(الصفحة 238)
السيرة على إعطاء هذه المناصب من القضاة ، مندفعة بأنّ السيرة على ذلك غير ثابتة ، وأنّ المقدار الثابت أنّ القضاة لهم نصب القيّم والمتولّي حال حياتهم ، وأمّا أنّ لهم النصب إلى الأبد الباقي بعد الموت فلا ، ولا مجال للتمسّك بالاستصحاب بعد كونه من الاستصحابات الجارية في الشبهات الحكميّة غير الجارية عندنا ، وعلى تقدير جريانها أيضاً لا يجري في المقام ; لعدم إحراز الموضوع بعد احتمال أن تكون ولاية القيّم ، أو المتولّي من آثار ولاية القاضي وشؤونها(1) .
ولكنّ الظاهر ـ كما يأتي في محلّه ـ ثبوت الولاية المطلقة للفقيه في عصر الغيبة ، وأنّه يتمكّن من نصب المتولّي والقيّم كما يتمكّن الإمام(عليه السلام) من نصبهما ، ويؤيّده
جريان السيرة على إعطاء هذه المناصب ، وبقائها بعد موت الناصب ، بل قد عرفت من الإيضاح دعوى عدم الخلاف فيه ، ولا تصل النوبة إلى الاستصحاب ، مع أنّه على تقدير وصولها إليه لا مجال للإشكال في جريانه ; لجريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة أوّلا ; وعدم الإشكال من ناحية إحراز الموضوع ثانياً ; لأنّ احتمال كون ولاية القيِّم أو المتولّي من آثار ولاية القاضي وشؤونها ، لا يرجع إلاّ إلى احتمال البقاء والعدم ، وإلاّ فالموضوع هو الشخص المنصوب الذي بقاؤه محرز بالوجدان ، فلا وجه للإشكال في الاستصحاب أصلا .
وقد انقدح ممّا ذكرنا أ نّه كما لا ينعزل القيّم أو المتولّي بموت المجتهد فيما إذا كان منصوباً على النحو الثاني المذكور في كلام صاحب الجواهر(قدس سره) ، كذلك لا ينعزل فيما إذا كان منصوباً على النحو الأوّل أيضاً ، لا لمجرّد قيام الإجماع عليه على تقديره ، بل لأنّ كون ولايته من شؤون ولاية القاضي الجاعل لا تلازم الانعزال بالموت ;
- (1) التنقيحفي شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 379 ـ 381 .
(الصفحة 239)
لاحتمال عدم كون نيابته عنه من قبيل نيابة الوكيل ، التي تبطل بموت الموكّل
إجماعاً(1) وقاعدةً ، بل من قبيل نيابة الوصي غير الباطلة بموت الموصي .
فمجرّد النيابة والتبعيّة لا تلازم الانعزال بالموت ، ولكنّ الاحتياط المذكور في المتن لا ينبغي تركه .
- (1) مفتاح الكرامة : 7 / 612 ، جواهر الكلام : 27 / 360 .
(الصفحة 240)
[صحّة الأعمال السابقة في صورة اختلاف المجتهد الحيّ مع الميّت]
مسألة16: إذا عمل عملا ـ من عبادة ، أو عقد ، أو إيقاع ـ على طبق فتوى من يقلِّده ، فمات ذلك المجتهد فقلّد من يقول ببطلانه ، يجوز له البناء على صحّة الأعمال السابقة، ولا يجب عليه إعادتها وإن وجب عليه فيما يأتي ، العمل بمقتضى فتوى المجتهد الثاني 1 .
1 ـ وفي العروة بعد حكمه بمثل ما في المتن قال : وأمّا إذا قلّد من يقول بطهارة شيء كالغسالة ، ثمّ مات وقلّد من يقول بنجاسته ، فالصلوات والأعمال السابقة محكومة بالصحّة وإن كانت مع استعمال ذلك الشيء . وأمّا نفس ذلك الشيء إذا كان باقياً فلا يحكم بعد ذلك بطهارته . وكذا في الحلّية والحرمة ، فإذا أفتى المجتهد الأوّل بجواز الذبح بغير الحديد مثلا ، فذبح حيواناً كذلك فمات المجتهد وقلّد من يقول بحرمته ، فإن باعه أو أكله حكم بصحّة البيع وإباحة الأكل ، وأمّا إذا كان الحيوان المذبوح موجوداً فلا يجوز بيعه ولا أكله ، وهكذا(1) .
أقول : الحكم في المسألة بعدم وجوب الإعادة في العبادات وصحّة المعاملات الواقعة على طبق فتوى المجتهد الأوّل وحلِّية أكل الذبيحة وبيعها ، مبنيّ على مبحث الإجزاء ، الذي وقع البحث فيه مفصّلا في الأُصول ، وقد اختلف فيه على أقوال مختلفة . ولكنّ الذي ينبغي التعرّض له هنا خروج بعض فروض المسألة عن النزاع في باب الإجزاء ، كالاكتفاء بالتسبيحات الأربع مرّة واحدة ; فإنّ مثل ذلك من
- (1) العروة الوثقى : 1 / 15 مسألة 53 .
(الصفحة 241)
الأجزاء والشرائط غير الركنيّة لا يكون الإخلال به موجباً للإعادة ولو كان العمل مخالفاً للواقع قطعاً ، فضلا عن مثل المقام .
وذلك لاقتضاء حديث «لا تعاد»(1) عدم وجوب الإعادة إلاّ من ناحية الخمسة المستثناة فيه ; وهي الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود ، وقد حقّقنا في محلّه عدم اختصاص الحديث بالناسي وشموله للجاهل القاصر ، بل المقصّر (2).
كما أ نّه ربما يقال بأ نّه لا فرق بين مثال الغُسالة ومثال الحيوان المذبوح الموجود ، وبين الزوجة المعقود عليها بالفارسيّة ، التي تبقى على الحلِّية بعد العدول إلى الثاني الذي لا يرى جواز العقد بالفارسيّة ، نظراً إلى أنّ طهارة الماء من آثار عدم انفعاله بملاقاة النجاسة في مقام التطهير ، والملاقاة لـمّا كانت سابقة كانت مورداً لتقليد الأوّل لا الثاني ، وكذا الحال في حلِّية لحم الحيوان المذبوح بغير الحديد ; فإنّها من آثار تذكيته بغير الحديد ، وهي واقعة في السابق ، والمرجع فيها فتوى الأوّل وتترتّب عليه أحكامها ، فلا فرق بين مثال الزوجة والمثالين .
والمعيار أنّ الأثر الثابت حال تقليد الثاني ، إن كان من آثار السبب الواقع في حال تقليد الأوّل ، فالعمل فيه على تقليد الأوّل ، وإن كان من آثار أمر حاصل حين تقليد الثاني ، فالعمل فيه عليه لا على تقليد الأوّل . مثلا لو كان عنده مسكر فأفتى الأوّل بطهارته فرتّب عليه أحكام الطهارة ، ثمّ مات فقلّد من يقول بنجاسته ،
وجب عليه اجتنابه ; لأنّ الحكم المذكور من آثار ذاته الحاضرة ، بخلاف الأمثلة المذكورة .
- (1) الفقيه : 1 / 181 ح857 ، وعنه وسائل الشيعة : 4 / 312 ، كتاب الصلاة ، أبواب القبلة ب9 ح1 .
-
(2) تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب الطهارة، النجاسات وأحكامها: 342 ـ 345 ، سيرى كامل در اصول فقه: 13 / 45 ـ 57 .
(الصفحة 242)
بقي في هذا المقام شيء ينبغي التنبيه عليه ; وهو أنّ ظاهر الماتن ـ دام ظلّه ـ هنا ، وفي المسألة الخامسة والعشرين الآتية ـ إن شاء الله تعالى ـ أنّ الحكم بصحّة الأعمال السابقة إنّما هو لأجل وقوعها مع التقليد ، الذي تكون صحّته مقطوعة
أو محرزة بأصالة الصحّة . ولازم ذلك أ نّه إذا كانت الأعمال السابقة المطابقة للمرجع في ذلك الزمان واقعة ، لا عن تقليد رأساً ـ عمداً أو غفلة ـ لا مجال حينئذ للحكم بصحّتها ، ففي الحقيقة صحّة الأعمال السابقة من آثار صحّة التقليد ، ووقوعها مستندة إلى فتوى المجتهد ، مع أنّك ستعرف فيما يأتي(1) ـ إن شاء الله تعالى ـ أنّ صحّة التقليد لا يترتّب عليها أثر إلاّ في مسألة العدول ومسألة البقاء .
وأمّا من ناحية الأعمال والحكم بصحّتها فلا أثر للتقليد في ذلك ، بل الملاك هي المطابقة للواقع أو لفتوى المجتهد ، وقد صرّح الماتن ـ دام ظلّه ـ بذلك في المسألة الثانية المتقدّمة .
نعم ،وقع الاختلاف في أنّ الملاك في الصحّة هل هي المطابقة لفتوى المجتهد الذي كان يجب عليه الرجوع حال العمل ، أو لفتوى المجتهد الذي يريد الرجوع إليه حال الالتفات أو الندامة ؟ وسيأتي ما هو التحقيق في ذلك إن شاء الله تعالى(2) ، فانتظر .
- (1) في ص297 .
-
(2) في ص265 ـ 269 .