(الصفحة 286)
الإشكال التجأ المحقّق الأردبيلي(قدس سره) (1) ومن تبعه(2) إلى الالتزام بالوجوب النفسي ، وأنّ العقاب إنّما هو على ترك التعلّم نفسه ، مع أنّ الأدلّة الدالّة على وجوب التفقّه والتعليم ظاهرة في الوجوب الطريقي ، وأنّ التعلّم مقدّمة لامتثال الأحكام الواقعيّة ، لا أ نّه واجب نفسيّ . وعليه : فلا دليل في شيء من المقدّمات المفوّتة على وجوب تحصيلها قبل مجيء وقت الواجب أو حصول شرطه .
ثمّ قال ما ملخّصه أيضاً : إنّ الصحيح أنّ التعلّم خاصّة ليس كسائر المقدّمات المفوّتة ، وأ نّه أمرٌ واجب ; لإطلاق الأدلّة القائمة على وجوبه . غاية الأمر أنّ وجوبه طريقيّ ، ومعناه أ نّه إذا كان ترك الواجب مستنداً إلى ترك التعلّم استحقّ العقاب عليه لا على ترك التعلّم . وتظهر الثمرة بيننا ، وبين المحقّق الأردبيلي فيما إذا استند ترك الواجب إلى أمر آخر غير ترك التعلّم ; فإنّ المكلّف حينئذ لا يستحقّ العقوبة بناءً على ما ذكرنا ، ويستحقّها بناءً على ما ذكره(قدس سره) (3) .
والتحقيق أنّ التعلّم إذا كان مقدّمة وجوديّة بحيث لم يكن له أيّ قدرة على الإتيان بالمكلّف به بعد فعليّة أمره بتحقّق شرطه أو مجيء وقته ، يجري عليه حكم القدرة ، والحقّ في باب القدرة أنّها لا مدخليّة لها لا في الملاك ولا في الخطاب ; لعدم قيام الدليل عليه ، بل الذي يحكم به العقل أنّ العجز مانع عن تنجّز التكليف وموجب لعدم استحقاق العقوبة على مخالفته ، لا أنّ القدرة شرط .
والدليل عليه : أ نّه لو كانت القدرة شرطاً لكان اللازم مع الشكّ فيها هو
- (1) راجع مجمع الفائدة والبرهان : 2 / 195 ، 212 وج3 / 187 ـ 190 .
-
(2) راجع كشف اللثام : 3 / 418 ـ 419 ، والحدائق الناضرة : 8 / 109 ، ومفتاح الكرامة : 2 / 372 ، وجواهر الكلام : 9/208 ـ 209 و 300 ـ 301 .
-
(3) التنقيحفي شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 293 ـ 297 .
(الصفحة 287)
الرجوع إلى أصالة البراءة عن التكليف كما هو واضح ، مع أنّ الظاهر عدم التزامهم به أصلا ، فلا محيص عن الالتزام بكون العجز مانعاً ، وحينئذ فلابدّ من ملاحظة أنّ هذا النوع من العجز ـ الذي مرجعه إلى إمكان رفعه قبل حصول الشرط ، أو مجيء الوقت ـ هل يكون مانعاً عند العقل عن تنجّز التكليف ، أم لا؟ والظاهر هو العدم .
ضرورة أ نّه لو علم العبد بأ نّه يريد المولى بعد ساعة شرب الماء لرفع العطش وهو لا يقدر على تحصيل الماء في ذلك الزمان ، ولكنّه يقدر على تحصيله في الحال ، لا يكون العجز في ظرف الإرادة والتكليف مانعاً عن توجّه التكليف واستحقاق العقوبة على مخالفته . وعليه : فلا حاجة إلى التمسّك بالأدلّة القائمة على وجوب التفقّه والتعلّم حتى تمكن المناقشة فيه بأ نّه لم يثبت لها إطلاق يشمل ما هو المفروض في المقام ، فتأمّل جيّداً .
(الصفحة 288)[العمل بلا تقليد مدّة]
مسألة24: إذا علم أنّه كان في عباداته بلا تقليد مدّة من الزمان ولم يعلم مقداره، فإن علم بكيفيّتها وموافقتها لفتوى المجتهد الذي رجع إليه ، أو كان له الرجوع إليه فهو، وإلاّ يقضي الأعمال السابقة بمقدار العلم بالاشتغال، وإن كان الأحوط أن يقضيها بمقدار يعلم معه بالبراءة 1.
1 ـ أقول : أمّا من جهة الكيفيّة فقد تقدّم البحث فيها في المسألة العشرين المتقدّمة ولا حاجة إلى الإعادة ، وتقدّم أنّ الملاك في الصحّة هي المطابقة للواقع ، أو الموافقة لفتوى المجتهد الذي كان يجب عليه الرجوع إليه سابقاً ، ولا يكفي المطابقة لفتوى المجتهد الفعلي فقط ، والمستفاد من المتن كفاية المطابقة لإحدى الفتويين ، وقد مرّ الكلام من هذه الجهة في تلك المسألة ، فراجع .
وأمّا من جهة الكمّية التي هي العمدة في هذه المسألة والمقصود منها ، ففيها أقوال ثلاثة :
أحدها : ما اختاره الماتن ـ دام ظلّه ـ من جواز الاكتفاء في قضاء الأعمال السابقة بمقدار يعلم بالاشتغال ; وهو المقدار الذي تيقّن بطلانه بالمخالفة للواقع ، ولفتوى المجتهد الذي وظيفته الرجوع إليه .
ثانيها : القضاء بالمقدار الذي يعلم معه بالبراءة ، ويقطع بفراغ الذمّة بالإتيان بقضاء الموارد المشكوكة أيضاً ، نسب ذلك إلى المحقّق صاحب الحاشية(قدس سره) (1) .
- (1) راجع هداية المسترشدين: 3/559، وحكى عنه في التنقيحفي شرح العروة الوثقى،الاجتهادوالتقليد: 333.
(الصفحة 289)
ثالثها : ما هو المنسوب إلى المشهور(1) من وجوب القضاء بمقدار يظنّ معه بالفراغ .
والدليل على القول الأوّل أمران :
الأمر الأوّل : وهو العمدة ، أنّ المكلّف وإن علم بتنجّز التكليف عليه سنة واحدة مثلا ، وكان الواجب عليه في تلك المدّة الصلاة مع الكيفية الخاصّة التي يشكّ في أ نّه أتى بها بتلك الكيفيّة أم لا ، إلاّ أ نّه عالم بسقوط هذا التكليف في كلّ يوم ; للقطع بامتثاله أو عصيانه ، فسقوط التكليف المعلوم المنجّز معلوم ، وإنّما الشكّ في سببه ، وحيث إنّ القضاء بأمر جديد ، وموضوعه الفوت الذي هو أمر وجوديّ ، ففي الزائد على المقدار الذي يتيقّن بطلانه يشكّ في أصل توجّه التكليف بالقضاء ،
فلا مجرى إلاّ لأصالة البراءة .
نعم ، لو قلنا بأنّ القضاء بالأمر الأوّل ، أو أنّ موضوعه الفوت ، وهو أمر عدميّ يثبت باستصحاب عدم الإتيان بالمأمور به في المدّة الزائدة ، أو قلنا بجريان الأُصول المثبتة ، لكان اللازم الإتيان بالمقدار المشكوك أيضاً ، إمّا لقاعدة الاشتغال ، وإمّا للاستصحاب .
الأمر الثاني : أصالة الصحّة ، نظراً إلى أ نّه يحتمل مصادفته للواقع ، بناءً على جريانها في مثل المقام ممّا كانت صحّة العمل مشكوكة على تقدير الالتفات أيضاً ، وأمّا بناءً على الاختصاص بغير هذه الصورة فلا مورد لها ، وسيأتي التعرّض لذلك في بعض المباحث الآتية إن شاء الله تعالى(2) .
- (1) رياض المسائل : 3 / 19 ، التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد والتقليد: 336 .
-
(2) في ص297 ـ 300 .
(الصفحة 290)
وأمّا الدليل على القول الثاني: ـ فمضافاً إلى ما ظهر من تقرير دليل القول الأوّل من أ نّه لو قلنا بأنّ القضاء بالأمر الأوّل ، أو أنّ موضوعه أمرٌ عدميّ ، أو أمر وجوديّ يثبت بالاستصحاب العدمي ، لكان اللازم نظراً إلى قاعدة الاشتغال
أو الاستصحاب الإتيان بالمقدار المشكوك أيضاً ـ ما هو المحكيّ عن المحقّق المزبور
ممّا حاصله :
أ نّ في موارد دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الاستقلاليين وإن كان مقتضى القاعدة الاقتصار على المقدار المتيقّن ، ودفع احتمال الزائد بأصالة البراءة ، كما في مورد تردّد الدين بين الأقلّ والأكثر ، إلاّ أنّ ذلك فيما إذا تعلّق الشكّ بثبوت تكليف واقعيّ زائداً على المقدار المتيقّن ، كما في المثال المذكور . وأمّا إذا شكّ في وجود تكليف منجّز واصل للمكلّف زائداً على القدر المتيقّن ، فهو مورد للاحتياط ; لأنّ احتمال التكليف المنجّز منجّز ; لأ نّه مساوق لاحتمال الضرر ، ودفع العقاب المحتمل ممّا استقّل العقل بلزومه .
وهذا كما في غالب الفسقة ، فترى أ نّه يوماً يترك الصلاة ويعلم بفوات فرائضه ووجوب قضائها ، ثمّ يتركها في اليوم الثاني كذلك ، وهكذا في اليوم الثالث والرابع إلى مدّة ، ثمّ بعد ذلك يشكّ في أنّ القضاء المتنجّز وجوبه عليه في كلّ يوم ـ بعلمه والتفاته ـ هو الأقلّ أو الأكثر ; فإنّه مورد للاحتياط ; لوجوب دفع العقاب المحتمل لدى العقل ، وهذا بخلاف مثال الدين ; فإنّه لا يعلم فيه أنّ ما أخذه من الدائن ويجب عليه أداؤه ، هو الأقلّ أو الأكثر(1) .
- (1) راجع هداية المسترشدين: 3 / 559، وحكى عنه في التنقيحفي شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 333 .