(الصفحة 300)
على الصحّة إنّما يجدي في خصوص الأعمال السابقة ، ولا يكفي ذلك البناء في الحكم بصحّة الأعمال اللاحقة المطابقة لها ، وإن كان بينهما التلازم في الصحّة واقعاً ، بل يجب عليه في الأعمال اللاحقة التصحيح فعلا ; لأنّ أصالة الصحّة الجارية فيما مضى لا تثبت الصحّة فيما يأتي ، نظير قاعدة الفراغ الجارية في الصلاة التي شكّ في وقوعها مع الطهارة مثلا ; فإنّها لا تثبت جواز الدخول في الصلاة الثانية بلا إحراز الطهارة كما هو ظاهر .
(الصفحة 301)[اعتبار العدالة في المفتي والقاضي وطرق ثبوتها]
مسألة 27: يعتبر في المفتي والقاضي العدالة ، وتثبت بشهادة عدلين ، وبالمعاشرة المفيدة للعلم أو الاطمئنان ، وبالشياع المفيد للعلم ، بل تُعرف بُحسن الظاهر ومواظبته على الشرعيّات والطاعات وحضور الجماعات ونحوها ، والظاهر أنّ حسن الظاهر كاشف تعبّدي ولو لم يحصل منه الظنّ أو العلم 1 .
1 ـ أمّا اعتبار العدالة في المفتي ، فقد عرفت الكلام فيه في شرائط من يرجع
إليه للتقليد(1) .
وأمّا اعتباره في القاضي ، فيدلّ عليه ـ مضافاً إلى الإجماع ، وإلى الأولويّة القطعيّة الثابتة للمقام بالإضافة إلى إمام الجماعة والشاهد ; فإنّه إذا اعتبرت العدالة في إمام الجماعة ، مع أ نّه لا يبلغ من الأهمّية منصب الإفتاء والقضاء ، فاعتبارها فيهما بطريق أولى ، وإلى أنّ التحاكم والترافع إلى الفاسق من المصاديق الظاهرة للركون إلى الظلمة المنهيّ عنه في الشريعة المقدّسة ، وإلى أنّ الخصوصيّات التي اعتبرها الشارع في القضاء والقاضي لا تلائم إلاّ مع ثبوت وصف العدالة للقاضي ، كما هو ظاهر لمن تأمّلهاـ روايات :
منها : صحيحة سليمان بن خالد ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : اتّقوا الحكومة ; فإنّ
(الصفحة 302)
الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء ، العادل في المسلمين لنبيّ أو وصيّ نبيّ(1) .
ومنها : صحيحة أبي خديجة قال : بعثني أبو عبدالله(عليه السلام) إلى أصحابنا ، فقال : قل لهم : إيّاكم إذا وقعت بينكم خصومة ، أو تدارى في شيء من الأخذ والعطاء ، أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفسّاق ، اجعلوا بينكم رجلا قد عرف حلالنا وحرامنا ; فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً . وإيّاكم أن يخاصم بعضكم بعضاً
إلى السلطان الجائر(2) .
فإنّ في تعليق النهي عن التحاكم على وصف الفسق إشعاراً بل دلالة على أنّ
الفاسق لا يكون أهلا لذلك .
ثمّ إنّ طريق ثبوت العدالة ما ستعرف مفصّلا إن شاء الله تعالى ، ويأتي(3) أ نّه
قد جعل الشارع لها أمارة موسومة بحسن الظاهر ، وأنّ كاشفيّته لا تختصّ بما إذا أفاد العلم أو الاطمئنان ، بل هو كاشف شرعيّ تعبّديّ ، وأنّ حسن الظاهر قد يحرز من طريق المعاشرة ، وقد يحرز من غير هذا الطريق ، فانتظر .
- (1) الكافي : 7 / 406 ح1 ، الفقيه : 3 / 4 ح7 ، تهذيب الأحكام : 6 / 217 ح511 ، وعنها وسائل الشيعة : 27 / 17 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب3 ح3 .
-
(2) تهذيب الأحكام : 6 / 303 ح846 ، وعنه وسائل الشيعة : 27 / 139 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب11 ح6 .
-
(3) في ص305 ـ 306 و 365 ـ 369 .
(الصفحة 303)[معنى العدالة ومفهومها]
مسألة28: العدالة عبارة عن ملكة راسخة باعثة على ملازمة التقوى ; مِن ترك المحرّمات وفِعل الواجبات.
مسألة29: تزول صفة العدالة حكماً بارتكاب الكبائر أو الإصرار على الصغائر، بل بارتكاب الصغائر على الأحوط، وتعود بالتوبة إذا كانت الملكة المذكورة باقية 1
1 ـ الكلام في هاتين المسألتين يقع في مقامين :
المقام الأوّل : معنى العدالة ومفهومها ، وهي لغة بمعنى الاستواء أو الاستقامة
أو هما معاً ، وقد اختلف الأصحاب ـ رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ـ في بيان المراد من هذه اللفظة الواردة في كلام الشارع والمتشرّعة على أقوال يرجع ظاهرها
إلى خمسة :
أحدها : ما هو المشهور بين العلاّمة(1) ومن تأخّر عنه(2) ، بل نسب إلى المشهور بقول مطلق ، بل إلى العلماء أو الفقهاء أو الموافق والمخالف (3)، من أنّها كيفيّة نفسانيّة راسخة في النفس ، باعثة على ملازمة التقوى ، أو عليها مع المروءة ، وقد وقع الاختلاف بين أصحاب هذا القول من جهة التعبير بلفظ الكيفيّة ، أو الملكة ، أو
- (1) إرشاد الأذهان : 2 / 156 ، مختلف الشيعة : 8 / 501 .
-
(2) ذكرى الشيعة: 4/101 ، التنقيح الرائع: 4 / 289 ، جامع المقاصد : 2 / 372 ، الروضة البهية : 1 / 378 ـ 379 .
-
(3) مجمع الفائدة والبرهان : 2 / 351 و ج 12 / 311 ، مفتاح الكرامة: 3 / 80 ، مصابيح الظلام في شرح مفاتيح الشرائع: 1 / 428 .
(الصفحة 304)
الحالة ، أو الهيئة ، أو أشباه ذلك ، ولكنّ المراد واحد ; وهو الأمر النفسانيّ الباعث على ذلك .
ثانيها : أنّ العدالة عبارة عن مجرّد الاجتناب عن المعاصي ، أو خصوص الكبيرة منها ، وهو الظاهر من محكيّ السرائر ، حيث قال : حدّ العدل هو الذي لا يُخِلّ بواجب ، ولا يرتكب قبيحاً(1) . وعن المحدّث المجلسي(2) والمحقّق السبزواري(قدس سرهما)(3)نسبة هذا القول إلى الأشهر ، ومرجعه إلى أنّ العدالة عبارة عن الاستقامة العمليّة في جادّة الشريعة في أفعاله وتروكه ، من دون اعتبار كون ذلك ناشئاً عن الملكة والحالة النفسانيّة .
والظاهر أنّ المراد بهذا القول هو القول الأوّل ; فإنّ ظاهر عدم الإخلال بالواجب ـ خصوصاً مع التعبير عنه بصيغة المضارع ـ هو أن لا يكون من شأنه الإخلال بالواجب وارتكاب القبيح ، وهو لا يكاد ينطبق إلاّ على الملكة والحالة النفسانيّة ، وبعبارة اُخرى : ليس المراد بعدم الإخلال إلاّ عدمه مطلقاً ولو في الاستقبال ، وهذا لا يكاد يحرز مع عدم الملكة أصلا .
ويؤيّده ما عرفت من أ نّه نسب هذا القول المحدّث المجلسي والمحقّق السبزواري(قدس سرهما) إلى الأشهر ، مع أ نّه لا ريب في أنّ التفسير بالملكة أشهر ، فيدلّ ذلك على أنّ مرادهما من الاجتناب عن المعاصي ، وعدم الإخلال بالواجب ; هو ما يكون ناشئاً عن الملكة ، كما هو ظاهر .
ثالثها : أنّه عبارة عن الاستقامة الفعليّة العمليّة منضمّة إلى الملكة النفسانيّة ،
- (1) السرائر : 1 / 280 .
-
(2) بحار الأنوار : 88 / 25 .
-
(3) كفاية الفقه، المشتهر بـ«كفاية الأحكام» : 1 / 138 .