(الصفحة 208)
من الاستصحاب(1) .
ثانيهما : ما أفاده سيّدنا العلاّمة الاُستاذ الماتن ـ دام ظلّه ـ من أنّ مناط عمل العقلاء على رأي كلّ ذي صنعة في صنعته هو أماريّته وطريقيّته إلى الواقع ، وهو المناط في فتوى الفقهاء ; سواء كان دليل اعتباره بناء العقلاء الممضى ، أو الأدلّة اللفظيّة ; فإنّ مفادها أيضاً كذلك ، ففتوى الفقيه بأنّ صلاة الجمعة واجبة ، طريق إلى الحكم الشرعي وحجّة عليه ، وإنّما تتقوّم طريقيّتها وطريقيّة كلّ رأي خبير إلى الواقع إذا أفتى وأخبر بنحو الجزم ، لكنّ الوجود الحدوثي للفتوى بنحو الجزم يوجب كونها طريقاً إلى الواقع أبداً ، ولا ينسلخ عنها ذلك إلاّ بتجدّد رأيه ، أو الترديد فيه ، وإلاّ فهو طريق إلى الواقع ، كان صاحب الرأي حيّاً أو ميّتاً .
فإذا شككنا في جواز العمل به ; من حيث احتمال دخالة الحياة شرعاً في جوازه ، فلا إشكال في جريان الاستصحاب ووحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوك فيها ، فرأي العلاّمة وقوله وكتاب قواعده كلّ كاشف عن الأحكام الواقعيّة ، ووجوده الحدوثي كاف في كونه طريقاً ، وهو المناط في جواز العمل شرعاً ، ولدى العقلاء .
وإن شئت قلت : جزم العلاّمة أو إظهار فتواه جزماً ، جعل كتابه حجّة وطريقاً إلى الواقع ، وجائزَ العمل في زمان حياته ، ويشكّ في جواز العمل على طبقه بعد موته فيستصحب(2) ، انتهى موضع الحاجة من كلامه دام ظلّه .
أقول : وفي كلا الوجهين نظر :
أمّا الوجه الأوّل : فلأنّ التفكيك بين المقامين من جهة قيام الإجماع هناك وعدمه
- (1) مستمسك العروة الوثقى : 1 / 17 .
-
(2) الاجتهاد والتقليد للإمام الخميني: 122 ـ 123 .
(الصفحة 209)
هنا ممنوع ; لِما عرفت من قيام الإجماع هنا أيضاً على عدم الجواز(1) ، فلا فرق بينهما ، ولو فرض عدم تحقّق الإجماع في المقام ، فأيّ مانع من استفادة حكمه من تلك الموارد التي يكون الرأي فيها باقياً ، ولا يجوز للمقلّد الرجوع إليه والأخذ به ، مع أ نّه في حال الحدوث كان جائز الأخذ ، كما إذا عرض له الفسق مثلا ، بل لا فرق ظاهراً بين المقام ، وبين الموارد التي لا يكون الرأي باقياً لأجل جنون ، أو مرض ، أو هرم .
نعم ، في خصوص صورة التبدّل أو الترديد لا مجال لاستفادة حكم المقام منه ; لِما أفاده صاحب الوجه . وبالجملة : فالموارد مختلفة ، والملاك في أكثرها موجود
في المقام .
وأمّا الوجه الثاني : فلأنّه لو استندنا في المقام إلى علم العقلاء واستمرار سيرتهم على الرجوع إلى الخبير في كلّ فنّ وصنعة ، واستكشفنا أنّ المناط في عملهم هو الأماريّة والطريقيّة إلى الواقع ، وهي متقوّمة بالوجود الحدوثي وأصل تحقّق النظر والفتوى بنحو الجزم ، فلا حاجة لنا إلى الاستصحاب ، ولا يبقى شكّ في بقاء حجّية الرأي بعد موت صاحبه . غاية الأمر أنّ عدم الردع على فرض تماميّته يكشف عن الرضا والإمضاء ، فالحاجة إلى الاستصحاب إنّما هو مع قطع النظر عن السيرة العقلائيّة واستكشاف مناط عملهم ، وبهذه الملاحظة لا دليل على بقاء الموضوع عرفاً ، بعد ما يكون الموت عند أهل العرف موجباً لانعدام الشخص ورأيه رأساً ، كما هو غير خفيّ .
ومنها : أنّ الحجّية المجعولة الراجعة إلى جواز العمل على طبق فتوى المجتهد إن
(الصفحة 210)
كانت بنحو القضيّة الخارجيّة ; بمعنى أنّ كلّ مكلّف كان موجوداً جاز له الرجوع إليه ، فهو لا يفيد بالنسبة إلى الموجودين بعد حياته في الأعصار المتأخّرة ، وإن كانت بنحو القضيّة الحقيقيّة ; بمعنى أنّ كلّ من وجد في الخارج ، وكان مكلّفاً في كلّ زمان كان فتواه حجّة بالإضافة إليه ، فإن أُريد إجراء الاستصحاب التنجيزي فلا وجه له ; لعدم إدراك المتأخّرين زمان حياته ، فلا يقين بالنسبة إليهم ، وإن أُريد الاستصحاب التعليقي فجريانه بهذا النحو ممنوع .
وبعبارة أُخرى : أنّ المراد بالحجّية المستصحبة إن كان هي الحجّية الفعليّة فلا يقين بحدوثها ; لأنّ الفعليّة إنّما تتحقّق بوجود المكلّف العامّي في عصر المجتهد ، والمفروض عدم تحقّقه ، وإن كان هي الحجّية الإنشائيّة ، فهي وإن كانت متيقّنة على الفرض ، إلاّ أنّها ليست بمورد للاستصحاب ; للشكّ في سعة دائرة الحجّية المنشأة وضيقها ، وعدم العلم بأنّها هي الحجّية على خصوص من أدرك المجتهد وهو حيّ ، أو أنّها تعمّ من لم يدركه كذلك ، فلا علم لنا بثبوت الحجّية الإنشائيّة بعد الممات ليمكن استصحابها (1).
ويمكن الجواب عنه بأنّ جعل الأحكام على نحو القضيّة الحقيقيّة ليس مرجعه إلى أنّ لكلّ فرد من أفراد عنوان الموضوع إذا وجد يكون حكماً مجعولا برأسه ، بحيث يكون هناك التكثّر في الجعل حسب تكثّر المصاديق وأفراد الموضوع ، بل لايكون في القضيّة الحقيقيّة إلاّ جعل واحد متعلّق بعنوان واحد ، لكن هذا الجعل الواحد يكون حجّة بحكم العقل ، وعند العقلاء لكلّ من يكون مصداقاً للعنوان ، ومنطبقاً عليه الموضوع ، فقوله تعالى : {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ
- (1) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد والتقليد: 103 ; تهذيب الاُصول: 3 / 193 .
(الصفحة 211)
إِلَيْهِ سَبِيلاً}(1) لايتضمّن إلاّ جعلا واحداً متعلّقاً بعنوان واحد ;وهو «مَن استطاع» ، ولكن هذا الجعل ـ مع وحدته وعدم تكثّره ـ حجّة على كلّ متّصف بهذه الصفة .
فحينئذ لو علمنا بوجوب الحجّ بهذا النحو ، ثمّ شككنا في بقائه من جهة طروّ النسخ ، أو جهة اُخرى موجبة للشكّ في بقاء الحكم ، كما إذا احتملنا في وجوب صلاة الجمعة مثلا ، أن يكون مشروطاً بحضور الإمام(عليه السلام) ، بحيث يرتفع الوجوب بانعدام هذا الشرط وارتفاعه ، فأيّ مانع من جريان الاستصحاب ؟ وفي المقام أيضاً كذلك ، وقد حقّقنا في محلّه أنّ جريان الاستصحابات الحكميّة ممّا لا مانع منه أصلا (2).
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا في هذا المقام ـ أي المقام الأوّل ـ بطلان جميع الوجوه التي استند إليها للقول بجواز التقليد الابتدائي للميّت ، فلا محيص عن الالتزام باشتراط قيد الحياة في التقليد كذلك .
المقام الثاني : في جواز البقاء على تقليد الميّت وعدمه ، وبعبارة اُخرى : في اشتراط الحياة في المفتي بقاءً وعدمه ، والكلام فيه يقع في صورتين ; لأ نّه إمّا أن لاتعلم المخالفة بينه وبين الحيّ ـ الذي كان يجب الرجوع إليه على فرض عدم جواز البقاء على تقليد الميّت ـ في الفتوى والرأي ، وإمّا أن تعلم المخالفة بينهما فيها .
أمّا الصورة الاُولى : فقد استدلّ فيها على جواز البقاء بوجوه :
منها : الاستصحاب (3)، وتقريبه أنّه تارة : يستصحب الحكم الوضعي ; وهي الحجّية الثابتة لفتوى المجتهد الميّت قبل موته . واُخرى : يستصحب الحكم التكليفي ،
- (1) سورة آل عمران : 3 / 97 .
-
(2) سيرى كامل در اصول فقه: 14 / 38 وما بعدها و ص 326 وما بعدها .
-
(3) مفاتيح الاُصول: 624، الفصول الغرويّة : 423 .
(الصفحة 212)
وعلى هذا التقدير تارة: يستصحب الحكم الواقعيّ الثابت لصلاة الجمعة مثلا ، الذي تكون فتوى المجتهد الميّت طريقاً إليه ، وكاشفة عن ثبوته وتحقّقه . واُخرى:يستصحب الحكم الظاهري بناءً على كون الحجّية المجعولة للأمارة مستلزمة لإنشاء أحكام ظاهريّة على طبق مؤدّاها مطلقاً ; سواء كانت موافقة للواقع
أو مخالفة له ، كما نسب إلى المشهور (1).
أقول : أمّا استصحاب الحجّية فلا يرد عليه شيء من الإيرادات المذكورة في الاستصحاب المتقدّم في المقام الأوّل عدا كون الموضوع هو الرأي والنظر ، وهو
لا يكون باقياً بعد الموت بحسب نظر العرف والعقلاء ، حيث يرون الموت موجباً لانعدام الشخص بجميع شؤونه وآثاره ; وذلك لأنّ الحجّية الفعليّة تكون مجرى الاستصحاب في هذا المقام ; لأنّ المفروض وجود المكلّف في عصر المجتهد الميّت ، وثبوت الحجّية لفتواه بالإضافة إليه ، فلا مانع من استصحابها إلاّ على تقدير عدم جريان الاستصحابات الحكميّة ، أو دعوى عدم كون الحجّية مجعولا شرعيّاً ولا موضوعاً لأثر شرعيّ ، وكلاهما خلاف التحقيق .
وأمّا استصحاب الحكم الواقعي ، فيرد عليه : اختلال كلا ركني الاستصحاب ; لعدم اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء . أمّا اليقين بالحدوث ; فلعدم ثبوت اليقين الوجدانيّ ، واليقين التعبّدي ـ الذي هو نتيجة حجّية فتوى الميّت ، وكونها كاشفة عنه وطريقاً إليه أيضاً ـ غير ثابت بعد الموت ; لأنّ المفروض الشكّ في الحجّية بعد الموت ، فلا يقين بالحدوث في حال الشكّ في البقاء .
وتنظير المقام بموارد ثبوت العلم التعبّدي في الأحكام أو الموضوعات
- (1) لاحظ كفاية الاُصول: 547 .