(الصفحة 159)
ففي الحقيقة تترتّب ثمرة عمليّة على كون المستند في وجوب تقليد الأعلم هو الدليل أو حكم العقل بالاحتياط ، وذلك فيما إذا كان هناك مجتهد واحد قلّده المكلّف العامّي في برهة من الزمان ، ثمّ وجد من هو أعلم منه ، أو كان هناك مجتهدان متساويان في الفضيلة ، اختار المكلّف واحداً منهما ، ثمّ صار الآخر أعلم ; فإنّه إذا كان المستند في وجوب تقليد الأعلم هو حكم العقل والاحتياط العقلي لما كان له ـ أي لحكم العقل ـ مجال في هذين الفرضين ; فإنّ أصالة التعيين إنّما تجري فيما إذا لم يكن هناك أصل شرعيّ مثبت لجواز الأخذ بالطرف الآخر .
ضرورة أ نّه مع جريان الأصل الشرعي لا يكون الأمر دائراً بين التعيين والتخيير حتى يحكم فيه العقل بالاحتياط والأخذ بالمعيّن ، مع أ نّه في الفرض الأوّل يكون مقتضى الاستصحاب بقاء حجّية فتوى المجتهد الأوّل الذي قلّده ، فيجوز البقاء على تقليده وإن وجد من هو أعلم منه ، وفي الفرض الثاني يكون مقتضى الاستصحاب بقاء الحجّية التخييريّة الثابتة قبل بلوغ الآخر إلى مقام الأعلميّة ، فيجوز البقاء على تقليد الأوّل .
وأمّا لو كان المستند هو الدليل وكان الوجوب بنحو الفتوى لما كان مجال للاستصحاب في الفرضين ; لأ نّه مع قيام الدليل على تعيّن تقليد الأعلم لا يجري الاستصحاب ولا غيره من الأُصول العمليّة ، كما هو المحقَّق في محلّه .
وقد اعترضنا سابقاً(1) على سيّدنا العلاّمة الاُستاذ الماتن ـ دام ظلّه ـ بأ نّه لايكاد يجتمع الحكم بلزوم تقليد الأعلم من باب الاحتياط مع الحكم بعدم جواز العدول إلى المساوي احتياطاً ، والحكم بوجوب العدول إلى الأعلم كذلك ، وذكرنا
(الصفحة 160)
أ نّ مقتضى لزوم تقليد الأعلم احتياطاً هو جواز العدول إليه إذا كان مبنى عدم جواز العدول إلى المساوي أيضاً هو حكم العقل ، ومقتضى ذلك ترتّب ثمرة عمليّة اُخرى على كون المستند في لزوم تقليد الأعلم هو الدليل ، أو حكم العقل بالاحتياط .
فإنّه في الصورة الاُولى يجب العدول إلى الأعلم في الفرض المذكور . وفي الصورة الثانية يجوز العدول إليه من دون أن يكون واجباً ; لأنّ مبنى كلا الحكمين على الاحتياط وحكم العقل ، من دون أن يكون هناك مرجّح في البين ، فلا يبقى مجال إلاّ للجواز كما لا يخفى . هذا تمام الكلام في الصورة الأُولى .
الصورة الثانية : ما إذا علمت الموافقة بينهما في الفتوى ، ولا يترتّب في هذه الصورة على القول بتعيّن تقليد الأعلم ثمرة أصلا ; لما ستعرف من عدم لزوم الاستناد بوجه .
الصورة الثالثة : ما إذا لم تعلم الموافقة والمخالفة بينهما ، ونقول : حكم هذه الصورة عند الشكّ وعدم دلالة الدليل على أحد الطرفين حكم الصورة الاُولى ; ضرورة أنّ حكم العقل بالاحتياط يجري في هذه الصورة أيضاً ، من دون فرق بينها وبين الصورة الأُولى . وأمّا مع ملاحظة الأدلّة فلا خفاء في أ نّه لو لم نقل بتعيّن تقليد الأعلم في الصورة الأُولى لكان لازمه القول بعدم التعيّن هنا بطريق أولى ، فالنزاع في هذه الصورة يختصّ بالقائل بالتعيّن في الصورة الأُولى ، كما هو ظاهر .
فنقول : قد استدلّ على تعيّن تقليد الأعلم في هذه الصورة بما استدلّ به عليه في تلك الصورة من الأدلّة الكثيرة المتقدّمة ; من الإجماع والسيرة والأقربيّة والروايات المتعدّدة من المقبولة وغيرها ; بدعوى أنّ مقتضاها عدم الفرق بين ما إذا كانت المخالفة بين الأعلم وغيره معلومة أو كانت مشكوكة ، وعدم اختصاص تلك
(الصفحة 161)
الأدلّة من حيث مفادها بخصوص صورة العلم بالمخالفة ، فالصورتان مشتركتان من حيث الدليل .
أقول : أمّا ما عدا السيرة من تلك الأدلّة فقد عرفت عدم نهوضها على لزوم تقليد الأعلم في الصورة الأُولى فضلا عن المقام ; لما مرّ من المناقشة أو المناقشات فيها ، وعلى تقدير تسليم صلاحيّتها للاستدلال بها في تلك الصورة لا مجال لدعوى شمولها للمقام ; فإنّ الإجماع لا إطلاق لمعقده يشمل المقام ، بل القدر المتيقّن هي صورة العلم بالمخالفة وتحقّق الاختلاف ، والأقربيّة غير محرزة في المقام ; لأنّها فرع المخالفة وهي مشكوكة ، والمقبولة موردها صورة العلم باختلاف الحكمين ومستند الرأيين ، وكذا ما يشابهها من الروايتين ، فلا تغفل .
وأمّا السيرة ، فالظاهر جريانها في المقام أيضاً ; فإنّه إذا رجع المريض إلى الطبيب غير الأعلم مع وجود من هو أعلم منه ، وإمكان الوصول والمراجعة إليه ، واحتمال الاختلاف بينهما في النظر والرأي وكيفيّة المعالجة والتداوي ، وكون
المرض ممّا لا يجوز عند العقلاء التسامح فيه وفي علاجه ; لكونه من الأمراض المهلكة ; فإنّه مع ذلك إذا رجع إلى غير الأعلم ولم يؤثّر علاجه بوجه ، فهل
يكون معذوراً عند العقلاء؟ وهل يصحّ الاحتجاج بمجرّد احتمال عدم اختلاف رأيه مع رأي الأعلم؟! الظاهر العدم ، بل يستحقّ الملامة والتوبيخ ، ولا يعدّ معذوراً
بوجه .
فالإنصاف أنّ السيرة العقلائيّة الجارية على الرجوع إلى الأعلم في الصورة الأُولى موجودة في المقام . غاية الأمر أ نّه لابدّ من ملاحظة أدلّة القائل بعدم لزوم تقليد الأعلم في هذه الصورة ، فإن تـمّت تكون رادعة عن السيرة ، وإلاّ يكون عدم الردع كاشفاً عن الرضا والإمضاء ، كما استكشفناه في الصورة الأُولى .
(الصفحة 162)
وأمّا ما استدلّ به على عدم التعيّن في هذه الصورة فاُمور :
الأوّل : إطلاقات الأدلّة القائمة على حجّية فتوى الفقيه من الآيات والروايات المتقدّمتين(1) ، وقد خرجنا عنها في صورة العلم بالمخالفة ، وبقيت صورة العلم بالموافقة وصورة الشكّ في المخالفة مشمولتين لها باقيتين تحتها ، فمقتضى الإطلاقات حينئذ جواز الرجوع إلى غير الأعلم ، كما هو ظاهر (2).
وقد نوقش فيه بأ نّه لا مجال للتمسّك بالإطلاقات بعد خروج صورة العلم بالمخالفة ; لأ نّه من التمسّك بالإطلاق في الشبهة المصداقيّة للمقيّد ، وهو كالتمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة للمخصّص غير جائز ، كما حقّق في بحث العام والخاص من الأُصول .
وأُجيب عن هذه المناقشة بأنّ التمسّك بالعموم وكذا بالمطلق في الشبهة المصداقيّة وإن كان غير جائز ، إلاّ أنّ ذلك إنّما هو فيما إذا كان المخصّص أو المقيّد لفظيّاً ، وأمّا إذا كان لبِّيّاً ، كما إذا كان الدليل عليه هو الإجماع أو حكم العقل فلا مانع عن التمسّك به.
والأمر في المقام كذلك ; فإنّ صورة العلم بالمخالفة إنّما خرجت من المطلقات من جهة أنّ شمولها لها يستلزم الجمع بين الضدّين أو النقيضين ، فالمخصّص إنّما هو حكم العقل ، فلا مانع حينئذ من التمسّك بالعموم .
وأُورد على هذا الجواب بأ نّه لا فرق في عدم الجواز بين أن يكون المخصّص لفظيّاً أو لبِّيّاً ; لأنّ التقييد والتخصيص يوجبان تعنون المطلق والعامّ لا محالة بعنوان مّا ; لاستحالة الإهمال في مقام الثبوت ، وعليه : لا يحرز أنّ العنوان المقيّد
- (1) في ص71 ـ 88 .
-
(2) مفاتيح الاُصول: 632، درر الفوائد للشيخ عبد الكريم الحائري : 713 .
(الصفحة 163)
صادق على المورد المشكوك فيه .
وربما يقال : إنّ الصحيح في الجواب أن يُقال : إنّ المناقشة غير واردة في نفسها ; لأنّ الشبهة وإن كانت موضوعيّة مصداقيّة ، إلاّ أنّ هناك أصلا موضوعيّاً يحرز به أنّ المورد المشتبه من الأفراد الباقية تحت العموم ; إذ لا فرق في إحراز الفرديّة بين أن يكون من طريق الوجدان أو بالتعبّد .
وفي المقام يجري استصحاب عدم المخالفة بين المجتهدين بالعدم الأزلي ; لأنّ المخالفة أمرٌ حادث مسبوق بالعدم ، نظير أصالة عدم القرشيّة في المرأة التي يشكّ في قرشيّتها ، الحاكمة بدخولها تحت الأدلّة الدالّة على أنّ المرأة تحيض إلى خمسين ، بل يمكن ذلك بالاستصحاب النعتي أيضاً ; لأنّ المجتهدين كانا في زمان ولم يكونا مخالفين في الفتوى ولو من جهة عدم بلوغهما مرتبة الاجتهاد ، ومقتضى الأصل أنّهما الآن ،كما كانا سابقاً(1).
أقول : وفي جميع ما ذكر نظر .
أمّا الاستدلال بالإطلاقات ، فيرد عليه ـ ما مرّ منّا(2) ـ : من أ نّه ليس في هذا الباب إطلاق يصحّ الاحتجاج به والاستناد إليه ; لعدم كون المطلقات في مقام البيان من هذه الحيثيّة ، فلا مجال للتمسّك بها .
وأمّا المناقشة فيه بأ نّه من قبيل التمسّك بالإطلاق في الشبهة المصداقيّة للمقيّد ، فيرد عليها : أنّ دعوى المستدلّ إنّما ترجع إلى أنّ الخارج من الإطلاقات خصوص
- (1) لاحظ التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد والتقليد: 159 ـ 160 ومصباح الاُصول: 3 / 455، ودروس في فقه الشيعة: 1 / 89 ـ 90، حتى يظهر لك أنّ المناقشة وجواب المناقشة وجواب الجواب كلّها من السيد الخوئي.
-
(2) في ص154 ـ 155 .