(الصفحة 153)
ليماري به السفهاء ، أو ليباهي به العلماء ، أو يصرف به الناس إلى نفسه يقول : أنا رئيسكم فليتبوّأ مقعده من النار ، إنّ الرئاسة لا تصلح إلاّ لأهلها ، فمن دعى الناس إلى نفسه وفيهم من هو أعلم منه لم ينظر الله إليه يوم القيامة(1) .
ومثل هذه المراسيل ، ممّا أسنده المرسل إلى المعصوم(عليه السلام) من دون النسبة إلى الرواية والحكاية ، وإن كان لا يبعد القول بكونه حجّة فيما إذا كان المرسل مثل المفيد ـ عليه الرحمة ـ ممّن يعتمد على توثيقه ومدحه ; لأنّ الإسناد إليه(عليه السلام) عبارة أُخرى عن توثيق الوسائط والاطمئنان بصدقهم وصدور الرواية عنه(عليه السلام) ، إلاّ أنّ الظاهر أنّ محطّ النظر في الرواية إلى الرئاسة والخلافة والتسلّط على الناس وأخذ أُمورهم باليد ، لا مجرّد المرجعيّة في الفتوى وأخذ مسائل الحلال والحرام ومعالم الدين منه ، كما لا يخفى .
ومنها : ما رواه أيضاً في محكي البحار ، عن عيون المعجزات ، عن الجواد(عليه السلام) ، أ نّه قال مخاطباً عمّه : يا عمّ إ نّه عظيم عند الله أن تقف غداً بين يديه فيقول لك : لم تفتي عبادي بما لم تعلم ، وفي الأُمّة من هو أعلم منك؟(2)
ولم يعلم كون المراد بالفتوى هي الفتوى المصطلحة ، بل لا يبعد القول بأنّ المراد بها هي الخلافة الراجعة إلى دعوة الناس إلى نفسه مع ثبوت الأعلم بين الناس ، مع أنّ سند الرواية لا يمكن الاعتماد عليه .
وقد انقدح من جميع ذلك أنّ الأدلّة التي استدلّ بها على تعيّن تقليد الأعلم كلّها مخدوشة إلاّ السيرة العقلائيّة الجارية على الرجوع إلى خصوصه ، وقد تقدّم
- (1) الاختصاص : 251 ، وعنه بحار الأنوار : 2 / 110 ح 16 .
-
(2) عيون المعجزات : 120 ، وعنه بحار الأنوار : 50 / 100 ح 12 .
(الصفحة 154)
توضيحها(1) .
وأمّا ما استدلّ به على عدم تعيّن تقليد الأعلم ، فوجوه أيضاً :
منها : التمسّك بإطلاق الأدلّة الواردة في جواز الرجوع إلى الفقيه ، وحجّيّة فتوى المجتهد من الآيات والروايات(2) الدالّة على ذلك بنحو العموم ; فإنّ مقتضاها أنّ موضوع الحجّية هو إنذار الفقيه ، وكون المجيب أهل الذكر ، وكون الفقيه واجداً للأوصاف المذكورة في رواية الاحتجاج(3) ، وإطلاقها يقتضي جواز الرجوع إلى كلّ من الأعلم وغيره مع صدق هذه العناوين ، من دون فرق بين صورة عدم العلم بالمخالفة بينهما وصورة العلم بها ، كما لا يخفى (4).
والجواب ـ بعد تسليم الدلالة على مشروعيّة التقليد وأصل حجّية فتوى المجتهد ، حيث عرفت سابقاً المناقشة في ذلك ـ : إنّا وإن ذكرنا(5) أ نّه لا مانع من شمول إطلاق أدلّة الحجّيّة لصورة التعارض وفرض الاختلاف ; لعدم كون الحجّية المجعولة بنحو الوجود الساري والطبيعة الصادقة على كلّ فرد ، بل بنحو البدليّة وصرف الوجود ، ولا مانع حينئذ من الشمول للمختلفين ، إلاّ أنّ ذلك فرع تماميّة الإطلاق وتحقّق شرائط التمسّك به ، ووجود مقدّمات الحكمة التي عمدتها كون المتكلّم في مقام البيان ، وذكر جميع الخصوصيّات التي لها دخل في ترتّب الحكم وثبوته .
- (1) في ص 142 ـ 143 .
-
(2) تقدّم ذكرها في ص 71 ـ 88 .
-
(3) تقدّمت في ص 82 ـ 83 .
-
(4) الفصول الغرويّة: 423 ، جواهر الكلام: 40 / 43 ـ 44 .
-
(5) في ص125 ـ 127 ، 141 ـ 142 .
(الصفحة 155)
ومن الواضح عدم تحقّق هذا الشرط في الآيات ; لوضوح أنّ آية النفر إنّما تكون بصدد بيان إيجاب النفر على طائفة من كلّ فرقة ليتفقّهوا في الدين ولينذروا بعد الرجوع ، ولازم ذلك وإن كانت هي الحجّية ، إلاّ أنّها لا تكون بصدد إفادة الحجّية المطلقة ، الشاملة لصورتي وجود الأعلم وعدمه ، وفرضي التعارض وعدمه ، وكذا آية السؤال ; فإنّ غاية مفادها لزوم التداوي على الجاهل بالرجوع إلى العالم . وأمّا أنّ قول العالم حجّة مطلقاً وفي جميع الموارد والفروض ، فلا دلالة لها عليه بوجه .
وهذا نظير إلزام المريض بالرجوع إلى الطبيب ; فإنّ النظر فيه إنّما هو بيان أنّ المريض إذا أراد الشفاء والتخلّص من مرضه ، يكون طريق ذلك هو الرجوع إلى الطبيب وترتيب الأثر على قوله ورأيه ، ولا دلالة في هذا الكلام على لزوم تطبيق العمل على قوله ، ولو مع وجود الأعلم منه وثبوت الاختلاف بين النظرين والتعارض بين الاعتقادين .
ولعمري أنّ هذا من الوضوح بمكان ، وهكذا الرواية العامّة المذكورة ; فإنّ النظر فيها إنّما هو نفي جواز تقليد الفقيه غير المتّصف بالأوصاف المذكورة فيها ، مثل علماء اليهود المرتكبين للمعاصي والمحرّمات . وأمّا أنّ كلّ فقيه واجد لتلك الأوصاف فهو جائز التقليد ; سواء كان الأفقه موجوداً أم لا ، والتعارض بين الفتويين ثابتاً أم لا ، فلا دلالة له عليه كما هو غير خفيّ ، فالتمسّك بالإطلاق مخدوش من هذه الجهة .
ومنها : ـ وهو العمدة في الباب ـ الروايات الكثيرة الدالّة على أنّ الأئـمّة(عليهم السلام)
قد أرجعوا جماعة من الشيعة إلى جمع من أصحابهم ; كزرارة ، ويونس بن عبدالرحمن ، ومحمّد بن مسلم ، وأبي بصير ، وزكريّا بن آدم ، وغيرهم(1) ، والتمسّك
- (1) وسائل الشيعة : 27 / 136 ـ 151 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب11 .
(الصفحة 156)
بهذه الطائفة من جهتين :
الجهة الأُولى : أنّ الإرجاع إلى غيرهم من الأصحاب مع وجود أنفسهم الشريفة(عليهم السلام) بين الناس ، دليل على عدم تعيّن تقليد الأعلم ، وإلاّ لما جاز الإرجاع مع وجود أنفسهم(عليهم السلام)، كما هو ظاهر .
الجهة الثانية : أنّ الإرجاع إلى متعدّدين ـ مع ثبوت الاختلاف بينهم من حيث الفضيلة أوّلا ، ومن حيث النظر والعقيدة ثانياً ، كما هو الغالب فيهما ـ دليل على عدم تعيّن تقليد الأعلم ، وإلاّ لكان اللازم الإرجاع إلى خصوص الأعلم من الأصحاب (1).
والجواب : أنّ الظاهر عدم ثبوت الاختلاف بين الأصحاب ، وكذا بينهم وبين الإمام(عليه السلام) في الرأي والاعتقاد ; لأنّا وإن قلنا بثبوت الاجتهاد والاستنباط في زمن الأئمة(عليهم السلام) ، إلاّ أ نّه حيث تكون المدارك في ذلك الزمان معلومة غالباً ; لعدم ثبوت الواسطة بينهم وبين أئمّتهم(عليهم السلام) ، فالاختلاف لا يكاد يتحقّق إلاّ نادراً ، والإرجاع إنّما هو لأجل ذلك .
مضافاً ألى أنّ مفروض الكلام إنّما هي صورة وجود الأعلم وإمكان الوصول إليه وأخذ الفتوى منه ، وهذا لا يتحقّق غالباً في ذلك الزمان ; لأنّ الوصول إلى الإمام(عليه السلام) كان أمراً متعسّراً غالباً لأجل بُعد الأمكنة وكثرة الفواصل وقلّة الوسائل ، أو لأجل الجهات السياسيّة الموجبة للتقيّة والمحدوديّة ، خصوصاً في بعض الأزمنة ، كما يشهد به التاريخ وغيره .
فالإنصاف أنّ هذه الطائفة من الروايات لا دلالة فيها على عدم تعيّن تقليد
- (1) جواهر الكلام : 40 / 45 ـ 46 .
(الصفحة 157)
الأعلم فيما هو مفروض الكلام .
ومنها : دعوى جريان سيرة المتشرّعة على الرجوع إلى المجتهد الواجد للشرائط من غير الفحص عن كونه متّصفاً بالأعلميّة ، ولو كان تقليد الأعلم متعيّناً لما جرت السيرة بهذه الكيفيّة (1).
والجواب : ـ مضافاً إلى أنّ هذه الصورة خلاف مفروض الكلام من صورة وجود الأعلم وغيره ، والعلم بالاختلاف بينهما في الفتوى ـ أنّ جريان السيرة بهذا النحو ممنوع جدّاً ، وسيأتي البحث عن الفحص في المقام الآتي إن شاء الله تعالى(2) .
ومنها : أنّ وجوب تقليد الأعلم عسر على المكلّفين ; لأجل عدم تشخيص مفهوم الأعلم أوّلا ، وعدم الطريق إلى تشخيص مصداقه ثانياً ، وعدم إمكان الإطّلاع على آرائه وفتاويه نوعاً ثالثاً (3).
والجواب عنه ـ مضافاً إلى ما عرفت من أ نّه خلاف ما هو المفروض في المقام ـ : أنّ مفهوم الأعلم في الفقه لا يغاير مفهومه في سائر الفنون والصنائع والحرف والعلوم ; فإنّ المراد به ليس إلاّ مَن كان أعلم بالقواعد التي يتركّب منها العلم ، وأجود استنباطاً ، وأحسن سليقة في تطبيق الكبريات على صغرياتها ، وتشخيص المورد لها ; فإنّ الأعلم في الطبّ مثلا ليس إلاّ من كان أعلم بقواعد هذا العلم ، وأحسن في تشخيص المورد وتطبيق القاعدة عليه ، فكذا في علم الفقه .
غاية الأمر اختلاف علم الفقه مع سائر العلوم في كون قواعده محتاجة
- (1) الفصول الغرويّة: 424، جواهر الكلام: 4 / 43 ـ 44، وحكاه المحقّق الرشتي عن الحاجبي والعضدي في رسالته في تقليد الأعلم: 28 ، فلاحظ مختصر الاُصول: 309 .
-
(2) في ص 166 ـ 167 .
-
(3) الفصول الغرويّة: 424 .