(الصفحة 216)
وهذه العبارة واردة في دليل من آية أو رواية ، ليكون الحكم بالجواز دائراً مدار عنوان البقاء على التقليد ; كي يلزم ملاحظة معنى التقليد أوّلا ، وعنوان البقاء ثانياً ، بل هذه العبارة واقعة في كلمات الفقهاء رضوان الله تعالى عليهم أجمعين . واللازم ملاحظة الأدلّة الدالّة على الجواز ليظهر أنّها هل تدلّ على اشتراط الجواز بالعمل في حال الحياة أم لا؟
فنقول : أ مّا استصحاب الحجّية ، فمقتضاه بقاء فتوى الميّت على وصف الحجّية الراجعة إلى التنجيز والتعذير بعد موته ، فالموضوع هو رأي المجتهد وفتواه ، ولا نظر له إلى حال المكلّف الذي قلّده من جهة العمل على طبق فتواه وعدمه ، كما هو واضح .
وأمّا الإطلاقات ، فهي أيضاً كذلك ; لأنّ الملاك في وجوب الحذر هو إنذار المنذر الحيّ ، وفي وجوب ترتيب الأثر هو كون المسؤول أهل الذكر من دون مدخليّة لعمل المكلّف في ذلك أصلا .
وهكذا السيرة العقلائيّة التي هي العمدة في أصل مسألة التقليد ; فإنّ عدم مدخليّة العمل عند العقلاء في ترتيب الأثر على قول العالم بعد الرجوع إليه واضح لا ريب فيه .
فانقدح أنّ العمل لا دخل له في جواز البقاء . نعم ، بناءً على كون التقليد عبارة عن العمل لابدّ من تحقّق العمل في الجملة ولو ببعض المسائل ، فيجوز له حينئذ البقاء بالإضافة إلى جميع المسائل ولو فيما لم يعمل بها ; وذلك لئلاّ يلزم التقليد الابتدائي الذي قام الدليل على عدم جوازه ، فالفرق حينئذ بين مدخليّة العمل في معنى التقليد وعدمها يظهر في جواز البقاء على الثاني مطلقاً ـ ولو لم يعمل على طبق فتوى الميّت أصلا ، فلا يجب عليه العدول إلى المجتهد الحيّ ـ وعدم جواز البقاء إلاّ
(الصفحة 217)
على تقدير العمل ببعض المسائل ، فيجوز له البقاء ولو بالنسبة إلى ما لم يعمل بها ، وفي غير هذا التقدير يجب عليه العدول إلى الحيّ ; لأ نّه مع البقاء لا يتحقّق إلاّ التقليد الابتدائي الذي لا يكون جائزاً ، ولذا ذكر في المتن أ نّ جواز البقاء إنّما هو بعد تحقّق التقليد بالعمل ببعض المسائل ، فتأمّل جيّداً .
الثاني : أن يكون المقلّد ذاكراً لفتوى الميّت بعد موته ، بحيث لو نسيها بعد ما أخذها وتعلّمها لم يجز له البقاء ، وقد اختار مدخليّة هذا الأمر في جواز البقاء بعض الأعلام في شرح العروة على ما في تقريراته ، وأفاد في وجهه : أنّه بالنسيان ينعدم أخذه السابق ورجوعه إلى الميّت قبل موته ; لأنّ المقلّد حينئذ إنّما يعلم أنّ الميّت أفتى في مسألة العصير مثلا إمّا بنجاسته ـ على تقدير غليانه ـ أو بطهارته ، وهو كالعلم الإجمالي بأنّ الحكم الواقعي إمّا الحرمة أو الإباحة ليس بمورد للأثر ، بل يحتاج إلى رجوع جديد ، وجواز الرجوع إلى الميّت حينئذ يحتاج إلى دليل ; لأ نّه تقليد ابتدائيّ للميّت ، وقد تحقّق عدم جوازه(1) .
ويرد عليه : أ نّه إن كان المراد بهذا الشرط هو الذُكر في مقابل النسيان ، بحيث كان المقلّد بنفسه ذاكراً ، ومع عدمه لم يجز له البقاء ـ وإن كان الاطّلاع على فتواه ممكناً بالرجوع إلى رسالته العمليّة ، أو سائر مقلّديه الذاكرين لفتواه ـ فلا دليل على اعتباره في جواز البقاء ، وكون النسيان موجباً لأن يصير رجوعه من التقليد الابتدائي ممنوع جدّاً ; فإنّ الذُكر لا دخالة له في عنوان البقاء بوجه ; فإنّ المقلِّد لو نسي فتوى المجتهد في حال حياته ، ثمّ اطّلع عليه وتعلّمه ثانياً ، هل يصير ذلك موجباً لتقليد جديد في تلك الحال ، أم لا يكون هناك إلاّ البقاء على التقليد الأوّلي؟
- (1) التنقيحفي شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 112 .
(الصفحة 218)
فإذا عمل في الحجّ على طبق آرائه ومناسكه ، ثمّ نسيها فأراد الحجّ ثانياً ، فهل يعدّ هذا تقليداً ابتدائيّاً ، أم لا يكون إلاّ بقاءً على التقليد الأوّل ؟
مضافاً إلى ما عرفت ; من أنّ البقاء بعنوانه لا دليل على جوازه ، بل مقتضى الأدلّة بقاء حجّية فتوى الميّت بعد موته ، وجواز الأخذ به لمن كان مقلّداً له في حال الحياة، ولا دلالة لها على اعتبار الذُكر وعدم النسيان بوجه ، وإلى أ نّه لو كان مثل هذا يعدّ تقليداً ابتدائيّاً لم يقم دليل على عدم جواز هذا النحو من التقليد الابتدائي ، فتأمّل .
وإن أريد بالذُكر هو الذُكر في مقابل النسيان ، بحيث لا يكون الاطّلاع على فتواه ممكناً ; لعدم وجود رسالة عمليّة له ، وعدم من كان مطّلعاً على نظره ، فاعتبار هذا المعنى وإن كان مسلّماً إلاّ أ نّه دخيل في إمكان البقاء ، لا في جوازه ; ضرورة أ نّه مع عدمه لا يعقل أن يبقى على تقليد الميّت ، فلا مجال للحكم بأ نّه تقليد ابتدائيّ للميّت ، كما هو واضح .
وأمّا الصورة الثانية : وهي ما إذا علمت المخالفة بين المجتهد الميّت والحيّ في الفتوى والنظر ، فتارة : تكون أعلميّة أحدهما بالإضافة إلى الآخر معلومة ، واُخرى: غير معلومة .
ففي الفرض الأوّل: يجب الرجوع إلى الأعلم الحيّ أو البقاء على تقليد الميّت الأعلم ; لِما عرفت من تعيّن الأعلم للتقليد(1) .
وفي الفرض الثاني : قد يقال : بأ نّه لا يكاد يشكّ في أنّ الفتويين ساقطتان حينئذ عن الاعتبار ; لأنّ الإطلاقات لا تشمل المتعارضين ، فلا حجّية لفتوى
(الصفحة 219)
الميّت ولا الحيّ ، ومعه يتعيّن على المكلّف الاحتياط فيما إذا تمكّن منه ، ومع عدم التمكّن ; إمّا لدوران الأمر بين المحذورين ; وإمّا لعدم سعة الوقت للاحتياط ، كما إذا أفتى أحد المجتهدين بوجوب القصر في مورد ، وأفتى الآخر بوجوب التمام فيه ،
ولم يسع الوقت للجمع بين القصر والإتمام ، فالفتويان أيضاً ساقطتان عن الحجّية ، والوظيفة هو الامتثال الاحتمالي ; وهو العمل على طبق إحداهما مخيّراً ; لأنّ المكّلف إذا لم يتمكّن من الامتثال الجزمي والعلمي الإجمالي في مورد ، يتنزّل العقل
إلى الامتثال الاحتمالي ، كما لا يخفى .
أقول : هذا مبنيّ على عدم كون الحكم في المجتهدين المتساويين في الفضيلة ـ إذا كانا حيّين ـ هو التخيير من حيث التقليد ، أو على اختصاص الدليل على التخيير بما إذا كانا كذلك، فلا يشمل مثل المقام. وأمّا لو قلنا بأنّ الحكم هناك هو التخيير ، وعدم اختصاصه بتلك الصورة ، وشمول دليل التخيير من الإجماع أو السيرة
أو غيرهما لمثل المقام، فلا مجال للرجوع إلى الاحتياط والحكم بوجوب الامتثال العلمي الإجمالي أوّلا ، والتنزّل إلى الامتثال الاحتمالي ثانياً ، خصوصاً مع ملاحظة ما ادّعي من الإجماع على عدم وجوب الاحتياط على المكلّف العامّي، كما مرّ البحث عنه مفصّلا(1).
ثمّ إن عدم العلم بأعلميّة أحدهما يجتمع مع احتمالها في خصوص واحد منهما ، مع أنّك عرفت (2) أ نّه إذا كان واحد منهما على نحو التعيين محتمل الأعلميّة ، يكون مقتضى أصالة التعيين العقليّة الأخذ به .
- (1) في ص119 .
-
(2) في ص138 ـ 139 ، 158 ، 171 ـ 172 .
(الصفحة 220)
بقي في هذه المسألة ـ وهي المسألة الثالثة عشرة ـ فروع لابدّ من التعرّض لها :
أحدها : أ نّه يجوز الرجوع عن تقليد الميّت إلى الحيّ الأعلم ، وذكر في المتن أ نّ الرجوع أحوط ، وتخصيصه جواز الرجوع بما إذا كان المجتهد الحيّ أعلم ، إنّما هو مبنيّ على حكمه بعدم جواز العدول إلى المساوي احتياطاً ، كما أنّ احتياطه بالرجوع إلى الحيّ الأعلم مبنيّ على عدم تعيّن الأعلم للتقليد ، وأنّ لزوم تقليده إنّما هو من باب حكم العقل بالاحتياط في موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير في باب الحجّية .
وقد تقدّم (1) أ نّ مقتضى التحقيق جواز العدول إلى المساوي ، فيجوز
له الرجوع عن الميّت إلى الحيّ المساوي ، وتقدّم أيضاً تعيّن الأعلم للتقليد لقيام الدليل عليه(2) . وعليه : فيجب العدول إلى الحيّ الأعلم .
وقد مرّ منّا الإشكال على سيّدنا العلاّمة الاُستاذ ـ دام ظلّه(3) ـ بأ نّه إذا كان عدم جواز العدول مبتنياً على الاحتياط العقلي ، والحكم بلزوم تقليد الأعلم أيضاً مبتنياً عليه ، فعند دوران الأمر بينهما لا ترجيح لاختيار الأعلم ، ولا مجال للحكم بلزوم تقليده كذلك والعدول إليه ، بل مقتضى ما أفاده مجرّد الجواز ، وتخيير المكلّف بين العدول والرجوع وبين البقاء ، كما لا يخفى .
ثانيها : ما أفاده في المتن بقوله : «ولا يجوز بعد ذلك الرجوع إلى فتوى الميّت ثانياً على الأحوط» . والظاهر أنّ مراده ـ دام ظلّه ـ عدم جواز الرجوع إلى فتوى الميّت ثانياً بعد رجوعه إلى الحيّ الأعلم ، والوجه في عدم جواز الرجوع حينئذ واضح ;
- (1) في ص124 ـ 136 .
-
(2) في ص140 ـ 166 .
-
(3) في ص137، 159 ـ 160 .