(الصفحة 268)
فواضح أنّ الإعادة ليست من المسائل التقليديّة التي كان الواجب فيها الرجوع إلى الفقيه .
وإن كان المراد أنّ الطريق إلى الأحكام الواقعيّة التي لا تتغيّر عمّا هي عليه بقيام الأمارة على خلافها منحصر بالفعل في فتوى المجتهد الثاني ، التي لا تختصّ ما تتضمّنه بوقت دون وقت ، فالجواب أنّ الطريق الفعلي وإن كان منحصراً بذلك ، إلاّ أنّ الطريق في حال وقوع العمل كان موجوداً ; وهو فتوى المجتهد الأوّل ، ومجرّد عدم تحقّق التقليد منه في ذلك الزمان ، وعدم الاستناد إلى فتواه فيه لا يوجب عدم الاتّصاف بالصحّة ، إلاّ أن يقال بأ نّه على فرض التقليد أيضاً يكون اللازم عليه رعاية فتوى المجتهد الثاني ، وقد تقدّم بطلانه في المسألة السادسة عشر المتقدّمة .
وبالجملة : فأيّ فرق في اتّصاف العمل بوقوعه صحيحاً وعدمه ، بين أن يكون معنوناً بعنوان التقليد ومستنداً إلى فتوى المجتهد ، وبين أن لا يكون ; فإنّ التقليد لايكون من شرائط صحّة العمل ، ووجوبه ـ أي وجوب التقليد ـ بأيّ نحو كان ـ مقدّمياً أو نفسيّاً أو طريقيّاً ـ لا يقتضي أن تكون المخالفة معه موجبة للبطلان ; لوضوح عدم كونه وجوباً شرطيّاً مرجعه إلى مدخليّة متعلّقه في صحّة العمل ، وما ذكرنا من كفاية المطابقة لفتوى المجتهد الأوّل في اتّصاف العمل بالصحّة لا يوجب أن تكون حجّية الفتوى واعتبارها من باب السببيّة ، بل على تقدير كونها من باب الطريقيّة ـ كما هو الحقّ ـ تكفي المطابقة لها ، بل هي الملاك في الصحّة وعدمها ، كما اختاره المحقّق الاصفهاني(قدس سره) ، حيث قال :
إنّ الفتوى حجّة على العامّي ومنجّزة لتكاليفه من حين وجوب رجوعه إلى ذلك المفتي ، فتؤثّر في الوقائع المتجدّدة والأعمال المستقبلة . ووجوب القضاء وعدمه هنا وإن كان مربوطاً بالأعمال المستقبلة ، لكنّه فرع بطلان العمل وصحّته
(الصفحة 269)
المنوطين بنظر من كانت وظيفة العامّي الرجوع إليه والأخذ منه ، وهو أعلم عصره حال العمل دون هذا المفتي ، بل ربما لا وجود له في تلك الحال ، أو لم يكن بمجتهد ،
أو كان مفضولا بالإضافة إلى غيره(1) .
فانقدح ممّا ذكرنا أنّ الملاك في الصحّة وعدمها ولزوم الإعادة وعدمه هي المطابقة لخصوص فتوى المجتهد ، الذي كان يجب الرجوع إليه حال العمل ، فتدبّر .
- (1) بحوث في الاُصول ، الاجتهاد والتقليد : 188 .
(الصفحة 270)[طرق ثبوت فتوى المجتهد]
مسألة21: كيفيّة أخذ المسائل من المجتهد على أنحاء ثلاثة: أحدها: السماع منه. الثاني : نقل العدلين أو عدل واحد عنه أو عن رسالته المأمونة من الغلط، بل الظاهر كفاية نقل شخص واحد إذا كان ثقة يُطمَأنّ بقوله. الثالث: الرجوع إلى رسالته إذا كانت مأمونة من الغلط 1.
1 ـ ذكر الماتن ـ دام ظلّه ـ أنّ العلم بفتوى المجتهد والاطّلاع على رأيه يحصل بأحد أُمور ثلاثة :
أحدها : أن يسمع منه شفاهاً ; سواء أفاد قوله العلم أم لا ، نظراً إلى حجّية ظاهر الكلام عند العقلاء من دون اختصاص بما إذا أفاد الظنّ الشخصي بالمراد ، أو بما إذا لم يكن هناك ظنّ شخصيّ بالخلاف ، أو بخصوص من قصد إفهامه ; لِما حقّق في محلّه(1) من أنّ ظاهر الكلام حجّة عقلائيّة مطلقاً مع تشخيص الصغرى وإحراز الظهور العرفي . هذا ، مضافاً إلى أ نّه من أوضح مصاديق الإنذار ، والجواب عن السؤال الواجب بمقتضى آية السؤال(2) ، وإلى دلالة الروايات الواردة في الإرجاع إلى أشخاص معيّنين(3) .
ثانيها : إخبار عدلين أو عدل واحد أو ثقة يُطمأنّ بقوله عنه ، أو عن رسالته المأمونة عن الغلط .
أقول : أمّا إخبار عدلين وقيام البيّنة فـممّا لا إشكال في حجّيته في الموضوعات
- (1) سيرى كامل در اصول فقه: 10 / 205 وبعدها .
-
(2) سورة الأنبياء : 21 / 7 .
-
(3) تقدّم ذكرها في ص82 ـ 88 .
(الصفحة 271)
الخارجيّة بأجمعها إلاّ ما قام الدليل على التخصيص فيه ; مثل الزنا ونحوه ،
وقد قدّمنا البحث عن حجّية البيّنة بما لا مزيد عليه(1) .
وأمّا إخبار عدل واحد أو ثقة واحد فالإكتفاء به مبنيّ على حجّية خبر الواحد في الموضوعات الخارجيّة أيضاً ، وقد تكلّمنا في هذه الجهة فيما سبق(2) ، وذكرنا أنّ إقامة الدليل عليها في غاية الإشكال ، وأنّ نفس اعتبار البيّنة وجعل الحجّية لها دليل على أ نّه لا يجوز الاكتفاء بالواحد مقام المتعدّد ، وبالوثاقة مقام العدالة .
نعم ، ربما يقال بأ نّه لا ينبغي التأمّل في حجيّة إخبار الثقة في محلّ الكلام وإن لم نقل باعتباره في الموضوعات الخارجيّة ; لأنّ الإخبار عن الفتوى إخبار عمّا هو من شؤون الأحكام الشرعيّة ; لأ نّه في الحقيقة إخبار عن قول الإمام(عليه السلام) مع الواسطة ، ولا فرق في حجّية خبر الثقة بين أن يتضمّن نقل قول المعصوم(عليه السلام) ابتداءً ، وبين أن يتضمّن نقل الفتوى التي هي إخبار عن قوله(عليه السلام) (3).
ولكنّه غير خفيّ أنّ الإخبار عن الفتوى ليس إخباراً عن الحكم وقول الإمام(عليه السلام)بوجه ; فإنّ الفتوى عبارة عن نظر المجتهد ورأيه ، ولا سيّما مع الإضافة إلى شخص خاصّ ومجتهد مخصوص ، والإخبار عن النظر والرأي لا يكون إخباراً عن قول الإمام(عليه السلام) أصلا ، بل هو إخبار عمّا أدّى إليه نظره ، فعلى تقدير عدم حجّية خبر الثقة في الموضوعات الخارجيّة ـ كما هو المفروض ـ لا مجال لدعوى الاعتبار في خصوص المقام .
نعم ، يبقى الكلام في الفرق بين المقام ، وبين ثبوت الاجتهاد والأعلميّة ; حيث
- (1 ، 2) في ص247 ـ 260 .
-
(3) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد والتقليد: 315 ـ 316 .
(الصفحة 272)
إنّ ظاهر الماتن ـ دام ظلّه ـ هناك عدم ثبوت شيء منهما بشهادة عدل واحد ، فضلا عن الثقة غير العادل ، وصريحه هنا الثبوت بنقل العدل أو الثقة ، فيقع الكلام في
الفرق ; فإنّه إذا كان خبر العدل أو الثقة حجّة في الموضوعات الخارجيّة فَلِمَ لا يكون حجّة في باب الاجتهاد والأعلميّة ؟ وإذا لم يكن حجّة فيها فما الدليل على اعتباره في مفروض المسألة ؟
ودعوى أ نّه قد قيّد اعتبار خبر الثقة بما إذا كان يطمأنّ بقوله ، وقد مرّ(1) أنّ الاطمئنان هو العلم العادي الذي يعامل معه عند العقلاء معاملة العلم ويكون حجّة عقلائيّة ، كما أنّ العلم الحقيقي حجّة عقليّة .
مدفوعة ـ مضافاً إلى أ نّه ليس المراد بالاطمئنان في المقام هو الاطمئنان الشخصي ، بل الظاهر هو حصول الاطمئنان نوعاً ، وإلى أ نّه لو كان المراد هو الاطمئنان الشخصي أيضاً فليس المقصود هو الاطمئنان الذي يعامل معه عند العقلاء معاملة العلم ـ بأ نّه حينئذ يبقى سؤال الفرق بحاله ، فإنّه لِمَ لَمْ يتعرّض لثبوت الاجتهاد والأعلميّة بمثل هذا الاطمئنان مع كون المقصود ثبوتهما به أيضاً ، فتدبر .
والظاهر أنّ محطّ النظر في الفرق بينهما أنّ خبر الواحد على تقدير كونه حجّة في الموضوعات الخارجيّة فإنّما يكون حجّة في خصوص المحسوسات منها ، وأمّا الأُمور الحدسيّة فهي خارجة عن دائرة الاعتبار والحجّية ، وحيث إنّ الاجتهاد والأعلميّة يكونان من الاُمور الحدسيّة ، فلا تكون شهادة العدل الواحد حجّة فيهما فضلا عن الثقة ، وهذا بخلاف نقل الفتوى والنظر ; فإنّه من الأُمور المحسوسة ; لأنّ