(الصفحة 291)
وأُورد عليه بوجهين :
أحدهما : أنّ ما أفاده لو تمّ فإنّما يتمّ فيما إذا كان التنجّز سابقاً على زمان الشكّ والتردّد بين الأقلّ والأكثر ، كما في المثال الذي ذكره . وأمّا إذا كان زمان التنجّز متّحداً مع زمان الشكّ والتردّد ؟ كما إذا نام وحينما استيقظ شكّ في أنّ نومه هل استمرّ يوماً واحداً أو أزيد ; فإنّ وجوب القضاء لم يتنجّز عليه إلاّ في زمان الشكّ والتردّد .
والمقام أيضاً من هذا القبيل ; لأنّ المفروض أنّ المكلّف اعتقد صحّة ما أتي به لا عن تقليد ، ولم يعلم أنّ أعماله مخالفة للواقع ليتنجّز عليه قضاؤها ، وإنّما علم بالمخالفة بعد صدورها ، وفي الوقت نفسه يتنجّز عليه وجوب القضاء مردّداً بين الأقلّ والأكثر ، وعلى الجملة : لم يتنجّز عليه وجوب القضاء شيئاً فشيئاً ، وعلى نحو التدريج في كلّ يوم كما في المثال ، وإنّما تنجّز عند العلم بالمخالفة وهو زمان الشكّ والتردّد ، فلا مجرى إلاّ لأصالة البراءة .
ثانيهما : أ نّ ما أفاده لا يرجع إلى محصّل ; لأنّ التنجّز يدور مدار المنجّز حدوثاً وبقاءً ، ومن هنا قلنا بجريان الأُصول في موارد قاعدة اليقين ; لزوال اليقين بالشكّ الساري لا محالة ، وعلى ذلك فالمكلّف فيما مثّل به وإن كان علم بوجوب قضاء الصلوات في اليوم الأوّل ، ولأجله تنجَّز عليه وجوب القضاء ، إلاّ أ نّه عند الشكّ والتردّد بين الأقلّ والأكثر لا علم له بما فاتته من الصلوات ، وإذا زال العلم زال التنجّز لا محالة . ولا يكفي العلم السابق بحدوثه في التنجّز بحسب البقاء ، كما أ نّه في مثال الدين إذا استدان من زيد متعدّداً وتردّد في أ نّه الأقلّ أو الأكثر ، جرت البراءة مع العلم بتنجّز وجوب ردّ الدين حين استلامه من الدائن .
وبالجملة : الشكّ في المقام من الشكّ في أصل ثبوت التكليف الزائد ، فتجري فيه
(الصفحة 292)
البراءة الشرعيّة والعقليّة(1) .
ويرد على الوجه الأوّل : أ نّه لا ملائمة بين هذا الكلام ، وبين ما جعله المُورِد محلّ النقض والإبرام في المقام ، حيث قال قبل الورود في ذكر أدلّة الأقوال ما ملخّصه :
إنّ محلّ الكلام ـ يعني بين أصحاب هذه الأقوال الثلاثة ـ هو ما إذا علم بتنجّز التكليف على المكلّف في زمان ، وتردّد بين الأقل والأكثر ، لا ما إذا شكّ في أصل ثبوته ، كما إذا علم أ نّه لم يصلّ من حين بلوغه إلى اليوم ، ولم يدر أ نّه مضى من بلوغه شهر واحد أو شهران . ومثله ما لو نام مدّة فاتته فيها صلوات ، ثمّ انتبه
ولم يدر مقدارها ; يعني لأجل الجهل بمقدار النوم ، وذلك لأ نّه لا خلاف في عدم وجوب القضاء زائداً على القدر المتيقّن في مثل تلك الموارد وأ نّه مورد للبراءة ، من دون فرق بين القول بأنّ القضاء بأمر جديد أو بالأمر الأوّل ، وكذا بين القول بأنّ موضوعه الفوت الذي هو الأمر الوجودي ، أو مجرّد عدم الإتيان بالمأمور به
في وقته(2) .
فإنّ مقتضى هذا الكلام أنّ النزاع في المقام إنّما هو مع العلم بتنجّز التكليف على المكلّف في زمان . وعليه : فلا يبقى مجال للإيراد بنحو الوجه الأوّل ، فتأمّل .
وعلى الوجه الثاني : أنّ تنظير المقام بموارد قاعدة اليقين وقياسه عليها في غير محلّه ; لأ نّه في تلك الموارد يسري الشكّ إلى نفس متعلّق اليقين ، ويزول اليقين بعروض الشكّ لا محالة ، فلا مانع من جريان الأُصول العمليّة بعد تحقّق مجاريها . وأمّا في المقام ، فهو لا يشكّ فعلا في أنّ علمه السابق كان علماً واقعيّاً مطابقاً
- (1) التنقيحفي شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 334 ـ 336 .
-
(2) التنقيحفي شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 331 .
(الصفحة 293)
للواقع ; ضرورة أ نّه في هذا الحال يتيقّن إجمالا بما هو المتعّلق لليقين السابق .
والظاهر أنّ نظير المقام ما إذا علم شيئاً ثمّ نسيه مع الالتفات إلى أ نّه كان عالماً به ، وكان علمه مطابقاً للواقع ، وفي مثل ذلك لا محيص عن العمل على طبق اليقين السابق ورعاية الاحتياط ; للزوم دفع العقاب المحتمل عند العقل ، كما أ نّه في مثال الدين إذا علم بأ نّه كان عالماً به في السابق ، وكان واجباً عليه ردّه ، ثمّ تردّد بين الأقلّ والأكثر ، لا يبعد الالتزام بوجوب الاحتياط ، فتدبّر .
والدليل على القول الثالث المنسوب إلى المشهور : أنّ مثل المقام وإن كان مورداً للبراءة في نفسه ، إلاّ أنّ إجراء البراءة يستلزم كثيراً العلم بالوقوع في مخالفة التكليف الواقعي ، وقد صرّحوا بذلك في جملة من الموارد ـ كما إذا شكّ في الاستطاعة أو في بلوغ المال حدّ النصاب ، أو شكّ في ربحه أو في الزيادة على المؤونة ـ وقالوا : إنّها وإن كانت مورداً للبراءة في نفسها ، إلاّ أنّ إجراءها يستلزم العلم بالمخالفة ، ومقتضى ما ذكر وإن كان هو القضاء في المقام بمقدار يتيقّن معه بالفراغ ، إلاّ أ نّ إيجابه يستلزم العسر والحرج ، فيكفي الظنّ بالفراغ ; لأ نّه أوسط الأُمور وخير الأُمور أوسطها .
وأُورد عليه بوجهين :
أحدهما : أنّ جريان البراءة في تلك الموارد وإن كان يستلزم العلم بالوقوع في مخالفة الواقع ، إلاّ أنّ الكلام في أنّ هذا العلم يحصل لأيّ شخص ، أللمقلّد
أم للمفتي؟ أمّا المقلّد فلا علم له بالوقوع في مخالفة الواقع عند إجراء البراءة ، وإنّما يحتمل المخالفة كما يحتمل الموافقة .
وأمّا المفتي ، فهو وإن كان يحصل له العلم بذلك ،إلاّ أنّ علم المجتهد إجمالا
بمخالفة عمل العامّي للواقع لا يترتّب عليه أثر ; لأ نّه إنّما يفتي بلحاظ وظيفة
(الصفحة 294)
المقلِّد ، بل لو علم علماً تفصيليّاً بوقوع المقلِّد في مخالفة الواقع بتجويز المجتهد لم يترتّب أثر عليه ، كما إذا علم أنّ زيداً مستطيع ، غير أنّ المقلِّد لم يكن عالماً بذلك ; فإنّ له أن يتمسّك بالبراءة .
ثانيهما : أنّه على تقدير كون المقام من موارد الاشتغال دون البراءة لا يكون للاكتفاء بالظنّ وجه صحيح . وكون الاحتياط موجباً للعسر والحرج إنّما يقتضي عدم وجوبه في خصوص ما إذا كان موجباً له ; لأنّ المدار هو الحرج الشخصي دون النوعي ، فإذا لم يكن حرجيّاً ، كما إذا دار أمر الفائت بين صلاتين أو ثلاث ، فيجب عليه الاحتياط حينئذ ; لأ نّه لا حرج على المكلّف في الإتيان بالمحتمل الأكثر ،
فلا وجه للتنزّل من الامتثال اليقيني إلى الظنّي أصلا (1).
والتحقيق في هذا المقام أن يقال : لا ينبغي الإشكال في أنّ القضاء إنّما يحتاج إلى أمر جديد ، ولا معنى لأن يكون بالأمر الأوّل ; فإنّه لو أُريد به أنّ الأمر الأوّل بنفسه يدلّ على وجوب الإتيان بالصلاة مثلا في الوقت ، ومع عدم الإتيان بها في خارج الوقت ، بحيث يكون الأمر الأوّل متعرّضاً لحال كلتا الصورتين ، فمن الواضح عدم ثبوت الأمر بهذه الكيفيّة في مثل الصلاة ; لأنّ الأدلّة الواردة فيها بين ما لا يكون في مقام بيان الوقت أصلا ; كقوله تعالى في مواضع متكثّرة من الكتاب العزيز : {أَقِيمُوا الصَّلَوةَ}(2) ، وبين ما يدلّ على التقييد بالوقت ، مثل قوله تعالى : {أَقِمِ الصَّلَوةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ}(3) .
- (1) التنقيح في شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد: 337 ـ 338 .
-
(2) سورة البقرة : 2/43 ، 82 ، 110 ، وسورة النساء : 4/77 ، وسورة يونس : 10/87 ، وسورة النور : 24/56 ، وسورة الروم : 30/31 ، سورة المزّمل : 73 / 20 .
-
(3) سورة الإسراء : 17 / 78 .
(الصفحة 295)
وإن أُريد به أنّ الأمر الأوّل وإن كان لا يدلّ على أزيد من وجوب الإتيان بالمأمور به في وقته ، إلاّ أنّ مقتضى الجمع بينه ، وبين أدلّة القضاء ، الحكم
بكون القضاء بالأمر الأوّل . فيرد عليه : أنّ المراد بكونه بالأمر الأوّل إن كان
هي دلالة الأمر الأوّل عليه في مقام الإثبات ، بحيث لا تكون حاجة إلى
الأمر الثاني ، فمن الواضح بطلانه ; ضرورة أ نّ الأمر الأوّل لا دلالة له بحسب
مقام الإثبات على أزيد من لزوم الإتيان بالمأمور به في وقته ، كما هو
المفروض .
وإن كان المراد به هو أنّ وجوب الأداء في الوقت بنحو تعدّد المطلوب ، فهو وإن كان صحيحاً ، إلاّ أنّ تعدّد المطلوب أمر ، وكون القضاء محتاجاً إلى أمر جديد أمر آخر ; ضرورة أ نّه لو لم يكن هناك أمرٌ بالقضاء لَما كان يستكشف تعدّد المطلوب ، فلا يلازم هذا المعنى كون القضاء بالأمر الأوّل ، فتأمّل جيّداً .
وقد انقدح من ذلك أ نّه لا معنى لكون القضاء بالأمر الأوّل ، الذي مرجعه إلى عدم الحاجة إلى الأمر الثاني ، كما أنّ الظاهر أنّ المراد من الفوت المأخوذ في موضوع دليل القضاء ، هو مجرّد ترك الواجب في وقته ، وعدم الإتيان بالمأمور به في ظرفه ، ولا يكون أمراً وجوديّاً ملازماً للترك .
وعليه : فمقتضى الاستصحاب عدم الإتيان به فيه، فيتحقّق الفوت الذي هو الموضوع لوجوب القضاء الثابت بالأمر الثاني.
ومع قطع النظر عن هذه الجهة يكون المقام من موارد جريان البراءة ; لعدم العلم بثبوت التكليف بالقضاء أزيد ممّا يعلم ، إذ المفروض أ نّه في حال الاشتغال بالعمل لم يكن ملتفتاً إلى عدم التقليد واحتياج العمل إليه ، بل الالتفات إنّما حصل بعد مضيّ مدّة عمل فيها أعمالا كثيرة ، فيفترق المقام عن مثال الفاسق المذكور في كلام