدور الحكم من أحدهم ، ويكون المقصود من حضور الباقين إعانتهم للحاكم في مقدّمات الحكم لئلاّ يخطأ .
والثالث : أن يكون الحكم مقصود الصدور من بعض ، ومن الباقين إنفاذ حكمه وإمضائه .
ولا ريب أنّ الفرض الغالب المتعارف من جمع الحكّام دائر بين الصورتين الأخيرتين . وأمّا الصورة الأُولى: فبعيدة في الغاية ، ولم نسمع وقوع ذلك في شيء من الأزمنة ، ولو حملنا الحكم في الرواية على الحكم المصطلح لم تكد تنطبق على شيء من الصور . أمّا على الأخيرتين : فواضح ; لأنّ صريح الرواية صدور الحكم من كلّ من الحكمين ، والمفروض في هاتين الصورتين عدم صدور الحكم إلاّ من أحدهما . وأمّا على الصورة الأُولى: فمع ما فيه من تنزيل الرواية على فرض نادر ينافيه مافيها بعد ذكر المرجّحات. قال: «فقلت: فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا ، لا يُفضَّل واحد منهما على صاحبه ، قال : فقال : ينظر إلى ما كان من
(الصفحة 150)
روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك» ; فإنّ الأمر بالنظر إلى مدرك الحكمين من الروايات ، والأخذ بالمشهور ، لا يلائم تعارض الحكم المصطلح من وجهين :
أحدهما : أنّ شغل المترافعين ليس النظر في مدرك الحكمين والاجتهاد في ترجيح أحدهما على الآخر إجماعاً .
والثاني : أنّه إذا تعارض الحَكَمان ولم يكن في أحد الحاكِمَين مزيّة على الآخر في شيء من الأوصاف المزبورة ، فالمرجع حينئذ هو أسبق الحكمين ، بل لا يبقى بعد صدور الحكم من أحد الحكّام محلّ لحكم الآخر ، ولو حملت الرواية على ما إذا كان الحكمان قد صدرا دفعة واحدة ـ فمع بعده وإمكان القطع بعدمه عادة ـ يدفعه أنّ الحكمين يتساقطان حينئذ ، فلا وجه للأخذ بالمرجّحات(1) ، انتهى كلامه ، نقلناه بطوله لاشتماله على فوائد .
ولكنّه يرد عليه ـ مضافاً إلى أنّ فرض الشبهة حكمية ، وجعل التنازع بين الرجلين في حكم كلّي شرعيّ لا يلائم مع كونهما غير مجتهدين ، كما هو الظاهر من مفروض السؤال ; فإنّ النزاع في الحكم الكلّي ليس من شأن العامّي ، بل وظيفته الرجوع إلى من يقلّده ، وإلى أنّ حمل الرواية على الفتوى لا يناسب النظر في مدرك الفتوى ; فإنّ العامي ليس من شأنه النظر في مدرك فتوى المجتهد ، ولا يكون أهلا لذلك ، كما أ نّه ليس للمترافعين النظر في مدرك الحكم ، وترجيح أحد المدركين على الآخر ـ :
أوّلا : أنّ ظاهر الرواية كون مجموع الأوصاف الأربعة مرجّحاً واحداً ،
- (1) رسالة في تقليد الأعلم للمحقّق الرشتي : 31 ـ 35 .
(الصفحة 151)
لا خصوص كلّ واحد من الأعدليّة والأفقهيّة والأصدقيّة والأورعيّة ، وهو لا ينطبق على المدّعى من كون المزيّة مجرّد الأفقهيّة والأعلميّة .
وثانياً : أنّ المزيّة المفروضة في المقبولة مجرّد الأعلميّة والأفقهيّة الإضافيّة ; يعني الأعلميّة بالإضافة إلى خصوص الطرف الآخر لا الأعلميّة المطلقة التي هي المدّعى ; ضرورة أنّ مجرّد الأعلميّة الإضافيّة لا يكفي في ترجيح أحد المجتهدين على الآخر ، كما هو واضح .
هذا كلّه مضافاً إلى الإشكال(1) في سند الرواية من حيث عدم كون الراوي ـ وهو عمر بن حنظلة ـ وارداً فيه مدح أو قدح ، واشتهارها بكونها مقبولة ليس بمثابة يمكن الغضّ عن سندها ، فالاستدلال بها لتعيّن تقليد الأعلم ـ على فرض ثبوت الدلالة ـ غير خال عن الإشكال .
ومنها : رواية داود بن الحصين ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) في رجلين اتّفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف فرضيا بالعدلين ، فاختلف العدلان بينهما ، عن قول أيّهما يمضي الحكم؟ قال : ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما ، فينفذ حكمه ولا يلتفت إلى الآخر(2) .
ومنها : رواية موسى بن أكيل ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : سئل عن رجل يكون بينه وبين أخ منازعة في حقّ ، فيتّفقان على رجلين يكونان بينهما ، فحكما فاختلفا فيما حكما ، قال : وكيف يختلفان؟ قلت : حكم كلّ واحد منهما للذي اختاره
- (1) قد رجّحنا في بحث التعادل والترجيح من الاُصول صحّة سند الرواية ، فليراجع (المؤلّف دام ظلّه) .
-
(2) الفقيه : 3 / 5 ح17 ، تهذيب الأحكام : 6 / 301 ح843 ، وعنهما وسائل الشيعة : 27 / 113 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب9 ح20 .
(الصفحة 152)
الخصمان ، فقال : ينظر إلى أعدلهما وأفقههما في دين الله ، فيمضى حكمه(1) . وتقريب الاستدلال بهما ، وكذا الجواب يظهر ممّا ذكر في المقبولة .
ومنها : ما في عهد مولانا أمير المؤمنين ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ إلى مالك الأشتر من قوله(عليه السلام) : «اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك»(2) حيث إنّ مفاده وجوب اختيار الأعلم للحكم الذي هو أعمّ من القضاء المصطلح; لشموله لمقام الفتوى .
ولكنّه يرد على الاستدلال به ـ مضافاً إلى أنّ الحكم لو سلّم عمومه وعدم اختصاصه بالقضاء المصطلح ، إلاّ أ نّه بملاحظة المورد لا ينبغي الارتياب في الاختصاص به ، نظراً إلى أنّ تفويض أمر الحكم إلى الغير إنّما هو من جهة عدم سعة وقت الوالي للتصدّي لمقام القضاء ; لكثرة اشتغاله بالجهات المتعدّدة الراجعة إلى إدارة المملكة وحفظ شؤونها ، وإلاّ فمجرّد الفتوى وبيان الحكم لا يضادّ مع سائر الاشتغالات ، كما هو واضح .
وكذا قوله(عليه السلام) : «بين الناس» قرينة على عدم كون المراد بالحكم هو الحكم الكلّي الإلهي ; لظهور هذا التعبير في الحكم الراجع إلى فصل الخصومة والنزاع الموجود بين الناس ـ : أنّ الرواية تدلّ على مرجّحيّة الأفضليّة الإضافيّة غير الخارجة عن حدود رعيّته ، والمدّعى في المقام ـ كما مرّ آنفاً ـ هي الأفضليّة المطلقة .
ومنها : ما حكي عن كتاب الاختصاص قال : قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : من تعلّم علماً
- (1) تهذيب الأحكام : 6 / 301 ح844 ، وعنه وسائل الشيعة : 27 / 123 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب9 ح45 .
-
(2) نهج البلاغة : 600 ، كتاب 53 ، وعنه وسائل الشيعة : 27 / 159 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب12 ح18 .