(الصفحة 203)
أمّا الصورة الأُولى : فلا دليل على الحجّية فيها ; لأ نّه مع الاختلاف بينه وبين غيره في الفتوى والنظر ـ كما هو الغالب والمفروض ـ يكون الدليل قاصراً عن شموله ; لأنّ المتعارضين غير مشمولين لأدلّة الحجّية ، والقاعدة تقتضي التساقط مع التعارض ، كما قد تقدّم البحث عنه(1) ، والإجماع القائم على التخيير بين المجتهدين المتساويين في الفضيلة على تقدير ثبوته ـ كما ادّعاه شيخنا الأنصاري(قدس سره) (2) ـ لايشمل المقام ; فإنّ القدر المتيقّن منه تساوي المجتهدين من الأحياء ; فإنّ الأموات أنفسهم قد ادّعوا الإجماع على عدم جواز الأخذ بآرائهم بعد انقضاء حياتهم ،
كما مرّ نقل كلمات جملة من أعلامهم(3) .
وأمّا الصورة الثانية : فلأنّ مقتضى السيرة العقلائيّة الجارية على الأخذ برأي الميّت من ناحية ، وعلى الأخذ بقول الأعلم من المتخالفين من ناحية اُخرى ، وإن كان هو الجواز ، إلاّ أنّك عرفت(4) أنّ مجرّد جريان السيرة لا يكفي ما دام لم يكن مورداً لإمضاء الشارع لفظاً ، أو مستكشفاً من طريق عدم الردع ، وعدم ثبوت الإمضاء يكفي في عدم جواز ترتيب الأثر عليه ، فضلا عمّا إذا ثبت الردع من طريق الإجماع الكاشف عن موافقته لرأي المجمعين ، وعدم تجويزه الأخذ برأي الميّت والرجوع بفتواه ، كما عرفت .
وممّا ذكرنا يظهر مواضع الردّ والقبول والخلط في هذا الدليل ، فتأمّل .
- (1) في ص 141 ـ 142 .
-
(2) حكى عنه في التنقيح في شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 106 ، ولم نعثر عليه في كتب الشيخ ، إلاّ أنّه يمكن استظهاره من رسالته في الاجتهاد والتقليد ، ضمن مجموعة رسائل: 71 .
-
(3) في ص194 ـ 195 .
-
(4) في ص68 ـ 70 .
(الصفحة 204)
وأمّا ما استدلّ به على عدم الاشتراط وجواز الرجوع إلى فتوى المجتهد الميّت ابتداءً فوجوه أيضاً :
الأوّل : إطلاق أدلّة جواز التقليد وحجّية فتوى المجتهد من الآيات والروايات الواردة في هذا الباب(1) ; فإنّها غير مقيّدة بحال الحياة ، فكما أنّها تدلّ على حجّية فتوى الحيّ ، كذلك تشمل فتوى المجتهد الميّت ، نظراً إلى إطلاقها .
والجواب عنه ـ مضافاً إلى أنّ أغلب تلك الأدلّة غير خالية عن المناقشة في الدلالة على أصل جواز التقليد وحجّية الفتوى ، بالنحو الذي هو محّل البحث ،
لِما عرفت سابقاً(2) ـ : ما مرّت الإشارة إليه ; من أنّ العناوين المأخوذة فيها
ظاهرة في الفعليّة التي لا تجتمع إلاّ مع وصف الحياة ، فكما أنّ قوله : «الخمر
حرام» ظاهر في الخمر الفعلي لا ما كان خمراً سابقاً ، وقوله : «العالم يجب إكرامه» ظاهر في المتّصف بالعلم فعلا ، كذلك قوله : «الفقيه المنذر» ظاهر
في المتّصف بهما فعلا .
وهكذا سائر العناوين المأخوذة فيها ، وإن شئت قلت : إنّ المشتقّ ظاهر في خصوص المتلبّس بالمبدأ في الحال ; لأ نّه حقيقة فيه ، ومن المعلوم أنّ الاتّصاف بالفعل ملازم لوجود قيد الحياة .
نعم ، قد عرفت(3) أ نّه لا دلالة لهذه الأدلّة على اشتراط وصف الحياة بنحو يفيد نفي الحجّية بالإضافة إلى الميّت ، بل هي ساكتة عن التعرّض لها .
ومن هنا ينقدح أ نّه لا دلالة لها على قول النافين ولا المثبتين ، بل تجتمع مع
- (1) الوافية: 305 ـ 306 .
-
(2 ، 3) في ص197 ـ 202 .
(الصفحة 205)
كليهما ; لسكوتها عن الدلالة على النفي ، أو الإثبات فيما هو محلّ الكلام ومورد النقض والإبرام . نعم ، قد عرفت أنّ هنا رواية واحدة عامّة ظاهرة في اشتراط الحياة ، ضعيفة من حيث السند .
الثاني : جريان السيرة المستمرّة العمليّة من العقلاء على الرجوع إلى آراء العلماء وأنظار المطّلعين ، من دون فرق بين الأحياء والأموات (1)، ولا مجال للإشكال فيه ، كما عرفت(2) .
والجواب عنه : أنّ حجّية السيرة موقوفة على إمضاء الشارع وعدم ردعه عنها ، وقد مرّ(3) أنّ الإجماع الكاشف عن موافقة المعصوم(عليه السلام) لرأي المجمعين ، وحكمهم بعدم جواز تقليد الميّت ابتداءً كاف في مقام الردع ، وعدم اتّصاف السيرة بوصف الحجّية ، كما هو ظاهر .
الثالث : استصحاب حجّية فتوى المجتهد الميّت ; لأنّها كانت مقطوعة قبل موته ، وبعده يشكّ في بقائها ، فلا مانع عن استصحابها أصلا ، ويكفي هذا الاستصحاب الذي لازمه جواز الأخذ بفتوى الميّت في الخروج عن الأصل الأوّلي ، الذي كان مرجعه إلى أنّ الشكّ في الحجّية مساوق للقطع بعدمها ; لأ نّه مع جريانه لا يبقى شك في الحجّية ، كما لا يخفى (4).
وقد أُورد على جريان هذا الاستصحاب بوجوه متعدّدة :
منها : أنّه يعتبر في جريان الاستصحاب أن يكون المستصحب مجعولا شرعيّاً ، أو موضوعاً لأثر شرعيّ ، وهذا الشرط متحقّق في المقام على تقدير كون الحجّية
- (1) لاحظ التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد والتقليد: 101 .
-
(2، 3) في ص200 ـ 202 .
-
(4) درر الفوائد للشيخ عبد الكريم الحائريّ : 2/703 ـ 705 ; بحوث في الاُصول، الاجتهاد والتقليد: 21 ـ 24 .
(الصفحة 206)
المستصحبة متأصّلة في الجعل ، بحيث يصحّ اعتبارها من مجرّد جعلها ، وتترتّب عليها آثارها عقلا من صحّة اعتذار كلّ من المولى والعبد بها ، مع أ نّه غير ظاهر ، بل الظاهر أنّها منتزعة عن الحكم الظاهريّ الراجع إلى الأمر بالعمل بالواقع ـ على تقدير المصادفة ـ نظير الأمر بالاحتياط في بعض موارد الشكّ ، وإلى الترخيص على تقدير المخالفة ; فإنّ ذلك هو منشأ صحّة الاعتذار والاحتجاج (1).
والجواب عنه : أنّ الحجّية ـ كما قد حقّق في محلّه ـ من الأحكام الوضعيّة القابلة لتعلّق الجعل بها مستقلاًّ (2)، ويصحّ انتزاعها من مجرّد جعلها ، فهو مجعول شرعيّ لامانع من جريان الاستصحاب فيها بوجه .
ومنها : ما أفاده المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) في الكفاية ، وحاصلة : أنّ جريان الاستصحاب يتوقّف على بقاء موضوع المستصحب عرفاً ، والموضوع في المقام غير باق ; لأنّ الرأي متقوّم بالحياة بنظر العرف ، والموت عند أهل العرف موجب لانعدام الميّت ورأيه ، وإن لم يكن كذلك واقعاً ; لتقوّم الرأي بالنفس الناطقة غير الزائلة بالموت لتجرّدها ، لكنّ المدار في الاستصحاب من جهة بقاء الموضوع وعدمه هو العرف ، فلا يجدي بقاء النفس عقلا في صحّة الاستصحاب مع عدم مساعدة العرف .
ودعوى أنّ الاعتقاد والرأي وإن كان يزول بالموت لانعدام موضوعه ، إلاّ أ نّه لا حاجة إلى بقاء الرأي ، بل مجرّد حدوثه في حال الحياة يكفي في جواز تقليده بعد موته ، كما هو الحال في الرواية ، حيث لا مدخليّة لبقاء حياة الراوي في حجّية
- (1) مستمسك العروة الوثقى: 1 / 15 ـ 16 .
-
(2) سيرى كامل در اصول فقه: 14 / 326 وما بعدها .
(الصفحة 207)
روايته وجواز الأخذ بها .
مدفوعة بأ نّه لا شبهة في أ نّه لابدّ في جواز التقليد من بقاء الرأي ، ولا يكفي مجرّد الحدوث ، ولذا لو زال بجنون وتبدلّ ، أو مرض أو هرم لما جاز قطعاً(1) .
ويؤيّده أنّ حجّية الرأي بالإضافة إلى العامّي ليست بأعظم منها بالإضافة إليه نفسه ، ومن المعلوم أنّ حجّية الرأي بالإضافة إلى نفسه لا يكفي فيها مجرّد الحدوث ; ضرورة أنّ الحجّية الثابتة لرأي المجتهد بالإضافة إلى نفسه ، موضوعها في كلّ زمان ، الرأي في ذلك الزمان ، لا صرف الحدوث ; ضرورة أ نّه لو زال رأيه بشبهة ونحوها لزالت الحجّية عنه قطعاً ، مضافاً إلى أنّ الموت ملازم لارتفاع الرأي غالباً قبله ولو آناً مّا ، فلا مجال لاستصحابه .
وأجيب عن هذا الإيراد بوجهين :
أحدهما : ما في المستمسك من أنّ الإجماع على عدم حجّية رأي المجتهد مع اختلال الشرائط ـ لو تمّ ـ لا يقتضي عدم الحجّية مع ارتفاع الحياة إذا كان محلاًّ للخلاف ، وارتفاع الحجّية بتبدّل الرأي إنّما هو لكون الحجّية مشروطة بعدم ظهور الخطأ له في المستند ، لا لكونها منوطة بالرأي حدوثاً وبقاءً ، ولذا ترى الشهادة تسقط عن مقام الحجّية إذا ظهر للشاهد الخطأ في المستند ، مع أنّها حجّة بحدوثها إلى الأبد ، ولا ترتفع حجّيتها بموت الشاهد أو نسيانه ، وارتفاع الرأي قبل الموت غالباً إن قام إجماع على قدحه فهو خارج عن محلّ الكلام ـ والكلام في غيره من الفروض ـ وإن لم يقم إجماع على ذلك لم يقدح في جريان الاستصحاب .
وبالجملة : احتمال حجّية الرأي بحدوثه إلى الأبد لا رافع له ، فلا مانع
- (1) كفاية الاُصول : 545 ـ 546 .