(الصفحة 293)
للواقع ; ضرورة أ نّه في هذا الحال يتيقّن إجمالا بما هو المتعّلق لليقين السابق .
والظاهر أنّ نظير المقام ما إذا علم شيئاً ثمّ نسيه مع الالتفات إلى أ نّه كان عالماً به ، وكان علمه مطابقاً للواقع ، وفي مثل ذلك لا محيص عن العمل على طبق اليقين السابق ورعاية الاحتياط ; للزوم دفع العقاب المحتمل عند العقل ، كما أ نّه في مثال الدين إذا علم بأ نّه كان عالماً به في السابق ، وكان واجباً عليه ردّه ، ثمّ تردّد بين الأقلّ والأكثر ، لا يبعد الالتزام بوجوب الاحتياط ، فتدبّر .
والدليل على القول الثالث المنسوب إلى المشهور : أنّ مثل المقام وإن كان مورداً للبراءة في نفسه ، إلاّ أنّ إجراء البراءة يستلزم كثيراً العلم بالوقوع في مخالفة التكليف الواقعي ، وقد صرّحوا بذلك في جملة من الموارد ـ كما إذا شكّ في الاستطاعة أو في بلوغ المال حدّ النصاب ، أو شكّ في ربحه أو في الزيادة على المؤونة ـ وقالوا : إنّها وإن كانت مورداً للبراءة في نفسها ، إلاّ أنّ إجراءها يستلزم العلم بالمخالفة ، ومقتضى ما ذكر وإن كان هو القضاء في المقام بمقدار يتيقّن معه بالفراغ ، إلاّ أ نّ إيجابه يستلزم العسر والحرج ، فيكفي الظنّ بالفراغ ; لأ نّه أوسط الأُمور وخير الأُمور أوسطها .
وأُورد عليه بوجهين :
أحدهما : أنّ جريان البراءة في تلك الموارد وإن كان يستلزم العلم بالوقوع في مخالفة الواقع ، إلاّ أنّ الكلام في أنّ هذا العلم يحصل لأيّ شخص ، أللمقلّد
أم للمفتي؟ أمّا المقلّد فلا علم له بالوقوع في مخالفة الواقع عند إجراء البراءة ، وإنّما يحتمل المخالفة كما يحتمل الموافقة .
وأمّا المفتي ، فهو وإن كان يحصل له العلم بذلك ،إلاّ أنّ علم المجتهد إجمالا
بمخالفة عمل العامّي للواقع لا يترتّب عليه أثر ; لأ نّه إنّما يفتي بلحاظ وظيفة
(الصفحة 294)
المقلِّد ، بل لو علم علماً تفصيليّاً بوقوع المقلِّد في مخالفة الواقع بتجويز المجتهد لم يترتّب أثر عليه ، كما إذا علم أنّ زيداً مستطيع ، غير أنّ المقلِّد لم يكن عالماً بذلك ; فإنّ له أن يتمسّك بالبراءة .
ثانيهما : أنّه على تقدير كون المقام من موارد الاشتغال دون البراءة لا يكون للاكتفاء بالظنّ وجه صحيح . وكون الاحتياط موجباً للعسر والحرج إنّما يقتضي عدم وجوبه في خصوص ما إذا كان موجباً له ; لأنّ المدار هو الحرج الشخصي دون النوعي ، فإذا لم يكن حرجيّاً ، كما إذا دار أمر الفائت بين صلاتين أو ثلاث ، فيجب عليه الاحتياط حينئذ ; لأ نّه لا حرج على المكلّف في الإتيان بالمحتمل الأكثر ،
فلا وجه للتنزّل من الامتثال اليقيني إلى الظنّي أصلا (1).
والتحقيق في هذا المقام أن يقال : لا ينبغي الإشكال في أنّ القضاء إنّما يحتاج إلى أمر جديد ، ولا معنى لأن يكون بالأمر الأوّل ; فإنّه لو أُريد به أنّ الأمر الأوّل بنفسه يدلّ على وجوب الإتيان بالصلاة مثلا في الوقت ، ومع عدم الإتيان بها في خارج الوقت ، بحيث يكون الأمر الأوّل متعرّضاً لحال كلتا الصورتين ، فمن الواضح عدم ثبوت الأمر بهذه الكيفيّة في مثل الصلاة ; لأنّ الأدلّة الواردة فيها بين ما لا يكون في مقام بيان الوقت أصلا ; كقوله تعالى في مواضع متكثّرة من الكتاب العزيز : {أَقِيمُوا الصَّلَوةَ}(2) ، وبين ما يدلّ على التقييد بالوقت ، مثل قوله تعالى : {أَقِمِ الصَّلَوةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ}(3) .
- (1) التنقيح في شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد: 337 ـ 338 .
-
(2) سورة البقرة : 2/43 ، 82 ، 110 ، وسورة النساء : 4/77 ، وسورة يونس : 10/87 ، وسورة النور : 24/56 ، وسورة الروم : 30/31 ، سورة المزّمل : 73 / 20 .
-
(3) سورة الإسراء : 17 / 78 .
(الصفحة 295)
وإن أُريد به أنّ الأمر الأوّل وإن كان لا يدلّ على أزيد من وجوب الإتيان بالمأمور به في وقته ، إلاّ أنّ مقتضى الجمع بينه ، وبين أدلّة القضاء ، الحكم
بكون القضاء بالأمر الأوّل . فيرد عليه : أنّ المراد بكونه بالأمر الأوّل إن كان
هي دلالة الأمر الأوّل عليه في مقام الإثبات ، بحيث لا تكون حاجة إلى
الأمر الثاني ، فمن الواضح بطلانه ; ضرورة أ نّ الأمر الأوّل لا دلالة له بحسب
مقام الإثبات على أزيد من لزوم الإتيان بالمأمور به في وقته ، كما هو
المفروض .
وإن كان المراد به هو أنّ وجوب الأداء في الوقت بنحو تعدّد المطلوب ، فهو وإن كان صحيحاً ، إلاّ أنّ تعدّد المطلوب أمر ، وكون القضاء محتاجاً إلى أمر جديد أمر آخر ; ضرورة أ نّه لو لم يكن هناك أمرٌ بالقضاء لَما كان يستكشف تعدّد المطلوب ، فلا يلازم هذا المعنى كون القضاء بالأمر الأوّل ، فتأمّل جيّداً .
وقد انقدح من ذلك أ نّه لا معنى لكون القضاء بالأمر الأوّل ، الذي مرجعه إلى عدم الحاجة إلى الأمر الثاني ، كما أنّ الظاهر أنّ المراد من الفوت المأخوذ في موضوع دليل القضاء ، هو مجرّد ترك الواجب في وقته ، وعدم الإتيان بالمأمور به في ظرفه ، ولا يكون أمراً وجوديّاً ملازماً للترك .
وعليه : فمقتضى الاستصحاب عدم الإتيان به فيه، فيتحقّق الفوت الذي هو الموضوع لوجوب القضاء الثابت بالأمر الثاني.
ومع قطع النظر عن هذه الجهة يكون المقام من موارد جريان البراءة ; لعدم العلم بثبوت التكليف بالقضاء أزيد ممّا يعلم ، إذ المفروض أ نّه في حال الاشتغال بالعمل لم يكن ملتفتاً إلى عدم التقليد واحتياج العمل إليه ، بل الالتفات إنّما حصل بعد مضيّ مدّة عمل فيها أعمالا كثيرة ، فيفترق المقام عن مثال الفاسق المذكور في كلام
(الصفحة 296)
المحقّق صاحب الحاشية.
فالإنصاف أ نّه مع قطع النظر عن الجهة المذكورة يجري في المقام أصالة البراءة عن وجوب إتيان الزائد على القدر المتيقّن .
نعم ، هنا شيء ينبغي الالتفات إليه ; وهو أنّ مجرّد المخالفة لا يكفي في الحكم بلزوم القضاء ، بل لابدّ من ملاحظة فتوى المجتهد الذي تكون وظيفة هذا المقلِّد الرجوع إليه ، وأنّ المخالفة هل تكون بكيفيّة موجبة للقضاء عنده ، أم لا؟ فوجوب القضاء في مورده إنّما هو على تقدير عدم الدليل على صحّة العمل مع اتّصافه بالمخالفة ، والملاك في تشخيص الصحّة هي فتوى المجتهد ، فتأمّل جيّداً .
(الصفحة 297)[الشكّ في صدور العمل عن تقليد صحيح]
مسألة25: إذا كان أعماله السابقة مع التقليد ، ولا يعلم أنّها كانت عن تقليد صحيح أم فاسد ، يبني على الصحّة 1.
1 ـ الكلام في هذه المسألة قد يقع في أصل التقليد الواقع ، وأ نّه هل وقع صحيحاً ، أم لا؟ وقد يقع من جهة الأعمال الّتي وقعت مع التقليد المشكوك صحّته وفساده ، وأ نّه هل تجب الإعادة والقضاء ، أم لا؟
أمّا من الجهة الأُولى : فمنشأ الشك في صحّة التقليد ، إمّا الشكّ في أنّ المجتهد الذي كانت أعماله السابقة مطابقة لآرائه ، هل كان مستجمعاً للشرائط المعتبرة في المرجعيّة من العدالة والاجتهاد وغيرهما؟ وإمّا الشكّ في أ نّه بعد العلم بكونه مستجمعاً لتلك الشرائط ، هل يكون تقليده إيّاه مطابقاً للموازين الشرعيّة؟
أمّا الشكّ في الفرض الأوّل : فالحكم فيه هو وجوب الفحص عن الاستجماع وعدمه ، ولا يكفي العلم السابق به بعد زواله بالشكّ ، والظاهر عدم كونه هو المراد من العبارة ; لأ نّه ـ دام ظلّه ـ تعرّض لهذه الصورة في المسألة السابعة عشر المتقدّمة .
هذا ، مضافاً إلى أنّ نفس صحّة التقليد في هذا الفرض ممّا لا يترتّب عليه أثر أصلا ; لأنّ الأثر المترتّب على الصحّة إنّما هي حرمة العدول عنه إلى غيره ، وجواز البقاء على تقليده بعد فرض موته ، ومن المعلوم أ نّه مع الشكّ في أصل استجماعه للشرائط وعدمه ، لا معنى لحرمة العدول وجواز البقاء كما هو واضح ، فهذا الفرض خارج عن العبارة التي يكون الحكم فيها هو البناء على الصحّة ، الظاهر في البناء