(الصفحة 295)
وإن أُريد به أنّ الأمر الأوّل وإن كان لا يدلّ على أزيد من وجوب الإتيان بالمأمور به في وقته ، إلاّ أنّ مقتضى الجمع بينه ، وبين أدلّة القضاء ، الحكم
بكون القضاء بالأمر الأوّل . فيرد عليه : أنّ المراد بكونه بالأمر الأوّل إن كان
هي دلالة الأمر الأوّل عليه في مقام الإثبات ، بحيث لا تكون حاجة إلى
الأمر الثاني ، فمن الواضح بطلانه ; ضرورة أ نّ الأمر الأوّل لا دلالة له بحسب
مقام الإثبات على أزيد من لزوم الإتيان بالمأمور به في وقته ، كما هو
المفروض .
وإن كان المراد به هو أنّ وجوب الأداء في الوقت بنحو تعدّد المطلوب ، فهو وإن كان صحيحاً ، إلاّ أنّ تعدّد المطلوب أمر ، وكون القضاء محتاجاً إلى أمر جديد أمر آخر ; ضرورة أ نّه لو لم يكن هناك أمرٌ بالقضاء لَما كان يستكشف تعدّد المطلوب ، فلا يلازم هذا المعنى كون القضاء بالأمر الأوّل ، فتأمّل جيّداً .
وقد انقدح من ذلك أ نّه لا معنى لكون القضاء بالأمر الأوّل ، الذي مرجعه إلى عدم الحاجة إلى الأمر الثاني ، كما أنّ الظاهر أنّ المراد من الفوت المأخوذ في موضوع دليل القضاء ، هو مجرّد ترك الواجب في وقته ، وعدم الإتيان بالمأمور به في ظرفه ، ولا يكون أمراً وجوديّاً ملازماً للترك .
وعليه : فمقتضى الاستصحاب عدم الإتيان به فيه، فيتحقّق الفوت الذي هو الموضوع لوجوب القضاء الثابت بالأمر الثاني.
ومع قطع النظر عن هذه الجهة يكون المقام من موارد جريان البراءة ; لعدم العلم بثبوت التكليف بالقضاء أزيد ممّا يعلم ، إذ المفروض أ نّه في حال الاشتغال بالعمل لم يكن ملتفتاً إلى عدم التقليد واحتياج العمل إليه ، بل الالتفات إنّما حصل بعد مضيّ مدّة عمل فيها أعمالا كثيرة ، فيفترق المقام عن مثال الفاسق المذكور في كلام
(الصفحة 296)
المحقّق صاحب الحاشية.
فالإنصاف أ نّه مع قطع النظر عن الجهة المذكورة يجري في المقام أصالة البراءة عن وجوب إتيان الزائد على القدر المتيقّن .
نعم ، هنا شيء ينبغي الالتفات إليه ; وهو أنّ مجرّد المخالفة لا يكفي في الحكم بلزوم القضاء ، بل لابدّ من ملاحظة فتوى المجتهد الذي تكون وظيفة هذا المقلِّد الرجوع إليه ، وأنّ المخالفة هل تكون بكيفيّة موجبة للقضاء عنده ، أم لا؟ فوجوب القضاء في مورده إنّما هو على تقدير عدم الدليل على صحّة العمل مع اتّصافه بالمخالفة ، والملاك في تشخيص الصحّة هي فتوى المجتهد ، فتأمّل جيّداً .
(الصفحة 297)[الشكّ في صدور العمل عن تقليد صحيح]
مسألة25: إذا كان أعماله السابقة مع التقليد ، ولا يعلم أنّها كانت عن تقليد صحيح أم فاسد ، يبني على الصحّة 1.
1 ـ الكلام في هذه المسألة قد يقع في أصل التقليد الواقع ، وأ نّه هل وقع صحيحاً ، أم لا؟ وقد يقع من جهة الأعمال الّتي وقعت مع التقليد المشكوك صحّته وفساده ، وأ نّه هل تجب الإعادة والقضاء ، أم لا؟
أمّا من الجهة الأُولى : فمنشأ الشك في صحّة التقليد ، إمّا الشكّ في أنّ المجتهد الذي كانت أعماله السابقة مطابقة لآرائه ، هل كان مستجمعاً للشرائط المعتبرة في المرجعيّة من العدالة والاجتهاد وغيرهما؟ وإمّا الشكّ في أ نّه بعد العلم بكونه مستجمعاً لتلك الشرائط ، هل يكون تقليده إيّاه مطابقاً للموازين الشرعيّة؟
أمّا الشكّ في الفرض الأوّل : فالحكم فيه هو وجوب الفحص عن الاستجماع وعدمه ، ولا يكفي العلم السابق به بعد زواله بالشكّ ، والظاهر عدم كونه هو المراد من العبارة ; لأ نّه ـ دام ظلّه ـ تعرّض لهذه الصورة في المسألة السابعة عشر المتقدّمة .
هذا ، مضافاً إلى أنّ نفس صحّة التقليد في هذا الفرض ممّا لا يترتّب عليه أثر أصلا ; لأنّ الأثر المترتّب على الصحّة إنّما هي حرمة العدول عنه إلى غيره ، وجواز البقاء على تقليده بعد فرض موته ، ومن المعلوم أ نّه مع الشكّ في أصل استجماعه للشرائط وعدمه ، لا معنى لحرمة العدول وجواز البقاء كما هو واضح ، فهذا الفرض خارج عن العبارة التي يكون الحكم فيها هو البناء على الصحّة ، الظاهر في البناء
(الصفحة 298)
على صحّة التقليد .
وأمّا الشكّ في الفرض الثاني : فهو ممّا لا وجه له ; لأ نّه بعد العلم بكون المجتهد جامعاً للشرائط ، وأنّ أعماله كانت مستندة إلى آرائه ونظراته ، ومطابقة لفتاويه ،
لا معنى للشكّ في صحّة التقليد ; لأنّ الشرائط المعتبرة إنّما تكون معتبرة في المرجع ، والمفروض وجودها ، ولا يعتبر في صحّة التقليد أمرٌ زائد على ذلك ، ولو فرض لزوم الاستناد فالمفروض تحقّقه أيضاً ، فلا يبقى موقع للشكّ في الصحّة أصلا .
وعليه : فيشكل المراد من العبارة ، حيث إنّ ظاهرها الحكم بصحّة التقليد مع الشكّ فيها ، والشكّ في الفرض الأوّل قد تعرّض لحكمه في المسألة المذكورة المتقدّمة ، وفي الفرض الأخير ممّا لا يتصوّر ، فأين يحكم بالبناء على صحّة التقليد .
اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ نظر الماتن ـ دام ظلّه ـ ومن عبّر بمثل هذه العبارة كصاحب العروة(قدس سره) (1) ليس الحكم بصحّة التقليد من جهة ترتّب أثر حرمة العدول ، أو جواز البقاء عليه ، بل صحّته من جهة الحكم بصحّة الأعمال السابقة الواقعة عن تقليد
لا يعلم كونه صحيحاً أم فاسداً ، نظراً إلى ما صرّح به في المسألة السادسة عشر المتقدّمة من أنّ الأعمال السابقة الواقعة عن تقليد صحيح ، لا تجب إعادتها ولاقضاؤها في العبادات ، ولا تكون محكومة بالبطلان في المعاملات ، وإن كان مقتضى التقليد الفعلي بطلانهما .
فالغرض من هذه المسألة هو الحكم بصحّة الأعمال السابقة مع الشكّ في كونها عن تقليد صحيح ، نظراً إلى جريان أصالة الصحّة في التقليد ; فإنّ صحّة التقليد وإن لم يكن يترتّب عليها أثر شرعيّ بنفسه بهذه الملاحظة ، إلاّ أ نّه يكفي في جريان
- (1) العروة الوثقى : 1 / 13 مسألة 41 .
(الصفحة 299)
مسألة26: إذا مضت مدّة من بلوغه وشكّ بعد ذلك في أنّ أعماله كانت عن تقليد صحيح أم لا، يجوز له البناء على الصحّة في أعماله السابقة، وفي اللاحقة يجب عليه التصحيح فعلا 1.
أصالة الصحّة مدخليّة الصحّة في ترتّب الأثر الشرعي وإن لم تكن تمام الموضوع ، فإذا فرض صحّة الأعمال السابقة ـ عبادة كانت أو معاملة ـ مع وقوعها عن تقليد صحيح ، فمع الشكّ في وقوعها عنه تجري أصالة الصحّة في التقليد ويترتّب عليها صحّة تلك الأعمال .
والظاهر أنّ هذا هو المراد من العبارة ، حيث جمع فيها بين فرض الموضوع هي الأعمال السابقة ، وبين الحكم بالبناء على صحّة التقليد ، كما عرفت أ نّه الظاهر من العبارة .
نعم ، يمكن البحث والإشكال في صحّة الأعمال مع صحّة التقليد أيضاً ، وقد مرّ الكلام فيه مفصّلا(1) ، ولكن هذه المسألة بعد فرض كون الحكم في تلك الصورة هي الصحّة . وعليه : فلا وجه للتفكيك بين صحّة التقليد وفساده ، وبين صحّة الأعمال السابقة وبطلانها ، وجعل المدار في الثانية هي المطابقة لخصوص الواقع ، كما صنعه بعض الأعلام في الشرح على العروة(2) ، فتدبّر جيّداً .
1 ـ الظاهر أنّ هذه المسألة هي المسألة المتقدّمة بعينها ، ولا فرق بينهما إلاّ في
أنّ الشكّ هنا يجتمع مع احتمال عدم تحقّق التقليد رأساً ، والمفروض في المسألة المتقدّمة العلم بالتقليد والشكّ في الصحّة، والمقصود من هذه المسألة بيان أنّ البناء
- (1) في ص242 .
-
(2) التنقيحفي شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 339 وما بعدها .