(الصفحة 151)
لا خصوص كلّ واحد من الأعدليّة والأفقهيّة والأصدقيّة والأورعيّة ، وهو لا ينطبق على المدّعى من كون المزيّة مجرّد الأفقهيّة والأعلميّة .
وثانياً : أنّ المزيّة المفروضة في المقبولة مجرّد الأعلميّة والأفقهيّة الإضافيّة ; يعني الأعلميّة بالإضافة إلى خصوص الطرف الآخر لا الأعلميّة المطلقة التي هي المدّعى ; ضرورة أنّ مجرّد الأعلميّة الإضافيّة لا يكفي في ترجيح أحد المجتهدين على الآخر ، كما هو واضح .
هذا كلّه مضافاً إلى الإشكال(1) في سند الرواية من حيث عدم كون الراوي ـ وهو عمر بن حنظلة ـ وارداً فيه مدح أو قدح ، واشتهارها بكونها مقبولة ليس بمثابة يمكن الغضّ عن سندها ، فالاستدلال بها لتعيّن تقليد الأعلم ـ على فرض ثبوت الدلالة ـ غير خال عن الإشكال .
ومنها : رواية داود بن الحصين ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) في رجلين اتّفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف فرضيا بالعدلين ، فاختلف العدلان بينهما ، عن قول أيّهما يمضي الحكم؟ قال : ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما ، فينفذ حكمه ولا يلتفت إلى الآخر(2) .
ومنها : رواية موسى بن أكيل ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : سئل عن رجل يكون بينه وبين أخ منازعة في حقّ ، فيتّفقان على رجلين يكونان بينهما ، فحكما فاختلفا فيما حكما ، قال : وكيف يختلفان؟ قلت : حكم كلّ واحد منهما للذي اختاره
- (1) قد رجّحنا في بحث التعادل والترجيح من الاُصول صحّة سند الرواية ، فليراجع (المؤلّف دام ظلّه) .
-
(2) الفقيه : 3 / 5 ح17 ، تهذيب الأحكام : 6 / 301 ح843 ، وعنهما وسائل الشيعة : 27 / 113 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب9 ح20 .
(الصفحة 152)
الخصمان ، فقال : ينظر إلى أعدلهما وأفقههما في دين الله ، فيمضى حكمه(1) . وتقريب الاستدلال بهما ، وكذا الجواب يظهر ممّا ذكر في المقبولة .
ومنها : ما في عهد مولانا أمير المؤمنين ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ إلى مالك الأشتر من قوله(عليه السلام) : «اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك»(2) حيث إنّ مفاده وجوب اختيار الأعلم للحكم الذي هو أعمّ من القضاء المصطلح; لشموله لمقام الفتوى .
ولكنّه يرد على الاستدلال به ـ مضافاً إلى أنّ الحكم لو سلّم عمومه وعدم اختصاصه بالقضاء المصطلح ، إلاّ أ نّه بملاحظة المورد لا ينبغي الارتياب في الاختصاص به ، نظراً إلى أنّ تفويض أمر الحكم إلى الغير إنّما هو من جهة عدم سعة وقت الوالي للتصدّي لمقام القضاء ; لكثرة اشتغاله بالجهات المتعدّدة الراجعة إلى إدارة المملكة وحفظ شؤونها ، وإلاّ فمجرّد الفتوى وبيان الحكم لا يضادّ مع سائر الاشتغالات ، كما هو واضح .
وكذا قوله(عليه السلام) : «بين الناس» قرينة على عدم كون المراد بالحكم هو الحكم الكلّي الإلهي ; لظهور هذا التعبير في الحكم الراجع إلى فصل الخصومة والنزاع الموجود بين الناس ـ : أنّ الرواية تدلّ على مرجّحيّة الأفضليّة الإضافيّة غير الخارجة عن حدود رعيّته ، والمدّعى في المقام ـ كما مرّ آنفاً ـ هي الأفضليّة المطلقة .
ومنها : ما حكي عن كتاب الاختصاص قال : قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : من تعلّم علماً
- (1) تهذيب الأحكام : 6 / 301 ح844 ، وعنه وسائل الشيعة : 27 / 123 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب9 ح45 .
-
(2) نهج البلاغة : 600 ، كتاب 53 ، وعنه وسائل الشيعة : 27 / 159 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب12 ح18 .
(الصفحة 153)
ليماري به السفهاء ، أو ليباهي به العلماء ، أو يصرف به الناس إلى نفسه يقول : أنا رئيسكم فليتبوّأ مقعده من النار ، إنّ الرئاسة لا تصلح إلاّ لأهلها ، فمن دعى الناس إلى نفسه وفيهم من هو أعلم منه لم ينظر الله إليه يوم القيامة(1) .
ومثل هذه المراسيل ، ممّا أسنده المرسل إلى المعصوم(عليه السلام) من دون النسبة إلى الرواية والحكاية ، وإن كان لا يبعد القول بكونه حجّة فيما إذا كان المرسل مثل المفيد ـ عليه الرحمة ـ ممّن يعتمد على توثيقه ومدحه ; لأنّ الإسناد إليه(عليه السلام) عبارة أُخرى عن توثيق الوسائط والاطمئنان بصدقهم وصدور الرواية عنه(عليه السلام) ، إلاّ أنّ الظاهر أنّ محطّ النظر في الرواية إلى الرئاسة والخلافة والتسلّط على الناس وأخذ أُمورهم باليد ، لا مجرّد المرجعيّة في الفتوى وأخذ مسائل الحلال والحرام ومعالم الدين منه ، كما لا يخفى .
ومنها : ما رواه أيضاً في محكي البحار ، عن عيون المعجزات ، عن الجواد(عليه السلام) ، أ نّه قال مخاطباً عمّه : يا عمّ إ نّه عظيم عند الله أن تقف غداً بين يديه فيقول لك : لم تفتي عبادي بما لم تعلم ، وفي الأُمّة من هو أعلم منك؟(2)
ولم يعلم كون المراد بالفتوى هي الفتوى المصطلحة ، بل لا يبعد القول بأنّ المراد بها هي الخلافة الراجعة إلى دعوة الناس إلى نفسه مع ثبوت الأعلم بين الناس ، مع أنّ سند الرواية لا يمكن الاعتماد عليه .
وقد انقدح من جميع ذلك أنّ الأدلّة التي استدلّ بها على تعيّن تقليد الأعلم كلّها مخدوشة إلاّ السيرة العقلائيّة الجارية على الرجوع إلى خصوصه ، وقد تقدّم
- (1) الاختصاص : 251 ، وعنه بحار الأنوار : 2 / 110 ح 16 .
-
(2) عيون المعجزات : 120 ، وعنه بحار الأنوار : 50 / 100 ح 12 .
(الصفحة 154)
توضيحها(1) .
وأمّا ما استدلّ به على عدم تعيّن تقليد الأعلم ، فوجوه أيضاً :
منها : التمسّك بإطلاق الأدلّة الواردة في جواز الرجوع إلى الفقيه ، وحجّيّة فتوى المجتهد من الآيات والروايات(2) الدالّة على ذلك بنحو العموم ; فإنّ مقتضاها أنّ موضوع الحجّية هو إنذار الفقيه ، وكون المجيب أهل الذكر ، وكون الفقيه واجداً للأوصاف المذكورة في رواية الاحتجاج(3) ، وإطلاقها يقتضي جواز الرجوع إلى كلّ من الأعلم وغيره مع صدق هذه العناوين ، من دون فرق بين صورة عدم العلم بالمخالفة بينهما وصورة العلم بها ، كما لا يخفى (4).
والجواب ـ بعد تسليم الدلالة على مشروعيّة التقليد وأصل حجّية فتوى المجتهد ، حيث عرفت سابقاً المناقشة في ذلك ـ : إنّا وإن ذكرنا(5) أ نّه لا مانع من شمول إطلاق أدلّة الحجّيّة لصورة التعارض وفرض الاختلاف ; لعدم كون الحجّية المجعولة بنحو الوجود الساري والطبيعة الصادقة على كلّ فرد ، بل بنحو البدليّة وصرف الوجود ، ولا مانع حينئذ من الشمول للمختلفين ، إلاّ أنّ ذلك فرع تماميّة الإطلاق وتحقّق شرائط التمسّك به ، ووجود مقدّمات الحكمة التي عمدتها كون المتكلّم في مقام البيان ، وذكر جميع الخصوصيّات التي لها دخل في ترتّب الحكم وثبوته .
- (1) في ص 142 ـ 143 .
-
(2) تقدّم ذكرها في ص 71 ـ 88 .
-
(3) تقدّمت في ص 82 ـ 83 .
-
(4) الفصول الغرويّة: 423 ، جواهر الكلام: 40 / 43 ـ 44 .
-
(5) في ص125 ـ 127 ، 141 ـ 142 .
(الصفحة 155)
ومن الواضح عدم تحقّق هذا الشرط في الآيات ; لوضوح أنّ آية النفر إنّما تكون بصدد بيان إيجاب النفر على طائفة من كلّ فرقة ليتفقّهوا في الدين ولينذروا بعد الرجوع ، ولازم ذلك وإن كانت هي الحجّية ، إلاّ أنّها لا تكون بصدد إفادة الحجّية المطلقة ، الشاملة لصورتي وجود الأعلم وعدمه ، وفرضي التعارض وعدمه ، وكذا آية السؤال ; فإنّ غاية مفادها لزوم التداوي على الجاهل بالرجوع إلى العالم . وأمّا أنّ قول العالم حجّة مطلقاً وفي جميع الموارد والفروض ، فلا دلالة لها عليه بوجه .
وهذا نظير إلزام المريض بالرجوع إلى الطبيب ; فإنّ النظر فيه إنّما هو بيان أنّ المريض إذا أراد الشفاء والتخلّص من مرضه ، يكون طريق ذلك هو الرجوع إلى الطبيب وترتيب الأثر على قوله ورأيه ، ولا دلالة في هذا الكلام على لزوم تطبيق العمل على قوله ، ولو مع وجود الأعلم منه وثبوت الاختلاف بين النظرين والتعارض بين الاعتقادين .
ولعمري أنّ هذا من الوضوح بمكان ، وهكذا الرواية العامّة المذكورة ; فإنّ النظر فيها إنّما هو نفي جواز تقليد الفقيه غير المتّصف بالأوصاف المذكورة فيها ، مثل علماء اليهود المرتكبين للمعاصي والمحرّمات . وأمّا أنّ كلّ فقيه واجد لتلك الأوصاف فهو جائز التقليد ; سواء كان الأفقه موجوداً أم لا ، والتعارض بين الفتويين ثابتاً أم لا ، فلا دلالة له عليه كما هو غير خفيّ ، فالتمسّك بالإطلاق مخدوش من هذه الجهة .
ومنها : ـ وهو العمدة في الباب ـ الروايات الكثيرة الدالّة على أنّ الأئـمّة(عليهم السلام)
قد أرجعوا جماعة من الشيعة إلى جمع من أصحابهم ; كزرارة ، ويونس بن عبدالرحمن ، ومحمّد بن مسلم ، وأبي بصير ، وزكريّا بن آدم ، وغيرهم(1) ، والتمسّك
- (1) وسائل الشيعة : 27 / 136 ـ 151 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب11 .