(الصفحة 221)
لأ نّه من الرجوع عن الأعلم إلى غيره . وبعبارة اُخرى : بعدما كان الرجوع إليه واجباً ولو احتياطاً كيف يجوز العدول عنه إلى الميّت مع كونه مفضولا ؟ خصوصاً مع ملاحظة أ نّه لا يجوز العدول إلى المساوي أيضاً عند الماتن دام ظلّه ، ومقتضى ما ذكرنا أنّ عدم الجواز يكون بنحو الفتوى ، لا على سبيل الاحتياط اللزومي .
هذا ، وقد عنون في العروة هذا الفرع بقوله : إذا عدل عن الميّت إلى الحيّ لا يجوز له العدول إلى الميّت(1) .
وقد حمل بعض الأعلام في شرحها ـ على ما في تقريراته هذه العبارة على موردين ; لدعوى اختصاص صحّة العدول بهما ـ حيث قال : إنّ صحّة العدول إنّما تكون في موردين :
أحدهما : فيما إذا كان الحيّ أعلم من الميّت .
وثانيهما : فيما إذا كان الميّت أعلم إلاّ أنّ المكلّف نسي فتواه ، إذ معه لا مسوّغ للبقاء على تقليد الميّت ـ والمفروض أنّ عدوله إلى الحيّ صحيح ، ومع فرض صحّة العدول لا مجوّز بوجه للعدول عنه إلى تقليد الميّت(2) .
أقول : لا ينبغي الإشكال في عدم كون المراد بالعبارة هذين الموردين ، بل المراد هي الصورة التي يكون المقلّد مخيّراً في البقاء وعدمه ، وهو فيما إذا كانا متساويين في الفضيلة والعلم ; سواء علمت المخالفة بينهما في الفتوى أم لم تعلم . غاية الأمر أ نّه لابدّ من البحث والتكلّم حينئذ في الجواز وعدمه .
فنقول : الوجه في الجواز هو استصحاب التخيير الثابت قبل الرجوع عن الميّت ;
- (1) العروة الوثقى : 1 / 7 مسألة 10 .
-
(2) التنقيحفي شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 118 .
(الصفحة 222)
بمعنى أنّ المقلّد كان يجوز له اختيار فتوى المجتهد الحيّ الذي وقع الكلام في جواز العدول عنه، كماكان يجوزله اختيارفتوى المجتهد الميّت ، فهو كان مخيّراً بين الأمرين، وله الأخذ بكلّ واحدة من الفتويين، والآن كما كان بمقتضى دليل الاستصحاب.
والوجه في عدم الجواز ـ مضافاً إلى أصالة الاحتياط ; لكون المورد من قبيل الدوران بين التعيين والتخيير .
والإيراد عليه بأ نّه لا مجال لها ، إذ كما يحتمل وجوب البقاء على تقليد الميّت ، يحتمل وجوب العدول عنه ، فاحتمال التعيين موجود في كلّ من الطرفين ، كما يحتمل أيضاً التخيير ، وفي مثله يجب البناء على التخيير بعد قيام الإجماع على عدم وجوب الاحتياط على العامّي(1) حتّى أحوط القولين المتعيّن في نظر العقل لولا الإجماع المذكور .
مندفع بأ نّه لا منشأ لاحتمال وجوب العدول عن الميّت ، بعد ملاحظة كون المفروض صورة تساوي المجتهدين في الفضيلة ، وكون البقاء على تقليد الميّت جائزاً بمقتضى الاستصحاب ، أو غيره من الأدلّة ، فمع لحاظ هذين الأمرين لا مجال لاحتمال وجوب العدول وتعيّن المجتهد الحيّ ، فالمورد من قبيل الدوران بين التعيين والتخيير الذي يحكم العقل فيه بأصالة التعيين .
كما أنّ الإيراد عليه بأ نّه لو فرضنا تساوي الميّت والحيّ مع العلم بالمخالفة بينهما ، يكون مقتضى القاعدة سقوط فتوائيهما عن الاعتبار ; للمعارضة ، ولا يبقى معه الدوران بين التعيين والتخيير .
- (1) رسالة في الاجتهاد والتقليد للشيخ الانصاري، ضمن مجموعة رسائل: 48 ـ 49 ، مستمسك العروة الوثقى: 1 / 21 .
(الصفحة 223)
مندفع أيضاً ـ مضافاً إلى أنّ محلّ البحث أعمّ من صورة العلم بالمخالفة بينهما ; لما عرفت من أنّ مورد البحث صورة تساوي المجتهدين في الفضيلة ; سواء علمت المخالفة أم لم تعلم ـ : بأنّ هذا مبنيّ على ما هو المشهور ، ومقتضى التحقيق من ثبوت التخيير في مثل هذا المورد ، وعدم سقوط كلتا الفتويين عن الاعتبار ـ كما تقدّم البحث عنه ـ هو كون العدول عن الحيّ إلى الميّت تقليداً ابتدائيّاً للميّت ، وقد قام الإجماع على عدم الجواز والمنع عنه (1)، اللّهم إلاّ أن يمنع شموله لمثل المقام ، ممّا كان المكلّف مقلِّداً للميّت في برهة من الزمان .
ثمّ إنّه لا يختلف الحكم بعدم جواز العدول عن الحيّ إلى الميّت بالاختلاف في معنى التقليد ، وأنّه هو الالتزام وشبهه ، أو العمل استناداً إلى قول الغير ; لِما ذكرنا من أنّ مبنى عدم جواز العدول هو كونه تقليداً ابتدائيّاً للميّت ، فحمل الحكم بعدم الجواز على مبنى كون التقليد هو الالتزام ، ممّا لا وجه له أصلا .
نعم ، هذا الاختلاف إنّما يثمر في أصل موضوع العدول ، حيث إنّ العدول على تقدير كون التقليد بمعنى الالتزام ، يتحقّق برفع اليد عن الالتزام الأوّل ، والالتزام بالرجوع إلى آخر ثانياً . وأمّا على تقدير كونه بمعنى العمل فهو لا يتحقّق إلاّ بالعمل ، فإذا أفتى أحدهما بوجوب صلاة الجمعة مثلا ، والآخر بحرمتها ، فالعدول عن تقليد القائل بالحرمة إنّما يتحقّق بالإتيان بها استناداً إلى فتوى القائل بالوجوب ، فالاختلاف في معنى التقليد إنّما يثمر في موضوع العدول ، لا في حكمه من الجواز وعدمه ، فتدبّر جيّداً .
- (1) جامع المقاصد: 3 / 491 ، شرح الألفيّة ، والمطبوع مع حياة المحقّق الكركي وآثاره: 7 / 253 ; مسالك الأفهام: 3 / 109 ; رسائل الشهيد الثاني: 1 / 44 ; مستمسك العروة الوثقى: 1 / 22 .
(الصفحة 224)
ثالثها : ما ذكره في المتن بقوله : «ولا إلى حيّ آخر كذلك إلاّ إلى أعلم منه ; فإنّه يجب على الأحوط» ، والمقصود أنّه بعد ما رجع عن الميّت إلى الحيّ لا يجوز له العدول عن الحيّ إلى حيّ آخر احتياطاً ، إلاّ إذا كان أعلم من الحيّ الأوّل ; فإنّه يجب العدول إليه احتياطاً ، وقد ظهر ممّا ذكرنا وجه ما أفاده ، كما أنّه ظهر أنّ المختار جواز العدول في المستثنى منه إذا كانا متساويين ، ووجوبه في المستثنى بنحو الفتوى .
رابعها : أنّه لابدّ وأن يكون البقاء على تقليد الميّت مستنداً إلى فتوى الحيّ الذي يفتي بجواز ذلك ، بحيث لو بقي على تقليد الميّت من دون الرجوع إلى الحيّ كان كمن عمل من غير تقليد ، وهذا إنّما هو فيما إذا احتمل المكلّف العامّي ارتفاع الحجّية عن الفتوى بالموت حتّى يجب عليه الرجوع إلى العالم . وأمّا لو فرض ثبوت القطع له ببقاء الحجّية ، لا يبقى مجال للرجوع إلى الحيّ في ذلك كما هو واضح ، كما أ نّه ربما يكون الحامل له على الرجوع إلى الحيّ فتوى المجتهد الميّت بأ نّه يعتبر في البقاء الرجوع إلى الحيّ ; فإنّه مع ملاحظة هذه الفتوى ، إذا أراد البقاء لابدّ وأن يرجع إلى الحيّ ; لأنّ لازم البقاء على تقليد الميّت في جميع فتاواه ـ التي منها اعتبار الرجوع إلى الحيّ في البقاء ـ الرجوع إلى الحيّ ، وهو ظاهر .
(الصفحة 225)[وجوب العمل بفتوى الحيّ في البقاء على تقليد الميّت]
مسألة14: إذا قلّد مجتهداً ثمّ مات ، فقلّد غيره ثمّ مات ، فقلّد في مسألة البقاء على تقليد الميّت من يقول بوجوب البقاء أو جوازه، فهل يبقى على تقليد المجتهد الأوّل ، أو الثاني؟ الأظهر البقاء على تقليد الأوّل إن كان الثالث قائلا بوجوب البقاء، ويتخيّر بين البقاء على تقليد الثاني ، والرجوع إلى الحيّ إن كان قائلا بجوازه 1.
1 ـ المفروض في هذه المسألة ما إذا لم يكن المجتهد الثاني ـ الذي قلّده بعد موت الأوّل ـ قائلا بوجوب البقاء على تقليد الميّت ; لأنّ الظاهر أنّ المراد من تقليده إيّاه هو تقليده في جميع المسائل ، لا خصوص مسألة البقاء على تقليد الميّت ، والقول بعدم وجوب البقاء وإن كان يجتمع مع القول بحرمة البقاء ، إلاّ أنّ الظاهر أنّ المراد غير هذه الصورة ، فينحصر في القول بالجواز .
وجه الظهور : أنّ الظاهر كون المراد من تقليد الثاني هو تقليده اختياراً ، بحيث كان للمكلّف العامّي الرجوع إليه وتقليده ، وكان له البقاء على تقليد الأوّل ، وقد اختار المقلّد الشقّ الأوّل ، فالمفروض في العبارة ظاهراً هو : ما إذا كان الثاني قائلا في مسألة البقاء بجوازه ، ولكنّه لا مانع من توسعة دائرة البحث والتكلّم فيما إذا كان قائلا بالحرمة أيضاً ، فهنا فرضان :
الفرض الأوّل : ما إذاكان المجتهد الثاني قائلا بجواز البقاء ، واختار المكلّف عدمه والرجوع إلى الحيّ في سائر المسائل، وقد مرّ أ نّه المقصود من العبارة، وفيه صورتان: