(الصفحة 164)
صورة العلم بالمخالفة ، والشكّ في خروج صورة الشكّ إنّما هو من الشكّ في تقييد زائد ; وهو كالشكّ في تخصيص زائد لا يرجع فيه إلاّ إلى الإطلاق .
وبعبارة أُخرى : لو كان مدّعى المستدل راجعاً إلى أنّ الخارج هي صورة المخالفة الواقعيّة بين الفتويين ، لكان التمسّك في فرض الشكّ من ذلك القبيل ، وأمّا مع صراحة دعواه في أنّ الخارج هي صورة العلم ، فلا مجال للمناقشة في دليله بكون التمسّك في صورة الشكّ إنّما هو من ذلك القبيل ، وهذا كما لو كان الخارج عن عموم «أكرم العلماء» خصوص معلوم الفسق منهم ; فإنّه مع الشكّ في تحقّق الفسق وعدمه ، وعدم ثبوت الحالة السابقة لأحد الطرفين لا محيص عن الرجوع إلى العامّ ، كما هو واضح.
وأمّا الجواب عن المناقشة بأ نّه إذا كان المخصّص لُبِّيّاً لا مانع من الرجوع ، والمقام من هذا القبيل ، فيرد عليه بأ نّه لو سلّمنا أنّ الخارج عن المطلقات إنّما هي صورة المخالفة الواقعيّة ، والتمسّك بها مع الشكّ في المخالفة من قبيل التمسّك بالإطلاق في الشبهة المصداقيّة للمقيّد ; لكنّه نقول : إنّ خروج المخالفة ليس لأجل حكم العقل بلزوم اجتماع النقيضين أو الضدّين حتى يكون المخصّص لُبِّياً ; فإنّه على هذا التقدير لا يبقى فرق بين صورة اختلاف المجتهدين في الفضيلة وتساويهما ، بل لأجل خصوص ما يدلّ على خروج صورة مخالفة المجتهدين مع اختلافهما في الفضيلة ودوران الأمر بين العالم والأعلم .
وبعبارة أُخرى : محلّ الكلام خروج صورة المخالفة في المقام لا مطلقاً ، ومن المعلوم ـ كما مرّ ـ أنّ الدليل على خروجها إنّما هو مثل المقبولة المتقدّمة(1) ،
(الصفحة 165)
ولاينحصر بالأدلّة اللُّبيّة ; لِما عرفت(1) من الوجوه المتقدّمة المتعدّدة الدالّة على تعيّن تقليد الأعلم ، مع العلم بالاختلاف، فراجع .
وأمّا ما أُفيد أخيراً من إحراز الفرديّة بمعونة الأصل الموضوعي ، فيرد عليه : عدم تماميّته في المقام ; لأنّ إجراء استصحاب عدم المخالفة نظير استصحاب عدم القرشيّة قد حقّقنا في الاُصول عدم تماميّته ; لعدم وجود الحالة السابقة ، وإجراؤه بنحو الاستصحاب النعتي أيضاً غير تامّ ; لأنّ عدم الاختلاف في الفتوى قبل الاجتهاد أو الاستنباط إنّما هو بنحو السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع ، ومجرّد ثبوت الشخصين لايصحّح النعتيّة بوجه ، بل لابدّ من ملاحظة وجود موضوع الاختلاف وهو الفتوى والنظر والرأي والاعتقاد ، وليس له حالة سابقة كما هو ظاهر . هذا ، وقد عرفت(2) الجواب عن أصل الاستدلال ; وهو منع الإطلاق كما مرّ .
الثاني : أنّ الأئمة(عليهم السلام) قد أرجعوا عوامّ الشيعة إلى خواصّ أصحابهم ; كزرارة ، ومحمّد بن مسلم ، ويونس بن عبدالرحمن ، وزكريا بن آدم ، وأضرابهم ، وهم على تقدير كونهم متساويين في الفضيلة ، فلا أقلّ من أنّ بينهم الإمام(عليه السلام) الذي لايحتمل فيه الخطأ والاشتباه أصلا ، فالوجه في الإرجاع إنّما هو عدم معلوميّة الاختلاف بينهم وبينه(عليه السلام) .
وحينئذ نقول : إذا جاز تقليد غير الأعلم مع وجود الأعلم الذي لا يجري فيه احتمال الخطأ عند عدم العلم بالاختلاف ، فجوازه مع وجود الأعلم الذي يجري فيه هذا الاحتمال في هذه الصورة بطريق أولى (3).
- (1) في ص 140 ـ 153 .
-
(2) في ص 154 .
-
(3) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد والتقليد: 162.
(الصفحة 166)
والجواب عنه ما مرّ سابقاً(1) من أنّ الظاهر أنّ الإرجاع إنّما هو لأجل عدم الاختلاف بينهم وبينه لعدم الواسطة ، لا لأجل عدم العلم بالاختلاف ، مضافاً إلى أنّ الوصول إلى الإمام(عليه السلام) لم يكن ميسوراً غالباً ; لوجود موانع كثيرة وروادع متنوّعة ، وقد صرّح ببعضها في بعض روايات الإرجاع ، كرواية الإرجاع إلى زكريا بن آدم ، حيث يقول الراوي : شقّتي بعيدة ولست أصل إليك في كلّ وقت(2) . فلا مجال للاستدلال بهذه الروايات على حكم المقام .
الثالث : التمسّك بالسيرة العقلائيّة مع عدم العلم بالاختلاف (3).
والجواب ما مرّ سابقاً(4) من أنّ السيرة قد استقرّت على الرجوع إلى الأعلم ولو مع الشكّ في المخالفة . غاية الأمر فيما إذا كانت الخصوصيّات التي ذكرناها محفوظة . فالإنصاف أ نّه لا فرق في تعيّن تقليد الأعلم بين صورة العلم بالمخالفة وصورة الشكّ فيها أصلا ، وأنّ الدليل على التعيّن في المقامين واحد . هذا تمام الكلام
في المقام الأوّل .
المقام الثاني : في وجوب الفحص عن الأعلم ، والدليل على الوجوب هو الدليل على وجوب الفحص عن المجتهد ; لأ نّه إذا لم يرد المكلّف العامّي العمل على طبق الاحتياط الذي به يحصل القطع بالامتثال وتحقّق الفراغ عن عهدة التكاليف
- (1) في ص 154 ـ 155 .
-
(2) اختيار معرفة الرجال ، المعروف بـ «رجال الكشّي» : 595 ح1112 ، وعنه وسائل الشيعة : 27 / 146 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب11 ح27 .
-
(3) رسالة في تقليد الأعلم للمحقّق الرشتي: 71; التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد والتقليد: 162ـ163.
-
(4) في ص161 .
(الصفحة 167)
المعلومة بالإجمال ، المنجّزة عليه بسبب هذا العلم ، وأراد الاستناد إلى الحجّة وتطبيق العمل عليها ، فلابدّ له من الفحص عنها ليظفر بها ، وكما أنّ فتوى المجتهد حجّة عليه مع الانفراد فيجب الفحص عنها ، كذلك فتوى الأعلم حجّة عليه تعييناً ، بناءً على تعيّن تقليده كما اخترناه ، فيجب الفحص عنها ، كما أنّ المجتهد يجب عليه الفحص عن الحجّة إذا لم يرد الاحتياط ، وممّا ذكرنا ظهر أنّ وجوب الفحص وجوب عقليّ إرشاديّ ، والغرض منه عدم وقوع المكلّف في معرض احتمال المخالفة المستتبعة للعقوبة ، كما هو واضح .
المقام الثالث : فيما إذا تساوى المجتهدان في العلم ، أو لم يعلم الأعلم منهما .
أمّا صورة إحراز التساوي ، فقد مرّ(1) البحث عنها مفصّلا في المسألة الرابعة المتعرّضة لبحث العدول .
وأمّا صورة عدم العلم بالأعلم منهما ; بمعنى وجود الأعلم يقيناً بينهما وجريان احتمال الأعلميّة في كلّ منهما ، فالحكم فيها لا محالة هو التخيير ; لثبوت الحجّيّة لكلتا الفتويين وعدم مزيّة في البين ; لجريان احتمال الأعلميّة في كلا المجتهدين ; لكنّه فيما إذ لم يكن المورد من موارد إمكان الاحتياط ، إمّا لأجل عدم إمكانه بنفسه ،
وإمّا لأجل عدم سعة الوقت للجمع بين الفتويين ، وأمّا إذا كان المورد من موارد إمكان الاحتياط فسيأتي البحث عنه في المسألة السادسة ، ولا فرق بين أن تكون المخالفة بينهما معلومة أو مشكوكة .
نعم ، لو كان هناك احتمال التساوي أيضاً يتحقّق فرق ، من جهة أ نّه ـ مع عدم هذا الاحتمال ـ لا مجال لجريان استصحاب عدم الأعلميّة بوجه ; لأجل المعارضة
(الصفحة 168)
والمخالفة للعلم الإجمالي بوجود الأعلم في البين ، ومعه لا مانع من جريانه من هذه الحيثيّة ; لعدم وجود العلم الإجمالي ، إلاّ أ نّه لا يترتّب عليه ثمرة ; لأنّ الحكم بالتساوي الذي هو حكم العقل إنّما يكون موضوعه مجرّد جريان احتمال الأعلميّة في كلا المجتهدين ، فلا حاجة إلى إثبات التساوي بالاستصحاب ، وهذا نظير حكم العقل بلزوم الإتيان بالواجب الذي شكّ في الإتيان به وتحقّق الفراغ عن عهدته ; فإنّ مجرّد الشكّ يكفي في حكم العقل بالاشتغال ، ولا حاجة إلى إثبات عدم الإتيان بالاستصحاب ، كما هو غير خفيّ .
المقام الرابع : فيما إذا كان المجتهدان متساويين في العلم ، ولكنّه كان أحدهما المعيّن أورع أو أعدل ، وقد حكم في المتن بأنّ الأولى الأحوط اختياره ، ومرجعه إلى عدم تعيّنه ; لعدم كون الاحتياط بنحو الوجوب ، ولكنّه ربما يقال بأ نّه يجب على المكلّف العامّي اختياره ، وأنّ الأورعيّة مرجّحة مثل الأعلميّة ، بل يظهر من العروة(1) قيام الدليل على مرجّحيّة الأورعيّة ، واقتضاء حكم العقل بالاحتياط مرجّحيّة الأعلميّة ، وعليه : فتكون الأورعيّة أقوى من الأعلميّة ، وكيف كان ،
فما يمكن أن يستدلّ به على مرجّحية الأورعيّة اُمور :
أحدها : المقبولة وما يشابهها من الروايات الواردة في باب القضاء ، الدالّة على الترجيح بالأورعيّة ، ففي المقبولة : الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما
في الحديث وأورعهما(2) .
والجواب : ما عرفت من ورودها في باب القضاء وفصل الخصومة(3) ، ولم يقم
- (1) العروة الوثقى : 1 / 7 مسألة 13 .
-
(2) تقدّمت في ص 146 .
-
(3) في ص147 ـ 151 .